يعتبر الأستاذ شالمرز جونسن البالغ الثمانين عاماً والذي يعمل مع جامعة كاليفورنيا أحد أبرز الباحثين الأمريكيين المتخصصين في الشؤون الصينية واليابانية. ولعدة أعوام بين 1967 إلى 1973 كان يعمل مستشاراً لوكالة الاستخبارات سي.آي.ايه. ثم حول اهتمامه نحو السياسة الخارجية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة وتحديداً المخاطر المترتبة على التدخل الأمريكي في العالم الإسلامي. وتذكر مقدمة نشرتها جريدة "الخليج" الإماراتية العربية الراقية أن جونسن أصدر قبل فترة وجيزة من الهجمات على برجي نيويورك كتاباً بعنوان "النتيجة العكسية" حذر فيه من النتائج السلبية للسياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي. وكتابه الجديد "تفكيك الإمبراطورية" الأمل الأخير للولايات المتحدة، يحاول السير في الإتجاه ويسعى لإيجاد بدائل تثني قادة الولاياتالمتحدة عن تشبثهم بسياسة القوة العسكرية والطموحات الإمبريالية، وهذا الكتاب كما تقول المقدمة يشكل مع كتاب جونسن المعنون "النتيجة العكسية" وكتاب آخر سيصدر قريباً، ثلاثية "مشروع الإمبراطورية الأمريكية". المقال طويل وممتع ونتيجة لأبحاث ودراسات مفيدة للقارئ العربي، وقد أحسنت الجريدة صنعاً في إيجاز أجمل ما فيه فهو يقول مثلاً بعد اختصار تاريخ الوكالة: "إن ال "سي.آي.ايه" أنشئت في عهد الرئيس هاري ترومان، وكان الهدف من إنشائها منع وقوع هجمات مستقبلية مفاجئة مثل هجمات بيرل هاربور التي دمرها الأسطول الياباني المرابط هناك، والعمل على كشف أي مخططات تستهدف أمن أو مصالح الولاياتالمتحدة والتحذير منها. وبعد الإخفاق الكارثي الذي سجلته ال "سي.آي.ايه"، المتمثل في عجزها عن منع وقوع هجمات برجي التجارة في نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول 2001، تزايدت حدة الانتقادات الموجهة ل "سي.آي.ايه"، وتلوثت سمعتها بشدة، وتحت قيادة جورج تينيت، تواصل الأداء الكارثي للوكالة، أصبحت ال "سي.آي.ايه"، مهزلة حقيقية تجسدت في إخراجها لأردأ عمل في تاريخها الملطخ، وهو التقرير الذي زعمت فيه أن العراق يواصل العمل على برامج أسلحة الدمار الشامل. "ويقول إن التكاليف أو الخسائر الإنسانية المترتبة على عمليات ال "سي.آي.ايه" السرية كانت أكثر فداحة من أنشطتها الأخرى، فإصرار ال "سي.آي.ايه" ومحاولاتها الدؤوبة – العمياء – لتحديد الكيفية التي ينبغي أن يحكم بها الآخرون أنفسهم، ودعمها السري لحكام فاشيين مثل جورج بابا دوبلوس في اليونان، وأمثال أوغوستو بينوشيه في شيلي، ومجرمين مثل موبوتو سيسي سيكو في الكونغو، ودعمها كذلك لفرق القتل في السلفادور وقيامها بأنشطة وعمليات سرية كثيرة مشابهة لهذه الأنشطة الخبيثة، أسهمت بشدة في خلق وتغذية العداء والكراهية للولايات المتحدة في أرجاء كثيرة من العالم. "ويرى جونسون أن العمليات السرية لل "سي.آي.ايه"، كانت، ولا تزال، المساهم الأكبر في تلطيخ سمعة الولاياتالمتحدة. فال "سي.آي.ايه" قتلت رؤساء فيتنام الجنوبية والكونغو، (لوممبا)، وأطاحت حكومات إيران، وإندونيسيا (ثلاث مرات)، وكوريا الجنوبية (مرتان)، وأسهمت في قلب أو تغيير أنظمة الحكم في كل دول الهند الصينية، وكل الحكومات في أمريكا اللاتينية، ولبنان، وبالاعتماد على الجيش الأمريكي، دعمت ال "سي.آي.ايه" غزو واحتلال دول كثيرة آخرها وأبرزها العراق وأفغانستان، وضحايا هذه الاعتداءات المسلحة تجاوزت الملايين. "وبعد أحداث 11/9، تساءل الرئيس بوش ببلاهة: "لماذا يكرهوننا؟". "إذا نظرنا لسجل مؤامرات ال "سي.آي.ايه" منذ عملياتها في أمريكا اللاتينية، وإيران 1953 حتى العراق 2003، أعتقد أن السؤال الأفضل يجب أن يكون "لماذا لا يكرهوننا؟". ويستطرد المؤلف إلى القول استناداً إلى معلوماته المثيرة أن الولاياتالمتحدة عبر سطوتها العسكرية ويجهل الرأي العام فيه أن حامياته تطوق العالم، وأن هذه الشبكة الضخمة والمترامية من القواعد تشكل إمبراطورية جديدة. قال: "إن جيشنا ينشر أكثر من نصف مليون جندي وجاسوس وتقني وخبير أو "مقاول مدني" كما في العراق. وينشر إحدى عشرة قوة بحرية ضخمة ومزودة بأفضل الأسلحة بالإضافة إلى حاملات الطائرات تعمل في سبعمائة قاعدة في مائة وثلاثين بلداً ولديه آلاف القواعد العسكرية ما يماثلها في الولاياتالمتحدة. "وأبرز مثال للقواعد العملاقة معسكر أناكوندا مقر قيادة الفرقة الرابعة مشاة مهمتها ضبط الأمن شمال بغداد وتتسع لعشرين ألف جندي" لكن لماذا كل ذلك العدد والعتاد والقواعد العسكرية؟ يقول المؤلف: "الهدف الأساسي لقواعدنا العسكرية الأجنبية هو المحافظة على الهيمنة الأمريكية في العالم وتقوية ما يسمى بإمبراطورية الاستهلاك. فالولاياتالمتحدة تضم أقل من خمسة بالمائة من سكان العالم لكنها تستهلك ربع الموارد التي تنتجها دول العالم مجتمعة بما فيها النفط". ثم يستطرد بصراحة مثيرة للاستغراب والحنق معاً إلى القول: "إمبراطوريتنا موجودة لكي تضمن استغلالنا لأكبر قدر ممكن من ثروات العالم وموارده بأكثر مما نستحق ولكي نمنع الدول الأخرى من التحالف ضدنا لأخذ حقوقها ومواردها المستباحة". لماذا التدهور في سمعة أمريكا؟ ذكر تقرير البنتاجون عام 2008 أن حرب العراق هي المسؤول الأول عن تداعي صورة أمريكا في الخارج. وثمة عوامل أخرى تسهم بشدة في تنامي مشاعر كراهية الولاياتالمتحدة أبرزها دعمنا لحكومات قمعية وانحيازنا لإسرائيل وتعذيب المعتقلين. وسنواصل الاستعراض في مقال آخر إن شاء الله تعالى.