شاءت الصدفة أن اقع في مطلع شهر رمضان المبارك على حلقة تلفزيونية فضائية حول حرية الصحافة اليمنية واستقلالها. لقد بدا لي أن المتحدثين في الحلقة يعملون في صحف محلية رسمية ومعارضة وبينهم من يمثل نقابة الصحافة اليمنية ويعمل قسم آخر في وسائل اعلام عربية ودولية صادرة خارج اليمن في حين غاب ممثل عن وزارة الاعلام التي كانت حاضرة في الحلقة بوصفها "ام المشاكل" للاعلام اليمني على حد تعبير القسم الاعظم من المشاركين. وعلى الرغم من اختلاف مواقع عملهم فقد بدا هؤلاء الا ثلاثة منهم بدوا وكانهم يتحدثون بلغة واحدة وفي اتجاه واحد مفاده: "السلطة" هي المشكلة. ما يوحي بان الحاضرين يعتقدون صراحة او ضمناً ان "المعارضة" هي الحل. اما الرأي الآخر في الحلقة فكان مختصرا في التمثيل وفي وقت الكلام ما يوحي أيضاً بان اعداد الحلقة كان ينطوي على تقدير مسبق للنتائج المرجوة أي اتهام المعارضة للسلطة بالمسؤولية عن "مظالم" الاعلام اليمني الذي بدا على لسان المدعوين وكأنه "كامل الاوصاف" لايشكو من حداثة التجربة ولا من الأحكام الاعتباطية المتسرعة ولامن نفس الدعاوي ولا من نمط الصحافة السجالية البائسة ولا من الهم التعبوي وان مشكلته تكمن فقط في "السلطة" أو"تسلطها" و"استبدادها" علماً انهم قالوا واتهموا وربما يرددون علنا و يوميا العبارات نفسها في ظل "الاستبداد" و "التسلط" و غياب "الهامش الديموقراطي" اليمني.!!! والمدهش في هذه الحلقة كما في نمط السجال اليمني اليمني حول حرية الصحافة واستقلالها ان الناطقين باسم الاعلام الرسمي او بعضهم ممن يفترض انهم يمثلون الرأي الاخر تراهم كمن يخجل من موقع عمله فيدافع عنه بخجل يعزز الرأي المقابل أي المعارض بطبيعة الحال. والمدهش مرة أخرى أن هؤلاء يسلمون بالاتهام القائل ان الصحفي في الاعلام الرسمي لا يستطيع ان يجهر بخطاب المعارضة وان ينتصر لها في الصحيفة الرسمية خوفاً من ان يطرد من عمله وكأن الصحفي في اعلام المعارضة يمكن ان يبقى في عمله اذا ما جهر بخطاب السلطة ودافع عنها وهذا يصح على وسائل الاعلام الخارجية التي تقرر هي وليس مراسلها اليمني شروط العمل وقواعده ومن يخرج عن هذه الشروط والقواعد لا يبقى مراسلاً. والمراسلون يعرفون هذه الحقيقة ويعملون في ضوئها.ما يعني ان أحداً ليس في موقع الافضلية على احد عندما يتعلق الامر بشروط العمل في صحف ووسائل اعلام مرتبطة كلها بجهات معينة على هذه الارض وليست هابطة من كوكب آخر. وتعلو الدهشة اكثر فاكثر عندما يتولى الصحافي المعارض مهمة النطق باسم حرية الاعلام ويدعو الى ان تشمل العاملين في الاعلام الرسمي وهذه الدعوة تعني ان الصحافة المعارضة بعناصرها المختلفة تفترض انها ممثلة حصرية لحرية الصحافة في اليمن واذا كانت محقة في دعوتها المعارضة وحرة في ان تدعي ما تريد فان ارجحية حجتها ناجمة الى هذا الحد او ذاك عن نجاحها في اقناع بعض العاملين في الاعلام الرسمي بان اعلام المعارضة هو الاعلام الحر واعلام السلطة هو الاعلام المستبد. لذا ما فتئت الصحف المعارضة تتولى الهجوم فيما بعض الاعلام الرسمي يدفع تهمة التسلط في بلد اختار في ظل العهد الحالي وليس قبله حرية الاعلام لصناعة الرأي العام اليمني الحر ولتنظيم الخلافات اليمنية في اطار سلمي وديمقراطي. اكبر الظن ان تطوير الاعلام اليمني الحر بمعناه الشامل للجميع وليس لطرف دون اخر يستدعي اعادة النظر بالعناصر التالية: اولا: الاعلام لا يكون "حرا" اذا كان معارضا و"مستبدا" اذا كان رسمياً. فالمعارضة هي حكومة الظل في العملية الديمقراطية وبالتالي فان اعلامها لا يقل "رسمية" وتحزبا عن اعلام السلطة.