كثيرون لم ينتبهوا لثوابت السياسة الخارجية اليمنية في مقاربتهم للموقف الرسمي من المبادرات العربية التي اتخذت على هامش حرب غزة الاخيرة.لقد اعتقد البعض ان صنعاء تقف الى جانب طرف عربي ضد طرف آخر، واعتقد بعض ثان ان صنعاء تراجعت عن دعوتها في بداية الحرب لعقد قمة عربية بسبب حسابات مخفية، واعتقد بعض ثالث ان اليمن تعرضت لضغوط حملتها على تغيير سياستها ونقلها من ضفة الى ضفة أخرى. والاعتقاد خاطىء في الحالات الثلاث، وهو خاطىء بالضبط لانه يهمل ثوابت اساسية في السياسة الخارجية اليمنية. الثابت الأول هو ان صنعاء اختارت - منذ تسلم الرئيس علي عبدالله صالح زمام الامور في البلاد نهجاً سياسيا محايداً في صراع المحاور العربية المتصارعة في القضايا التي يجب ان تحظى باجماع عربي.واذا كان من الطبيعي ان تقف مع الذين وقفوا معها في مشروعها الوطني التوحيدي، وان تتجنب العداء السافر والحاد مع الذين ناهضوا الوحدة ،فإنها ما انخرطت يوما في صراع المحاور عندما يتعلق الامر بالقضية الفلسطينية أو بالحرب الأهلية اللبنانية أو الحرب الاهلية العراقية أو الحرب الاهلية الصومالية.في هذه القضايا كان اليمن محايدا مع الشعوب المعنية ومناهضا بقوة للاحتلال حيثما وجد. والحياد اليمني ليس مستهجنا في هذه المسائل ذلك ان صنعاء عانت طويلا من حروب الاهل والتشطير وبالتالي تعلم علم اليقين معنى الانخراط في دعم هذا الطرف الاهلي واستعداء ذاك.فهي كرهت التدخل الخارجي في شؤونها ومن الطبيعي ان تمتنع عن التدخل في شؤون اشقائها. الثابت الثاني هو ان صنعاء ما كانت يوما محايدة ازاء القضية الفلسطينية بل كانت على الدوام في طليعة الدول التي دعمت وناصرت الفلسطينيين كل الفلسطينيين مع تجنب الاصطفاف مع طرف ضد آخر أو منظمة ضد اخرى.فعلاقتها مع فتح لا تقل أهمية وجودة عن علاقتها مع حماس؛ ولعل هذا الدعم من الموقع المحايد هو الذي اتاح لصنعاء اطلاق العديد من المبادرات لرأب الصدع الفلسطيني، ولو لم تكن محل ثقة من الاطراف الفلسطينية المختلفة لما استجابت الفصائل مرة بعد مرة لمساعي المصالحة اليمنية ،ولمّا التقى في صنعاء في وقت واحد التيار الفلسطيني المقاوم والتيار الماركسي والتيار المفاوض، ومن الجدير ذكره ان مثل هذه اللقاءات نادرا ما تعقد في عاصمة عربية اخرى. والثابت الثالث هو أن الحياد اليمني إزاء سياسة المحاور العربية منح صنعاء هامشا كبيرا للمناورة وعزز دورها الوسيط الذي اختارته طواعية لاصلاح ذات البين في عالم عربي شديد الاضطراب والانقسام والتشرذم. لقد نجحت صنعاء من خلال موقع الوسيط في تنشيط الدورة الدموية لمؤسسة القمة العربية،فكان ان عادت بعد طول غياب للاجتماعات الدورية وساهمت انطلاقاً من موقع الوسيط في التقريب بين الفصائل الصومالية وفي دعم المصالحات الوطنية في العراق ولبنان وفلسطين. الثابت الرابع هو ان الحياد اليمني محصور بالمحاور فقط وهو لم يشكل قيدا في يوم من الايام على حركة الرأي العام اليمني الذي ملأ الشوارع في العاصمة والمحافظات دعما للبنانيين في حرب العام 2006م وللفلسطينيين في حرب غزة وللعراقيين في مقاومة الاحتلال والتدخل الاجنبي.هكذا هو اليمن المحايد والممتنع عن التدخل في الشؤون الداخلية لاشقائه ، هو نفسه اليمن المنحاز بشعبه ودولته إلى جانب الشعوب العربية التي تتعرض للاحتلال والغزو الاجنبي.هكذا هو اليمن المحايد في صراعات الفصائل الصومالية المتنازعة هو نفسه الذي يأوي عشرات الآلاف من اللاجئين الصوماليين الهاربين من الحرب وآلاف اللاجئين العراقيين والفلسطينيين. لا تحتاج اليمن ان تصطف في محور عربي كي تدعم بقوة القضية الفلسطينية وكي تساعد اهالي غزة المحاصرين بل ان تفتح باب التطوع للراغبين من ابنائها في نصرةاخوانهم. اما الحديث عن ضغوط خارجية ادت الى تغيير مزعوم للموقف اليمني فهو ينم عن قلة دراية وخبرة بشؤون القيادة اليمنية وطرق عملها. لقد رفضت هذه القيادة املاءات القوة الاعظم في العالم خلال فترة الحرب على الارهاب ورفضت تسليم مواطنيها للولايات المتحدةالامريكية ولو كانت قمينة بالخضوع للضغوطات لقبلت شروط الاقوياء وضغوطهم وليس شروط وضغوط من هو أقل منهم نفوذا وقوة في العالم. تبقى الاشارة الى ان ثوابت السياسة الخارجية اليمنية ليست مستمدة من المبادىء فحسب ،فهي ايضا متناسبة مع المصالح الوطنية العليا ذلك ان اليمن الموحد والنامي يحتاج الى علاقات اقتصادية جيدة مع كافة اشقائه، واليمن الموحد لا يمكنه ان ينخرط في سياسات الشرذمة والانقسام بين المحاور العربية. واليمن الذي صدرت من ارضه الحكمة لا يمكنه ان ينتهج سياسة غير حكيمة في عالم عربي تكاد بعض قياداته ان تفقد عقلها. إن وقوع المصالحة المبدئية في قمة الكويت يبين بوضوح ان رأب الصدع هو مطلب العرب كل العرب وان اجتماع العرب في قمة شاملة افضل من تنازعهم خارج القمة خصوصاً عندما يشتد الضغط عليهم من اعدائهم ومنافسيهم الاقليميين. عندما يتمحور العرب كل في جهة وكل في واد لن تجدوا اليمن في اي محور بل على مفترق المحاور يسعى لتوحيد الصف واعادة البوصلة الى الاتجاه الصحيح فإن افلح كان مشكوراً وان اخطأ عاد الى الحياد وامتنع عن صب الزيت على النار بانتظار ظروف افضل وما تعدى ذلك في عرف اليمنيين لايعول عليه.