كان يمكن ان تكون المرحلة الاولى من محاكمة الرئيس السابق زين العابدين بن علي وزوجته السيدة ليلى طرابلسي مناسبة كي تظهر الثورة التونسية انها ابعد ما تكون عن الكيدية وانها ثورة حقيقية ستنبثق عنها دولة مؤسسات تسمح بتناوب على السلطة وبحياة سياسية تتسم اول ما تتسم بالشفافية، فالمحاكمة التي جرت غيابياً والتي لم تستغرق اكثر من يوم انتهت بصدور حكمين بالسجن لمدة خمسة وثلاثين عاماً على بن علي وزوجته بعد ادانتهما بتهمة سرقة عملات اجنبية ومجوهرات والاحتفاظ بها، كذلك، غرّم بن علي وزوجته 91 مليون دينار تونسي اي ما يوازي سبعين مليون دولار تقريباً، ويبدو ان للمحاكمة تتمة اذ سينظر القضاء نهاية الشهر الجاري في قضية تتعلق بحيازة الزوجين مخدرات واسلحة وقطع اثرية تعتبر ملكاً للدولة التونسية، وفي مرحلة لاحقة، سيحاكم زين العابدين وليلي في قضايا مرتبطة باوامر تقضي باطلاق النار على المتظاهرين في اثناء الاحداث التي شهدتها تونس في كانون الاوّل - ديسمبر وكانون الثاني/يناير الماضيين. من حق التونسيين محاكمة بن علي الذي لجأ الى المملكة العربية السعودية محاكمة غيابية، لا بدّ من طي صفحة من تاريخ تونس الحديث امتدت ثلاثة وعشرين عاماً يعتبر الرئيس المخلوع مسؤولاً عنها بشكل مباشر وذلك بايجابياتها وسلبياتها، لكنّ الاكيد ان ليس مطلوباً اصدار احكام سريعة كما لو ان المحاكمة تحل كل مشاكل تونس او كأنّها محاولة للهرب من استحقاقات ما بعد الثورة، بما في ذلك السعي الى اقامة دولة القانون، على العكس من ذلك، يفترض التعاطي مع مرحلة عهد بن علي بما يوحي بان التونسيين تعلموا شيئاً من تلك المرحلة وانهم على استعداد لبناء مؤسسات لدولة عصرية بعيداً عن الرغبة في الانتقام، ما لا يمكن تجاهله ان بن علي نتاج نظام معيّن كان في الامكان تطويره بدل تحويله الى نظام حكم الرجل الواحد الذي ما لبث ان تجاوز كل المؤسسات بعدما تزوج من امرأة لا همّ لها سوى ممارسة السلطة واستخدامها لاغراضها الخاصة، هذه تجربة يفترض بتونس التعلّم منها كي لا تتكرر مستقبلاً وان بطريقة شنيعة اكثر عن طريق احزاب دينية لا همّ لها سوى الاستيلاء على السلطة من جهة وتغيير طبيعة المجتمع التونسي المنفتح والمثقف من جهة اخرى وجعله اسير ايديولوجية متزمتة لا علاقة لها بتاريخ البلد وعادات شعبه. بكلام اوضح، يفترض ان تكون هناك محاكمة سياسية لمرحلة معينة وليس مجرد محاكمة لرجل متهّم بانّه اساء استخدام السلطة واستولى على المال العام وشارك في الفساد وفي نشره مع زوجته وافراد عائلتها، فقد جاء بن علي الى الرئاسة نتيجة انقلاب شارك فيه ضباط آخرون على راسهم الحبيب عمّار وعبدالحميد الشيخ، كان الانقلاب عملاً ايجابياً في ضوء الوضع الصحي للرئيس الحبيب بورقيبة الذي تقدم في العمر ولم يعد قادراً على ممارسة مهماته الرئاسية، الثابت انه كانت هناك وسائل افضل من تلك التي لجأ اليها الضباط للتخلص من بورقيبة، ولكن ما لا مفرّ من الاعتراف به ان الحركة التي قام بها الضباط في السابع تشرين الثاني- نوفمبر 1987م انقذت تونس من الفوضى العامة بعدما صار قصر قرطاج (قصر الرئاسة) في يد مجموعة من النساء تسيطرن على بورقيبة العجوز وتتحكمن بقراراته، كانت ابنة شقيقته على رأس النساء اللواتي سيطرن على القصر والرئاسة والرئيس. تجاوز الضباط الحزب الدستوري الحاكم وما لبث بن علي ان تخلص من رفيقيه وما لبثت السيدة طرابلسي ان دخلت القصر كزوجة جديدة للرئيس وبدأ التفكير جديا في قيام اسرة حاكمة تتحكم بكل صغيرة وكبيرة في البلد، وصل الامر في الايام الاخيرة من عهد بن علي الى حد اعداد احد افراد الاسرة ليرث الرئيس في حال لم تسمح له حالته الصحية بالترشح. كان هناك حتى مشروع يقضي بان تتولى السيدة الاولى الرئاسة موقتا في انتظار ايجاد وريث ذكر لاحقا قد يكون احد الاصهرة.عملياً تحولت تونس من بلد يحكمه حزب انشأه الحبيب بورقيبة الذي كان رجلاً زاهداً وعصرياً يؤمن بسلطة القانون ولا يخشى وجود سياسيين آخرين غيره في تونس الى بلد تتحكم به اسرة، هذا لا يحول دون الاعتراف بان بن علي استطاع تحقيق انجازات كبيرة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي اذ عرف كيف يوسّع الطبقة الوسطى، ولكن يبقى ان هذا شيء والعمل من اجل اختصار السياسة باسرة الرئيس وزوجته شيء آخر لا يليق لا بتونس ولا بالتونسيين. مرة اخرى من حق التونسيين محاكمة بن علي وزوجته، لكن الطريقة التي انعقدت بها الجلسة الاولى للمحاكمة كشفت ان هناك رغبة في الانتقام فقط، لا يليق الانتقام بالثورات الشعبية مثل "ثور الياسمين" التي واجه فيها ابناء الشعب رجال الامن بصدورهم العارية، انه يليق بالانقلابات العسكرية والثورات الدموية التي تقوم بها الاحزاب الفاشية اكانت مدنية او دينية. لا يختلف اثنان على ان تونس تمرّ حالياً بمرحلة انتقالية, لكن المحاكمة السريعة لزين العابدين بن علي وليلى طرابلسي تخفي الرغبة في الهرب الى امام من الاستحقاقات الحالية في مرحلة ما بعد "ثورة الياسمين", وربما في طليعة هذه الاستحقاقات بناء مؤسسات لدولة ديموقراطية عصرية بغية قطع الطريق على عودة الديكتاتورية الى تونس اكان ذلك عبر "الاخوان المسلمين" او عبر حزب آخر علماني ظاهرا وستاليني حقيقة, هل في الامكان اقامة مؤسسات لدولة عصرية قادرة على المحافظة على الايجابيات التي تحققت في عهدي بورقيبة وبن علي ام يكفي التركيز على الانتقام لتفادي مواجهة الحقيقة المرّة التي يختصرها سؤال من نوع ما العمل من اجل عودة الحياة الى الاقتصاد التونسي؟ انه مجرد سؤال بين اسئلة اخرى عديدة!.