يمكن توصيف محددات الممارسة الإعلامية الراهنة من خلال تعريف الوظائف التي يتعيَّن على وسائل الإعلام الحكومية والحزبية والمستقلة القيام بها ومقاربتها بالأهداف الكبرى للحوار الوطني المنشود، وفق المحددات الافتراضية التالية : المساهمة في انجاح مؤتمر الحوار الوطني باعتباره الطريق السلمي للتحرر من الوصاية الدولية واستعادة القرار الوطني المستقل ووضع أسس دستورية جديدة وعصرية لمشروع بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة وموحدة على أسس قابلة للبقاء والاستمرار. بلورة مفاهيم عصرية لتحديد شكل الدولة والنظام السياسي الجديد، وبما يضمن تحقيق المواطنة المتساوية والشراكة في السلطة والثروة وخضوع كافة المواطنين والمواطنات لسلطة الدستور والقانون بدون استثناء أو تمييز. تحسين البيئة الإعلامية المحلية بما يمكنها من الاستجابة لتحديات التحولات الجارية في البيئة الإعلامية العالمية والمتمثلة في تطور أساليب إعداد وتحرير الرسائل الإعلامية الموجهة إلى الجمهور، وظهور أنماط جديدة في تقنيات الاتصال والطباعة والبث والتجهيزات الفنية الرقمية وتراسل النصوص والصور والمعطيات عبر الشبكات. تطوير وتحديث أنماط الإدارة والتنظيم المؤسسي اللازم لتحفيز الإبداع وتعظيمه بما يسهم في تحسين مضامين الرسائل الإعلامية الموجهة إلى الجمهور شكلاً وموضوعاً، وضمان الحقوق المادية والمهنية والفكرية للمبدعين العاملين في مجال الإعلام. المساهمة في دعم وإثراء النظام الإعلامي الوطني بما هو أحد مقوّمات النظام السياسي الديمقراطي التعددي في البلاد. حماية وتطوير العملية الديمقراطية وإثراء التعددية والتنوع في إطار وحدة جاذبة وقابلة للاستمرار. تنمية الوعي السياسي والاجتماعي للمواطنين من خلال المساهمة في تنويع طرق الحصول على المعرفة. تعزيز الشراكة بين الدولة والمجتمع على طريق توسيع قاعدة المشاركة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. المساهمة في بناء ثقافة سياسية جديدة تسهم في ترسيخ قيم الحوار والتعايش والقبول بالآخر ومناهضة الآثار السلبية لرواسب الثقافة الشمولية القائمة على الأحادية والاستبداد والإلغاء والإقصاء. دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومكافحة الفساد والعبث بالمال العام وسوء استخدام الوظيفة العامة وغيرها من الظواهر السلبية التي تؤثر على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والتنمية. تعميق قيم المواطنة المتساوية والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات المدنية ومكافحة مختلف أشكال التمييز ضد المرأة واستغلال الطفولة. دعم وحماية الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الحريات العامة وإحدى مقومات التنمية والرقي والتقدم. دعم وتعزيز وحدة النسيج الوطني والوجدان الإنساني للمجتمع، وحماية وتطوير الثقافة الوطنية باعتبارها إحدى مرتكزات وحدة الوطن أرضاً وإنساناً وتاريخاً. تدعيم القيم الأخلاقية وبناء تقاليد مهنية تسهم في تجسيد الترابط العضوي بين الحرية والمسؤولية وعدم الاعتداء على حرية الآخرين والمساس بكرامتهم الشخصية التي يحميها الدستور والقوانين. المساهمة في الحفاظ على السلم الأهلي ومكافحة الجريمة المنظمة والتصدي لثقافة التعصب والتطرف والإرهاب، ومناهضة