أياً تكن نتيجة الانتخابات العامة البريطانية التي حدد موعدها في السادس من آيار- مايو المقبل، فالأكيد انه سيكون على بريطانيا في مرحلة ما بعد الانتخابات الالتفات اكثر فأكثر الى الداخل، انها من دون ادنى شك انتخابات مفصلية نظراً الى انه سيتوجب على اية حكومة بريطانية جديدة اكانت برئاسة غوردون براون، زعيم حزب العمال، او ديفيد كاميرون، زعيم حزب المحافظين، التفكير في كيفية تجاوز آثار الأزمة الاقتصادية العميقة التي دمرت اي تفكير في ان المملكة المتحدة قادرة في اي يوم على لعب دور يذّكر مواطنيها بأمجاد الماضي.. ايام كانت بريطانيا امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. في الامكان الحديث عن مراحل عدة مرت بها بريطانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 بانتصار ساحق للحلفاء. في مرحلة اولى استمرت حتى عام 1956، سعت بريطانيا الى تأكيد انها لا تزال قوة عظمى خرجت منتصرة من الحرب ولعبت دوراً رئيسياً في التصدي لألمانيا الهتلرية. نسي رئيس الوزراء البريطاني وقتذاك انطوني ايدن انه كان على بريطانيا المباشرة بعد الحرب العالمية الثانية في تصفية جزء من مستعمراتها وان القوة الصاعدة في العالم اسمها الولاياتالمتحدة الأميركية وليس اي شيء آخر وانه لولا انضمام اميركا الى الحلفاء، بفضل الهجوم الياباني على بيرل هاربور في عام 1941، لما كان هناك انتصار على المانيا النازية، اضطرت بريطانيا في عام 1947 الى الاعتراف باستقلال الهند، جوهرة التاج، وانكفأت في اتجاه الخليج الذي بدأت التفكير في كيفية الخروج منه منذ اواخر الستينات حين اضطرت الى مغادرة عدن. ما عجل في الخروج من الخليج، اواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي، المغامرة البريطانية التي قادها ايدن مع فرنسا واسرائيل في عام 1956، كانت مغامرة السويس او العدوان الثلاثي على مصر الشعرة التي قصمت ظهر البعير، كانت تلك المغامرة الفاشلة المحطة الأساسية على طريق افهام بريطانيا انها لم تعد قوة عظمى وان العالم تغيّر وان قرار الحرب يتخذ في واشنطن وموسكو وليس في اي مكان آخر، فهمت لندن الرسالة عندما اتصل وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس برئيس الوزراء البريطاني وابلغه ان على بريطانيا وفرنسا ومعهما اسرائيل الانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة، بما في ذلك قطاع غزة، وان العدوان على مصر يجب ان يتوقف، اكد دالاس لأيدن انه في حال لم يحصل ذلك، لن تعود هناك قيمة تذكر للجنيه الاسترليني، تلقت بريطانيا الرسالة واستوعبتها جيداً، منذ ذلك الوقت، فهمت لندن ان العالم تغيّر وان موازين القوى صارت مختلفة وان هناك قطبين عالميين نتيجة ما اسفرت عنه الحرب العالمية الثانية. هذان القطبان هما الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي ولا حساب لمن هو خارج دائرة نفوذ احد هذين القطبين. منذ العدوان الثلاثي على مصر الذي اوقفته الادارة الاميركية التي كان على رأسها الجنرال ايزنهاور، بدأت بريطانيا تتصرف بطريقة مختلفة، فهمت ان ليس في استطاعتها الاستمرار في لعب دور القوة العظمى، انكفأت بريطانيا على نفسها الى ان جاءت مارغريت تاتشر الى رئاسة الحكومة في عام 1979، استطاعت تاتشر تحويل بريطانيا الى قوة اقتصادية كي يكون لها مكان على خريطة العالم بالتفاهم مع الولاياتالمتحدة، كان لتاتشر دور اساسي في حسم الموقف الأميركي من الاحتلال العراقي للكويت في عام 1990 وذلك قبل اشهر قليلة من خروجها من 10 داونينغ ستريت، مقر رئيس الوزراء في لندن، استعادت تاتشر الدور البريطاني على الصعيد العالمي، برغبة اميركية، واعادت في الوقت ذاته الحياة الى الاقتصاد البريطاني عن طريق نسف كل القوانين ذات الطابع الاشتراكي التي كانت تقف حائلاً دون اقبال الشركات الكبيرة على اعتماد لندن مقراً اوروبياً لها، صار نهج تاتشر سياسة بريطانية، عندما وصل توني بلير الى موقع رئيس الوزراء في العام 1997 اعتمد في برنامجه الانتخابي الذي اوصله الى 10 داونينغ ستريت على انه خليفة لتاتشر وليس مرشح الحزب الآخر المنافس لحزب المحافظين الذي كانت المرأة الحديد تقف على رأسه. كشفت حرب افغانستان ثم حرب العراق حدود القدرات البريطانية، ترك توني بلير رئاسة الوزراء لغوردن براون قبل ما يزيد على ثلاثة اعوام، انصرف بلير الى هواياته الشخصية بما في ذلك الاهتمام بشؤون الشرق الأوسط بصفة كونه مبعوثاً للاتحاد الأوروبي، ترك بلير لبراون تركة ثقيلة، ترك له بلداً يعاني من اعباء كبيرة، توجب على الحكومة البريطانية انقاذ المصارف الكبرى من الأفلاس بأن ضخت مليارات الجنيهات الاسترلينية لمنع انهيارها. كشفت حربا افغانستان والعراق حدود القدرات البريطانية. سيتبين في يوم غير بعيد ان الانجاز الأهم لحكومة غوردن براون يتمثل في الانسحاب من العراق بأقل مقدار ممكن من الخسائر. سيتوجب على اية حكومة جديدة التفكير في كيفية الانسحاب من افغانستان والاهتمام بالاقتصاد البريطاني، ليس امام اية حكومة بريطانية سوى الانصراف الى هموم المواطن، سيتوجب على رئيس الحكومة الجديدة، اياً يكن رئيس الحكومة، الاعتراف بأن بريطانيا دخلت مرحلة جديدة لم تفرضها الظروف العالمية فحسب، بل فرضها ايضا غياب الزعيم السياسي، في مرحلة معينة كانت بريطانيا الحليف الأول للولايات المتحدة. بات الآن على لندن التفكير في كيفية المحافظة على الحلف الوثيق مع واشنطن ولكن من دون الانجرار الى اية مغامرة عسكرية يمكن ان تنجر اليها، بريطانيا لا تزال مهمة لكن اهميتها لم تعد اكثر من عادية، لم يعد فيها زعيم استثنائي مثل مارغريت تاتشر ولم يعد هناك توني بلير الذي سعى ان يكون امتدادا لتاتشر.. ولم يعد هناك اقتصاد متفوق، مقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، اقتصاد يدعم التوجه الى انتهاج سياسة تجاري سياسات الأميركية. بريطانيا في سنة 2010 دولة عادية لديها الهم الداخلي الذي يراوح بين التعليم والصحة وتفادي الاضرابات العمالية هو الطاغي على كل ما عداه.