لذا نلاحظ في البلدان الديمقراطية الغربية ان الاعلام الحزبي المعارض لا يقرأه الا اعضاء الحزب ومؤيديه اما الرأي العام فيصنع في صحف تنقل افعال الحكومة والمعارضة على مساحة واحدة وغالبا ما تكون وسائل اعلام رسمية. ثانياً: لا يمكن تعريف استقلال الاعلام بالقياس الى الحزب الحاكم وحده وانما بالاستقلال عن كل الاحزاب التي تتطلع الى تولي الحكم. فالحزب المعارض هو مشروع حكم في قاعة الانتظار. انه سلطة تنتظر وبالتالي فان كل جهد اعلامي يبذله هو جهد سلطة خارج الحكم. وكل نطق اعلامي ينطق به هو نطق باسم سلطة لم تحكم بعد. ثالثا: ان صناعة الرأي العام اليمني لايمكن ان تكون قاصرة على اعلام المعارضة ذلك ان الرأي العام اليمني متعدد وشامل لكل الحزبيين ولغير الحزبيين وكل اختصار للرأي العام في حزب او في مجموعة احزاب هو اختصار تعسفي وغير ديمقراطي وكل صناعة للرأي العام لا تأخذ هذه الحقيقة بحذافيرها هي صناعة جزئية او فئوية. وكل جهد فئوي لا يعول عليه في تطوير حرية الاعلام و العملية الديمقراطية. رابعاً: لا يمكن لحرية الاعلام ان تتطور في اليمن خارج السقف الوطني او ضد الوحدة الوطنية. فالانفصال المذهبي او الجهوي ليس جديراً بالتبرير والدفاع كائناً ما كان منشأة . فالوطن للجميع وليس للمعارضة او للحزب الحاكم وعليه فان كل رفض للانفصال ليس تأييداً للحزب الحاكم بالدرجة الاولى وانما للوطن. وكل تسامح مع الانفصال بادعاء النقص في المعلومات او بالتعاطف مع صحف انفصالية او مؤيدة خلسة للانفصال بشقيه المذهبي والجهوي ينقل المتعاطفين الى ضفة الحرب الاهلية وفي هذه الضفة لا تفيد دعاوى حرية الاعلام واستقلاله وتسقط كل هذه المفردات في وحول الفوضى والعدم. خامساً: لايمكن لصناعة الرأي العام ان تتم بمعزل عن قواعد اعلامية يحترمها الجميع وحتى يحترمها الجميع يجب ان تكون ممثلة للجميع. لذا لا يمكن ان نفهم كيف يعتبر نقابي يمني ان مشكلة نقابته تكمن في وجود 400 صحافي في وسائل الاعلام الرسمية يحق لهم الاقتراع في نقابة الصحافة اليمنية وليس في نقابة الصحافة المعارضة. كيف يمكن الطعن في اهلية 400 صحافي يمني وبحقهم في الانتماء الى نقابتهم والادعاء من بعد ان المتكلم تعددي الفهم وليس فئوياً يريد المعارضة دون غيرها في نقابة الصحافة الوطنية. سادساً: لايمكن ان تستقر اللعبة الاعلامية في وجهة ديمقراطية الا اذا تخلص اعلاميو صحافة المعارضة واعلاميو الصحافة الرسمية معاً من التصورات المسبقة كل عن الاخر.والا اذا احترموا جميعاً الجانب المهني البحت في نقابتهم. سابعاً: لايمكن ان تستقر اللعبة الاعلامية في وجهة حقيقية لصناعة الرأي العام الا اذا تم احترام عقول الناس وهذا يبدأ بالنص المنطقي وليس التهويلي والاتهامي والدعاوي. فالقول بان الدولة اليمنية باعت الغاز اليمني باسعار بعيدة عن اسعار السوق ينطوي على استخفاف مذهل بعقول الناس و يتعمد خداعهم . وهو مبني على الظن السيء بالسلطة وليس على دراسة موضوعية لعقود واسعار الغاز في السوق وليس ناجماً عن دراسة لبنود العقد اليمني مع كونسورتيوم الشركة المنتجة وهو امر لا يتقرر اعتباطاً ويخضع للعرض والطلب في الاسواق وليس لرغبة هذا الوزير اوذاك ناهيك عن ان الشركة المنتجة لايمكن ان ترضى باسعار اقل تفضي الى ارباح اقل. يبقى ان هذا الحدث الاول من نوعه في تاريخ اليمن كان يستحق كلمة شكر واحدة على الاقل لمن عملوا على انجازه بوصفه مشروعاً وطنياً للجميع وليس لمن انجزوه حصراً. ولعل عرض هذه القضية كغيرها من قضايا البلاد الصعبة والمعقدة يحتاج الى منطلقات مهنية ليس من بينها الظن الاعتباطي وسوء النية والكيد والتشهير الدائم. ليس بهذه الوسائل تنهض حرية الاعلام وليس بهذا النوع من السجال تنهض دولة النظام والقانون وليس بهذا النوع من المفردات يرتفع شأن الديمقراطية في اليمن.