الأفكار التي تثير النعرات والانقسامات الطائفية والمذهبية. حماية ودعم حرية التعبير وحرية الحصول على المعلومات وتوسيع قنوات الحوار والنقاش بين مختلف مكوّنات الدولة والمجتمع. مكافحة الأفكار التكفيرية والدعوات الاقصائية التي تتسلل عبر خطاب ديني يحرض على الكراهية ضد أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، ويدعو إلى تحريم الديمقراطية وتكفير الانتخابات وإباحة التمييز ضد النساء وانتهاك حقوق الأطفال الإناث، وتحريم التعددية الحزبية والسياسية، وما سيترتب على هذه الأفكار والدعوات من مخاطر تشويه النظام السياسي، تفكيك وحدة النسيج الوطني والديني لشعبنا. ولدى تحليل واقع الممارسة الإعلامية في البلاد على ضوء هذه المحددات الافتراضية تبرز الإشكاليات التالية : 1- تزايد ظواهر الخلط بين الحرية والفوضى وما يرتبط بها من تشوّهات ومخاطر تهدد تطور العملية الديمقراطية وتلحق الضرر بالوحدة الوطنية والسلم الأهلي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. 2- غلبة الخطاب السياسي والإعلامي القائم على النزعات الانتقامية والمكايدات السياسية والحزبية وتشويه الحقائق والتحريض ضد الآخر. 3- ضعف الطابع المؤسسي لعمل ونشاط وسائل الإعلام الحزبية والمستقلة وما يترتب على ذلك من تأثير سلبي على البيئة الإعلامية المحلية. 4- غياب الحوافز التي تساعد على مأسسة العمل الإعلامي الحزبي والأهلي وحماية حقوق المبدعين وتحديث تقنيات وأساليب إعداد وتحرير وتوصيل الرسائل الإعلامية إلى الجمهور. 5- غلبة الطابع الدكاكيني البسيط على أسلوب عمل وسائل الإعلام الحزبية والأهلية، وتزايد مخاطر تسلل التمويل السياسي الداخلي والخارجي الذي يفقد الممارسة الإعلامية حريتها واستقلاليتها ، ويضعها تحت طائلة الارتهان الداخلي والخارجي. 6- ضعف فعالية وعدم كفاءة الأطر القانونية الراهنة لتنظيم الممارسة الإعلامية سواء من حيث الضوابط والأحكام أو من حيث التطبيق وما يترتب على ذلك من توسيع الفجوة بين الأداء الإعلامي من جهة، والبيئة السياسية الراهنة من جهة أخرى. 7- عجز الأطر القانونية المنظمة لحرية الاعلام عن معالجة الإشكاليات الناجمة عن المخرجات الجديدة في البيئة الإعلامية العالمية وتقنياتها وأدواتها وقيمها، وفي المقدمة منها الإعلام الإليكتروني والفضائي الذي لم يستوعبه قانون الصحافة والمطبوعات عند صدوره. 8- غياب المهنية في أداء بعض وسائل الإعلام الحزبية والمستقلة بسبب هيمنة السياسي على المهني، وغلبة الاستقطابات والتجاذبات الحادة في البيئة السياسية والإعلامية المحلية، وما يترتب على ذلك من نزوع نحو تجويف وتسطيح التعددية الإعلامية، من خلال الإصدارات الصحفية والمواقع الإليكترونية والقنوات الفضائية تحت مسميات مستقلة،وتوظيفها في إطار هذه الاستقطابات والتجاذبات الحزبية والسياسية،وما يترتب على ذلك من زيادة لمفاعيل الفوضىوالمجابهة، وتعطيل لثقافة الحوار، وتوسيع مساحة الانحراف عن التقاليد المهنية والقيم الأخلاقية للعمل الإعلامي. لا تحتاج القراءة الفاحصة لملامح وتناقضات المشهد السياسي والإعلامي الراهن على نحوٍ ما تناولناه في السطور السابقة إلى جهدٍ كبير لإدراك حجم التحديات التي تواجه الخطاب السياسي الإعلامي لوسائل الإعلام الرسمية والحزبية في ضوء الاختلالات