سنحت لي فرصة لإلقاء خطاب عن الزعيم الباكستاني منذ أيام بدأتها بالاستشهاد بالمؤلف الأمريكي المتخصص بشؤون شبه القارة، ستانلي ولبرت الذي ألف عدة كتب عنها من المهاتما غاندي إلى السيدة أنديرا غاندي. وقد أعجبتني الفقرة الأولى من كتابه عندما أعلن: "قليلون هم الأفراد الذين يغيرون مجرى التاريخ بشكل هام أو خطير، وأقل عدداً منهم الذين يتمكنون من تغيير خريطة العالم، ويكاد ألا يكون هناك من واصل جهده ليقيم دولة كبيرة، إلا أن محمد علي جناح حقق المآثر الثلاثة واحدة تلو الأخرى قبل وفاته بفترة وجيزة. تمكن القائد الأعظم كما سماه المسلمون في الهند التي كانت تخضع للاستعمار البريطاني حتى عام 1947 من خلق دولة باكستان بتقسيم الهند مما دعا ملايين الناس إلى مغادرة مدنهم الأصلية من وإلى الهند وباكستان،ومنهم من مات في الطريق بأعداد لم يشهد لها تاريخ الهجرات مثيلاً في بضعة أسابيع، ولا أحد يعرف على وجه التحديد عدد الذين لاقوا حتفهم في وطنهم الجديد، ربما أضعاف عدد قتلى الهجرة القسرية. قاد جناح مسلمي الهند كما قلت يوماً ما في كتابي عن شبه القارة الموسوم "توابل هندية"، بقوة إرادة لا تقهر، وبدون سلاح أو مال أو حرب باستثناء تهديده باللجوء إلى العمل المباشر إذا ما رفض حزب المؤتمر الهندي الأكبر لأنه كان يقود الشعب الهندوكي الذي يعادل ثلاثة أضعاف المسلمين من سلالة الذين فضلوا البقاء في الهند الأصلية. وكان المؤتمر يعارض التقسيم الذي أيده البريطانيون في النهاية تحت إدارة اللورد مونتباتن آخر الحكام البيض،وهو عم الملكة الحالية إليزابث الذي ذهب ضحية اغتيال الثوار الأيرلنديون له في وطنه بعد أعوام من تركه منصبه عند استقلال شبه القارة، وظل زعماء المؤتمر أمثال المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو وأبوالكلام آزاد المسلم وكافة المسيحيين والسيخ – طائفة مستقلة تلبس العمامة وترسل اللحى – يعارضون مطالب جناح بالتقسيم لإقامة دولة بحكومة إسلامية معتدلة لأنه كان ينادي بنظام يكفل حرية المعتقدات للجميع تحت دستور مدني أشبه بالبريطاني والأمريكي، لذلك حافظ جناح على حرية الدين للمسلمين والهنود والمسيحيين والسيخ والفرس وسواهم في ظل القانون والنظام إذ لم يحظر أي عبادة أو معتقد بعد الاستقلال. فقد كان يرفض الهندوكية في الهند ونادى بالوطن الجديد للمسلمين وسواهم لذلك لم يكن في عرفه أن يفرض رأيه على أحد. ولد جناح في ولاية جزرات وظل يتكلم لغتها السائدة ولا يعرف الأوردية لغة باكستان الرسمية، وعاش في كراتشي العاصمة الاقتصادية حتى أتم المرحلة الثانوية، ومنها سافر إلى لندن للالتحاق بكلية الحقوق ولو أنها لا تحمل لقب الكلية الجامعية رغم أن شهادتها كانت أعلى رتبة يمكن أن يتحلى بها المحامي في الإمبراطورية البريطانية، ولما عاد بالشهادة ظل يتحدث بالإنكليزية حتى وفاته أيضاً في كراتشي بعد عام 1948 وكان أحد أشهر المتحدثين بها ومن أبرز المحامين في البلاد، ولما عرضت عليه سلطات مدينة ممباي حيث استقر به المقام منصب قاضي في محاكمها سأل عن المرتب