" محيط العوالم أولى بنا... فلماذا التزاحم في المركز" لم أعد أذكر لمن ينسب هذا الشعر فربما نطق به أحد المتصوفة وقد يكون ناظمه الفارابي او غيره وكائناً من كان قائله فهو ينطوي على حكمة ما احوجنا الى الاتعاظ بها هذه الايام إذ نبحر نحن العرب في مياه مضطربة حيث لا ربان ذو خبرة تقليدية في الإبحار يرشدنا إلى يابسة الامان ولا لوحة مسافات عصرية نقرأ فيها خطوط الملاحة فنصل بواسطتها الى بر الخلاص. ليس في هذا الوصف لحالنا قصد المبالغة ولا التهويل وهو أبعد ما يكون عن تكبير العلة للضغط اخلاقيا على القاريء وبالتالي حمله على ما لايريد أن يحمل. فالناظر عن كثب في حال العرب اليوم ربما يرى بطريقة ميسرة اننا نعاني من المصائب التالية: اولاً: حروب جهوية وأهلية ومذهبية متفجرة في عدد من بلداننا تهدد وحدتها وتذهب بفرص تطورها ونموها وتطيح بوعودها المستقبلية. ثانياً: حروب أهلية باردة في بلدان أخرى لا تحتاج لكي تصبح ساخنة لأكثر من عود ثقاب. ثالثاً: حروب تطبخ على نار هادئة حتى إذا ما حان الوقت تصبح جاهزة للانفجار وفق الترتيب والتخطيط الذي يعده الطباخون. رابعاً: اعتقاد واهم بالفرقة الناجية من الحرب حين لانجاة منها لاي من دولنا فنحن نعيش في فضاء واحد اذا ما شبت فيه الحرائق لن تطفئها الحدود الجغرافية وبالتالي فإن حرب اليوم في دارك وحرب الغد القريب جداً في دار أخيك وحرب الذي يليه في دار ابن عمك وهكذا دواليك. خامساً: الواضح أن نخبنا السياسية قد تبرمجت بمعظمها عبر ثقافة سياسية سيئة تفضي الى التزاحم في المركز واهمال" محيط العوالم " بل تركه لاخرين يعتبرون انفسهم " أولى " به منا .. ساكتفي بذكرهذا الشطر من المصائب وفي ظني ان القاريء الكريم بوسعه ان يملأ مثلها الصفحات لاعرج بقدر من التفصيل على ما ذكرت وابدأ بالنخب السياسية العربية وهي بالتعريف تشمل المعارضة والموالاة .شطر منها يحكم وشطر آخر ينتظر الحكم. والشطران يتنازعان الثروة الضئيلة أو الشحيحة في "المركز" وهي لا تكفي للجميع سواء حكم هذا الشطر أو ذاك.إنها أشبه ببئر ماء محدود المخزون في محيط جاف يتنازعه الجميع ويستميت الجميع من اجل السيطرة عليه بدلا من البحث عن آبار أخرى أو مصادر مياه أخرى.والفرق بين نخبنا والنخب الغربية انها في مثل هذه الحالات تذهب الى المحيط لتحلية مياه البحر بدلاً من التنازع على مياه نافدة في بئر مركزي واحد.وعندما تكون حال نخبنا على هذا القدر من المحلية وضيق الأفق فمن الطبيعي أن تتطلع الى حيث هي وليس نحو الأفق البعيد في المحيطات وما وراء المحيطات. وللقياس مع غيرنا أقول: أنه لو ارادت النخب اليابانية أن تسير على رسم نخبنا وأن تتصارع على موارد اليابان الممحدودة والشحيحية لما بقيت يابان وما بقي يابانيون ولو ارادت النخب الغربية أن تواصل حروبها المذهبية حول ثرواتها الشحيحة في القرون الوسطى ما كان للغرب أن يسود عالمنا اليوم. و للقياس ايضا لا بأس من التذكير بنخبنا نحن قبل الاسلام وحروبها البائسة على هامش الثروة الشحيحة كحرب البسوس("494 م 534 م) التي دامت أربعين عاماً بين قبيلتي بكر وتغلب بسبب ناقة تملكها" البسوس ابنة منقذ" وقد سميت الحرب باسمها. وحرب "داحس والغبراء" المنسوبة لحصان يسمى " داحس " وفرس تسمى "الغبراء" وقد اندلعت حول نهب قافلة حجيج تلاها سباق خيل بين الحصان والفرس على أن يكون الفارس الرابح هو قائد حماية القوافل فكان أن خسر حصان وربح حصان ورفض الخاسر التحكيم فاندلعت الحرب لمدة أربعين عاماً أيضاً وهكذا دواليك. ولو تأملنا اليوم ملياً في هيأة حروبنا لوجدناها أقرب الى هذه الحال مع الفارق في القياس والعصر ولولا خروج العرب من جاهليتهم ومن جزيرتهم المحدودة الثروة وانطلاقهم نحو "محيط العوالم" لربما انقرضوا بفعل حروب أخرى حول جب ماء أو زواج فاشل أو منهبة تافهة..