والإشكاليات السالف ذكرها. بيد أنّ مواجهة هذه التحديات لا يمكن اختزالها بالبحث عن معالجات فوقية أو شكلية أو مؤقتة للنهوض بالخطاب الإعلامي الرسمي والحزبي وتطوير أدائه وأساليبه ومضامينه في الحالات التي تشهد صراعاً يتجه إلى تأزيم المُناخ السياسي في البلاد. لا نبالغ حين نقول أن الأحزاب السياسية المنضوية في إطار حكومة الوفاق، تلجأ في مغظم الأحيان إلى خيار صناعة وإدارة الأزمات في الظروف التي تجد نفسها بحاجةً إلى إعادة تنظيم قواها وتعظيم مكاسبها، و تجاوز الصدمات التاتجة عن المجابهات اليومية، والاستعداد لجولات أخرى عندما تقترب مواعيدها، دون أن يعني ذلك تراجعاً عن إستراتجيتها الأساسية أو تعديلاً لها، والمتمثلة بتهيئة التربة والمُناخ اللازمين لإنضاج فرص الاستحواذ على السلطة من قبل البعض، وتسويق الاتهامات التي تشكك بنزاهة وأهلية وكفاءة الخصوم السياسيين. بهذا المعنى يمكن القول بأنّ المخرجات السلبية لماكنة الدعاية والتحريض التي تنخرط في تشغيلها منابر اعلامية محسوبة على بعض أو معظم الأحزاب المشاركة في حكومة الوفاق،تلعب دوراً سلبياً لا ينحصر تأثيره في مضاعفة المصاعب والعوائق التي تحول دون تطوير البيئة الإعلامية المحلية، وتأهيلها لمواكبة التحولات الجارية في البيئة الإعلامية العالمية والاستجابة لتحدياتها والانفتاح على قيمها وأدواتها وأساليبها،بل أنّ الآثار السلبية لتلك المخرجات تتجاوز ذلك الى مدى بعيد، من خلال الدور الذي تلعبه في تأزيم الحياة السياسية، والمراهنة على استغلال وتوظيف مصاعب النمو ومشاكل الفقر والبطالة وتداعيات الصراعات السياسية السابقة في سياق لعبة عمياء تنتقل بلاعبيها من موقع الشراكة في التسوية السياسية الى مواقع مفتوحة على كل الاحتمالات، وما يترتب على ذلك من مخاطر مدمرة تهدد حاضر ومستقبل الدولة والمجتمع والوطن. اللافت للنظر أنّ الأحزاب المشاركة في التسوية السياسية تحرصُ على الظهور دائماً في صورة المدافع عن الوحدة والديمقراطية، والمناهض للظلم والاستبداد والفساد. كما تحرص هذه الأحزاب على التظاهر بالانفتاح على المجتمع المدني ووسائل الإعلام الخارجية وسفارات الدول الأجنبية ومنظماتها غير الحكومية التي تنشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وتسويق برامج نشر الديمقراطية في اليمن وبلدان الشرق الأوسط بتمويل وتوجيه مباشرين من حكوماتها !! وفي الاتجاه نفسه تحرصُ هذه الأحزاب على إخفاء تناقضاتها من خلال توزيع الأدوار في ما بينها من جهةٍ، وبين الأجنحة المتصارعة داخل كل حزبٍ أو تكتل على حدة من جهة أخرى، طمعاً في الحصول على مصادر داخلية وخارجية لشرعية حراكها السياسي، والتمويه على أجنداتها القابلة للانكشاف والانفجار فور وصولها إلى السلطة. يوحي تحليل مضمون الخطاب السياسي والإعلامي لهذه الأحزاب، بما في ذلك بيانات هيئاتها القيادية وتصريحات وكتابات ناشطيها الميدانيين، بأنّ هذه الأحزاب تراهن من الناحية الشكلية على استثمار تمددها الميداني داخلياً وخارجياً، من أجل تجديد وتنويع مصادر شرعيتها بعد نقل مركز ثقل نشاطها المعارض من المؤسسات الى الشوارع المفتوحة على كل الاحتمالات و الوسائل والمطالب والمشاريع بكل الاتجاهات المشروعة وغير المشروعة. في الحالة السياسية اليمنية الراهنة لايبدو التخطيط للانقلاب على الديمقراطية هدفاً قريبا للأحزاب والقوى السياسية المشاركة والمتنفذة في حكومة الوفاق، وهو ما يميِّز الخبرة التاريخية لتنظيم الإخوان المسلمين الذي راهن على استخدام كل الوسائل التكتيكية والتحالفات البرغماتية مع النخب السياسية الحاكمة في القصور الملكية والجمهورية، أو المعارضات المحركة للشوارع. وتحت واجهات تخدم هدف الوصول إلى السلطة..