{ .. في ظل الديمقراطية والتعددية الحزبية من الطبيعي أن يكون لكل طرف من أطراف العملية السياسية رؤيته وتوجهاته ومواقفه وحساباته التي ليس بالضرورة أن تتطابق وتتفق وتلتقي مع وجهة نظر الطرف الآخر وتقديراته ، فالتنوع والتعدد في الرؤى هو المرتكز الذي يجري في إطاره التنافس الشريف من أجل الوصول إلى الأفضل. ويصبح الاختلاف والتباين في الاجتهادات والرؤى أمرا حتميا وإيجابيا إذا ما تم صهره في بوتقة وطنية وجرى تحت سقف وطني ومظلة الثوابت والمصلحة العليا للمجتمع. ومن حسنات الديمقراطية اعتمادها مبدأ الحوار نهجا حضاريا للتقريب بين المواقف والخروج بالرؤية الصائبة التي تعزز من التعايش والوئام والعلاقات الحسنة بين أطراف المصفوفة السياسية والحزبية. وعلى العكس من ذلك فإن الانقلاب ومقاومة ثقافة الحوار وتقييد مسوغاته بالشروط التعجيزية والطروح المتصلبة والنوازع والأهواء الذاتية ، ومنطق المكابرة يجعل الحوار مرتهنا لدوافع ومثيرات تنزلق به خارج محددات التداول السلمي للسلطة والأسس الحقة للديمقراطية. وبالتالي فليس هناك من تفسير ينم عنه الموقف السلبي لبعض الأطراف الحزبية من موضوع الحوار سوى أن هذه القوى لا تمتلك الرؤية أو أنها قد أدمنت على التكسب من وراء الأزمات والانسداد السياسي. ولذلك فعادة ما يصر هؤلاء على أن يكونوا جزءا من أية مشكلة أو أزمة إن لم يسعوا لاختلاق عوامل التأزيم التي تسمم الحياة السياسية وتدفع بها من بؤرة إلى أخرى دونما اعتبار لما يترتب على هذا النهج التصعيدي من انعكاسات سلبية على واقع السلم الاجتماعي ومجريات التنمية والاستقرار العام الذي يشكل الضمانة الرئيسية لاستمرارية عملية البناء والنهوض والتقدم. وعلى طريقة تصفية الحسابات بيّن هؤلاء مواقفهم ، دون مراعاة لتلك الحقوق ذات الصلة بالشأن الاجتماعي ، إن من يسعون إلى عرقلة وإعاقة مسار الحوار اليوم إنما يعيدون تفاصيل ذلك المشهد الحواري الذي جرى في الفترة التي سبقت اندلاع حرب صيف 94م إن لم يكن صورة طبق الأصل منه. وتحريا للحقيقة وللأمانة فإن هناك الجديد في حوار اليوم متمثلا في تعليق المعارضة له قبل أن يبدأ وباشتراطات لم يجر طرحها على طاولة الحوار وتبيّن الموقف الآخر منها كما أكدت عليه قواعد الحوار المسؤول والذي يرتقي للمستوى الوطني الكبير لقضايا اللقاء التداولي. وما يحدث أقرب إلى البدعة منه إلى الإبداع السياسي وهو الأول على رفض الحوار وأن نوعا من التوظيف الاستغلالي المنقطع الصلة بدواعي التزامات التوافق على التأجيل الانتخابي. وما من محصلة تفضي إليها هذه المواقف غير الإجهاض السياسي لنهج الحوار الوطني حتى وإن جرى الحوار وتم التوصل إلى الاتفاق. والوارد السياسي في ردود الأفعال وتعامل هذه النوعية من المواقف مع الاتفاقات من الزاوية الانتقامية والتعبير عن الغيظ من الموقف الرسمي في كل الأحوال إذا ما كان الاتفاق نتيجة لما أبداه من مرونة فائقة وما قدمه من تنازلات غير متوقعة وربما مستحيلة في تقدير المعارضة وقد تقدمت بمطالباتها بقصد سد أبواب الحل. ومثل هذا لانشغال بإفشال كل اتفاق ردا على إفشال الطرف الآخر لمراميه التعطيلية من الحوار يصرف الاهتمامات عن أخذ جانب المصلحة الوطنية التي تستفيد من المحصلة التوافقية ويبقي على الممارسات في وضع الدوران في الحلقة المفرغة. إنه نوع من الاختزال والتجيير السياسي للوطن وللمصلحة الوطنية هو ما يصيب الرؤى بالتشوهات ويدفع المواقف نحو مواطن الشبهات وينأى بها عن وطن الوحدة والديمقراطية.