واذا كانت الحروب الأهلية تولد في رؤس النخب والوحدة الوطنية تولد في رؤسها أيضاً فإن رؤوسنا الحامية وافق تفكيرنا المحدود يوفر البيئة المناسبة للتدخل في شؤوننا لذا يحتاج الاجنبي إلى جهد ضئيل لتنمية وتأطير النزعة الحربجية في صفوفنا ومدها بعناصر القوة الأخلاقية والفكرية اللازمة حتى نبقى أمة مهددة بالانقسام والحرب الى يوم الدين. وتزدهر النزعة التشطيرية في عصرنا من خلال شبكة واسعة من المنظمات التي تدير الرأي العام وتغريه بوعود سرابية و تصطف هذه المنظمات طرفاً مع هذا الشطر ضد ذاك تحت ذرائع وحجج واهية ما صمدت يوما امام امتحان اخلاقي واحد. لقد رأينا كيف طوت هذه المنظمات والهيئات شرائعها واخلاقها وهجرت أرض الصومال بعد مساهمتها غير المباشرة في اندلاع الحرب الأهلية في هذا البلد لتعود من بعد مع اكياس الطحين لنجدة شعب تحول إلى جماعات من اللاجئين يسألون الغير قوت يومهم. ويحدث هذا يومياً وعلى مرأى من أعيننا في بعض مناطق السودان وقد حدث امام اعيننا في العراق. أليس من المدهش أن تغيب كل تلك المنظمات والهيئات وشرائعها عن بلاد الرافدين بعد الاحتلال؟ اليس من المدهش أن تواصل تطبيقاتها السخيفة على العراقيين ولا ترشق المحتل بوردة. اليس من المدهش أن تساهم تلك الهيئات في توسيع الهوة بين الجزائريين وأن تهجرهم طيلة العشرية السوداء في التسعينات؟ اليس من المدهش أن الهيئات نفسها تلوح اليوم كالغربان في سماء هذا البلد العربي او ذاك وكأنها بعثات شؤم تصنف هذا في خانة الديكتاتورية وذاك في خانة الديموقراطية وبعد التصنيف ما على الديموقراطي المزعوم إلا أن يقتل الديكتاتوري المزعوم وما على الثاني إلا أن يسجن الأول ويضطهده وبما أن الطرفين في الأصل لا يستحقان التسمية والوصف وينتميان الى عالم معقد العلاقات ومختلف عن العالم الغربي في تكوينه وفي سلم اولوياته وبما أن العنف يطيح بهما معاً وينقل الجميع الى الهاوية فمن الطبيعي أن تنتهي مهمة "البعثات الحضارية" مع بداية الحرب وأن يأتي دور بعثات "الشوربة" و"الكدم" وهكذا دواليك.. قال لي جنرال جزائري متقاعد ذات يوم عندما ذكرت امامه هذه الأمثلة في سياق الحرب الأهلية التي اشتعلت في بلاده في التسعينات: " خيرنا منا وشرنا منا " وهو محق تماماً في وصفه فالخير منا والشر منا فان أحسنا الخيار كان الخير ومعه يصعب على كل أهل الارض التأثير في خيارنا وإن أسأنا الخيار كان الشر ومعه نسلس القياد لأول عابر سبيل اجنبي. وفي الختام أعود إلى بيت الشعر المعبر في المطلع للقول: ان نزاعاتنا الداخلية حول الثروة الشحيحة ستقودنا حتماً الى "بسوس" العصر و"داحس وغبراء" العصر. ذلك أن الشح مشكلة تعالج بالوفرة وليس بالحرب والعنف. مشكلة لاتعالج بفكر الكفاف والتعابير الايديولوجية السطحية ذات التأويل البائس يستخدمها بعض الكتبة كما يستخدم قطاع الطرق السلاح الأجنبي المستورد. أماالوفرة والثروة الفائضة فهي تستدعي البحث خارج المركز هناك في "محيط العوالم" .. نعم هناك وليس في المركز الشحيح.