المرصود فقيل له أنه ألفا روبية التي كانت آنذاك مبلغاً لا يستهان به لموظف غير بريطاني أبيض،لكنه استهان به وقال إنه سيتمكن من تحصيل مبلغ مثله كل يوم لو عمل محامياً، وعندها تضاحك القوم من مبالغته الشديدة، وخلال عامين أو ثلاثة كان يكسب في مرافعاته واستشاراته أكثر من ألفي روبية يومياً واستطاع أن يشتري أرضاً عقارية على جبل ملبارهيل المشرف على ممباي،ويبني قصراً على مساحة قدرها ثلاثةآلاف متر مربع لا يزال قائماً حيث زرته – أي القصر - أكثر من مرة عندما كنت أقضي بعض الوقت في حدائق الجبل الرائعة في الخمسينات. وقد ظل القصر مهجوراً حتى اليوم نظراً للنزاع القائم بين الدولتين. كان جناح بطبيعته زعيماً مطلقاً للمسلمين في شبه القارة، خطيباً مفوهاً بالإنكليزية،مناظراً من الدرجة الأولى وخصماً عنيداً لا تلين له قناة يحاور الإنكليز أو الهندوك أو المسلمين الآخرين الذين اعترضوا على تقسيم الهند،لكن علمه الواسع ونزاهته الأوسع وشعبيته الطاغية كفلت له النجاح المطلوب ليقود ملايين الناس وسط خضم متلاطم من الديانات والمعتقدات السياسية والصراعات المذهبية، ولما ضاق ذات يوم ذرعاً بكل ذلك عاد إلى بريطانيا ليمارس المحاماة أمام محكمة مجلس اللوردات أرفع هيئة قضائية في الإمبراطورية، ويقيم بصفة دائمة في لندن بعدما طلق زوجته الفارسية الأصل راتي التي تزوجها رغم فارق السن الكبير وأنجب منها ابنته دينا التي تقيم في نيويورك والتي أنجبت بدورها أحد أكبر رجال الأعمال في الهند وهو نوسلي واديا مالك مصانع القماش المعروفة باسمها التجاري "ممباي داينج". وبعد عدة سنوات من العمل في لندن سمع سخرية خصمه السياسي نهرو بأن جناح قد انتهى من عالم السياسة الهندية ولم يعد له أثر يذكر، فأمر أخته ورفيقة مشواره السيدة فاطمة بإعداد العدة للعودة إلى قصره في ممباي وإلى المعترك السياسي الذي خاضه بعنفوان شديد ربما جعل نهرو يتندم على تعليقه اللاذع عن نهاية جناح السياسية، الذي سرعان ما خاض جهاداً خطيراً أحياناً ضد الهندوك الذين عارضوا إقامة وطن خاص بالمسلمين بعد سلخ أراض تكفي لإقامة باكستان.. لكن المشكلة ظلت في إصراره على وجوب انتزاع أراض أو ولايات ذات أغلبية مسلمة حسب الخرائط الموجودة أمامه،وأمام الإنكليز والهندوك مما استوجب منحه أجزاء من ولاية البنجاب وولاية البنغال – بنغلاديش حالياً،وهناك كمنت المأساة لأن الفرق بين الطرفين الغربي – حيث تقع العاصمة إسلام أباد – والشرقي حيث الآن بنغلاديش كان ألفاً وخمسمائة كيلومتر من أرض تقع بالكامل داخل الهند التي انفصل عنها واجتزأ منها وطناً جديداً بالرغم من أنوف الهنود، وعلى رأسهم زعيمهم مهاتما غاندي وساعده الأيمن نهرو الذي أصبح رئيساً للوزراء في الهند المستقلة،ذلك الفرق الجغرافي غرس بذرة الانفصال وتقسيم باكستان وظهور الهند كالدولة الكبرى والأقوى والأغنى في شبه القارة، وللأسف الشديد لم يعش جناح سوى عام واحد في باكستان التي خلقها من العدم،ولو طال به العمر سبع سنوات لكانت باكستان حقاً دولة أخرى بإرشاده وقيادته وقوة شكيمته.