ما من شك في أن الوحدة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية قد شكلت أهم الدعائم الصلبة التي مكنت اليمن من كسب الكثير من الرهانات، اكان ذلك على صعيد البناء والتنمية والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، أو على نطاق التأسيس لدولة عصرية استطاعت ان تجد لنفسها مركزاً متقدماً على الخارطة العربية والإقليمية والدولية وأن تتبوأ مكانتها الريادية كجزء أصيل من المكون الجغرافي والسياسي والاقتصادي والأمني لجناحي الجزيرة العربية والخليج والقرن الافريقي. ولا ريب أيضاً في أن اعتزاز الانسان اليمني بهويته الوطنية وانتمائه الحضاري قد مثل السياج القوى الذي تحصنت به المسيرة الوطنية خلال مراحلها المختلفة، حيث كان لتلك المعادلة أثرها البالغ في ترتيب أولويات المشروع الوطني الذي تمخضت عنه الثورة اليمنية سبتمبر واكتوبر وإنجاز أهداف ذلك المشروع وفق رؤية استوعبت تطلعات الواقع وآماله المنشودة في مختلف مناحي الحياة لتتكلل ديمومة هذه الإرادة بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية بالتلازم مع إقرار التعددية السياسية والحزبية وهما المنجزان اللذان وضعا اليمن على طريق المستقبل ووفرا لها المزيد من مناخات الأمن والاستقرار واستكمال مقومات مشروع الدولة الحديثة. وبكل تأكيد فإن تحقيق كل هذه التحولات لم يكن بالأمر الهين أو السهل أو جاء بمحض الصدفة بل كان نتاجاً طبيعياً لعاملين رئيسيين أولهما حنكة وحكمة فخامة الرئيس على عبدالله صالح رئيس الجمهورية الذي يعود له الفضل في إخراج اليمن من دائرة الصراعات والتناحرات إلى فضاءٍ أرحب من الأمن والتنمية والاستقرار. وثانيهما التلاحم الوطني والدور الفاعل الذي اضطلع به الرجال المخلصون من أبناء الشعب اليمني الذين أسهموا في عملية التنوير والارتقاء بالوعي الوطني إلى المستوى المطلوب. وبقدر ما حققته المسيرة الوطنية في اليمن من نجاحات كبرى وتحولات نوعية يرقى بعضها إلى مستوى المعجزات، لم تخلُ خطواتها من المعوقات والمصاعب والنتوءات التي تظهر بين الحين والآخر، حيث توالدت بعض هذه المظاهر الضارة في ظل تراجع الدور الذي ظلت تلعبه النخب السياسية والوطنية والثقافية عن واجباتها في تعميق قيم الولاء الوطني وغرس مضمون الثقافة الوطنية وحقوق وواجبات المواطنة في الواقع الاجتماعي. وليس هذا وحسب بل أن العديد من تلك النخب التي كانت إلى وقت قريب تشكل القدوة أتاحت لولاءاتها الحزبية أن تنحرف بها في اتجاه مغاير لتلك الصورة المثالية التي رسمت عنها، اما بحكم استسلامها لشهواتها الذاتية أو أطماعها الدنيوية أو وقوعها في شرك التعصب الحزبي وانسياقها وراء هوجة المكايدات السياسية والمشاريع التكتيكية والاستقطابية التي يحاول أصحابها إعادة إنتاج بعض الدعاوى المتخلفة والمريضة التي أرهقت ماضينا وتسعى اليوم إلى إرهاق حاضرنا وزرع الأشواك في طريق مستقبلنا. وتبرز بعض ملامح هذه السلبية في المواقف التي تبديها بعض أحزاب المعارضة حيال استحقاقات العملية الديمقراطية ومنها إجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري والقانوني المحدد في يوم السابع والعشرين من ابريل المقبل. والمؤسف حقاً أن هذه الأحزاب التي فرضت قطيعة سياسية بينها وبين الجماهير لا تمتلك مشروعاً وتوجهاً محدداً أو برنامجاً يدفع بها إلى المساهمة، ولو في الحد الأدنى، في تأمين متطلبات العملية الديمقراطية وضمان تطور هذه العملية حيث ظهرت مؤخراً وكأنّ ما يهمها هو إعاقة هذه المسيرة في إصرارٍ عجيب على تأزيم الحياة السياسية. ولا يمكن فصل النزوع إلى تسويد صورة كل ما هو قائم، والاتجاه نحو إثارة الفتن وأعمال التخريب والشغب عن تلك النزعات التي سعت في عامي 93و1994م إلى محاولة الانقلاب على الإنجاز الوحدوي وتبني مشاريع ممانعة موجهة لضرب التجربة الديمقراطية دون إدراك من هذه القوى أن الثابت في الحاضر من المستحيل العودة به من جديد إلى الماضي لأن الماضي صار في متحف التاريخ ومن الصعوبة إعادة عقارب الزمن إلى الوراء. تلك هي الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها بأي حالٍ من الاحوال وعلى أولئك الذين يتعاملون مع مسألة الاصطفاف الوطني من منظور تكتيكي أو مرحلي ان يستوعبوا أن المجتمع اليمني هو حالة متماسكة ومستعصية على التجاذب الحزبي والتناقض المريب بين الولاء للحزب والولاء للوطن. كما أن على هؤلاء أن يفهموا أن التلويح بالمشاريع الانقلابية على الديمقراطية لم تؤثر على تطور هذه العملية وأن من مصلحة أحزابهم التحرر من هيمنة الرؤى الضيقة والتعصب الأعمى الذي لن يكون سوى وبالِ على صاحبه.