فليس خافياً على أحد أنّ الأخوان المسلمين تحالفوا مع القصور الموالية للاستعمار من أجل المشاركة في الحكم، كما تحالفوا مع القوى والأحلاف الاستعمارية ضد أنظمة الحكم التي قادت ثورات وطنية وقومية تحررية من أجل تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية وتحريرالمرتكزات الاقتصادية ومصادرالثروة القوميةمن السيطرة الأجنبية الاستعمارية، الى جانب تحالفهم مع القصور الملكية والجمهورية الحاكمة في بعض الدول العربية على حد سواء، بالاضافة الى انخراطهم في برامج نشرالديمقراطية التي تمولها الولاياتالمتحدة الاميركية ودول الاتحاد الأوروبي، وذلك لضمان تحقيق المشروع السياسي الإستراتيجي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي يرى بأنّ مشروع إعادة نظام الخلافة بما هو مشروع ايديولوجي شمولي ينكر الوطن ويعترف بالأمة فقط لا يمكن تنفيذه من دون الوصول إلى السلطة والانفراد بها لا حقا ً في أي بلدٍ إسلامي. وقد دفع ((الإخوان المسلمون)) أثماناً باهظة نتيجة الوهم المفرط بضرورة (تمكين) هذا المشروع من الوصول الى السلطةوتأميمها لاحقاً،بمختلف الوسائل التكتيكية،وهو مشروع لايخلو من أوهام الطوباويات الثوريةوالاصلاحية القديمة والمعاصرة التي حاولت تغيير العالم في عصور مختلفة من التاريخ القديم والحديث. ولعل ما يحدث هذه الأيام في مصر وتونس من أزمات واحتجاجات واسعة ومستمرة، دليل اضافي على الثمن الذي يدفعه الاخوان المسلمون مقابل هذا الوهم، حيث وجدوا انفسهم في مواجهة جماهير غاضبة يتسع نطاقها يوما بعد يوم، وانقسامات داخلية لم تعد مكشوفة، بينما كانوا بالأمس في مواجهة الأجهزة الأمنية القمعية وسط تعاطف شعبي لا ينكر. ويبقى القول إن الدور الوظيفي للعمليات الاعلامية الجارية في المجتمع يواجه تحديات خطيرة لأن الوضع السياسي الراهن في البلاد مرشح للدخول في أزمات جديدة بفعل تراكم عدد من السلبيات والإشكاليات والأخطاء التي من شأن استمرارها تلغيم مسار الحوار الوطني،بما هو الطريق السلمي للتحرر من الوصاية الدولية واستعادة القرار الوطني المستقل وبناء الدولة المدنية الحديثة، الأمر الذي يتطلب حشد الرأي العام لمساندة مؤتمر الحوار الوطني بوصفه الطريق الوحيد لإعادة إكتشاف المفاعيل الأساسية التي أسهمت في تأزيم البيئة السياسية في بلادنا خلال العقودالخمسة الماضية،وفي مقدمتهاالتأثير المتزايدلرواسب المكونات البنيويةالمشوهة للنظام السياسي الأوليغارشي الذي تعرض للإنكشاف والتشظي بعد ان بلغت ازمته الداخلية ذروتها وتفجرت عام 2011م ،ثم فتحت الطريق بسبب طبيعتها المشوهة لوضع البلاد تحت الوصاية الدولية، ولجوء مختلف اللاعبين السياسيين الى استدعاء التدخل الخارجي والاستقواء به والمراهنة عليه،من أجل تحقيق أكبر قدرمن المكاسب اللازمة لتحسين فرص الفوز في لعبة سياسية داخلية تحدد قواعدها وتتحكم بها قوى خارجية.