لا يزال هناك من يعتقد ان الثورات العربية خطوة الى خلف وان الوضع الذي كان قائماً في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا قبل هذه الثورات كان وضعاً طبيعيا من المفترض ان يستمرّ الى ما لا نهاية. اكثر من ذلك، يظنّ الذين ينادون بهذه النظرية ان كلّ ما حصل هو ضرب للاستقرار. قد يكون ذلك صحيحاً الى حدّ ما. ولكن اذا نظرنا الى ما حصل في تلك البلدان، نجد ان الانفجار كان اكثر من طبيعي وانّ المرجح ان تمر كلّ من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا في مرحلة انتقالية يمكن ان تمهّد لقيام دولة المؤسسات كما يمكن ان تؤدي الى تفتيت لهذه البلدان. الاكيد ان تفتيت هذه البلدان بمثابة كارثة على كلّ بلد عربي نظرا الى انه يفتح الابواب على حروب اهلية معروف كيف تبدأ وليس معروفاً كيف تنتهي، في غياب القدرة على الطلاق الحبي بين هذه المنطقة او تلك. تبدو الثورات التي سمّيت عن حقّ"الربيع العربي" اكثر من طبيعية. ذلك عائد الى سبب في غاية البساطة يتمثل في الحاجة الى التغيير بعدما سئم المواطن التمييز الذي يمارس في حقه على كلّ المستويات. في تونس على سبيل المثال، كان هناك نجاحاً نسبياً على الصعيد الاقتصادي بشهادة الارقام، المعترف بها دولياً، التي جعلت من تونس تقترب من الخروج من وضع الدول النامية، اي دول ما يسمّى العالم الثالث. لكنّ مشكلة زين العابدين بن علي الذي حكم البلد منذ العام 1987م وحتى 2011م تكمن، اضافة الى تسخيفه السياسة والسياسيين وتفرده بالسلطة، في انه دخل في لعبة الرضوخ لرغبات زوجته السيّدة ليلى طرابلسي. حوّلت ليلى طرابلسي عائلتها الى عائلة مميّزة لا تسري على افرادها قوانين البلد. انها القوانين التي كان تطبيقها على كلّ مواطن من المواطنين امراً عادياً... باستثناء ابناء العائلة الحاكمة! قضى بن علي، بسبب قصر نظره ورضوخه لرغبات زوجته، على طموحات مجموعة كبيرة من التونسيين كان مفترضاً ان يدافعوا عن نظامه. ذهب ضحية عملية التوريث التي كانت تسعى اليها الزوجة الطموحة التي تصرّفت بصفة كونها الوصية على مقدرات تونس. كانت النتيجة ان المجتمع كله، بما في ذلك القوات المسلحة، انتفض في وجهها وفي وجه العائلة التي لم تعد على علاقة بالواقع التونسي. ما شهدته تونس ينطبق الى حدّ كبير على مصر حيث تحوّل حسني مبارك اسيراً لرغبات الزوجة والمحيطين بها. كانت السيدة سوزان، التي لم تفهم في ايّ لحظة طبيعة النظام القائم في مصر، عاجزة عن ادراك ان المؤسسة العسكرية ترفض التوريث. كان همّها محصوراً في "ان لا تكون جيهان سادات اخرى" وذلك بعدما شهدت ما حلّ بارملة الرئيس انور السادات في مرحلة ما بعد اغتياله في تشرين الاوّل- اكتوبر 1891م وحلول زوجها مكانه. ما ميّز بن علي ومبارك هو السقوط في اسر العائلة. ما يجمع بينهما هو العجز عن التفكير في المستقبل وفي كيفية بناء دولة المؤسسات التي لا علاقة لها بشخص معيّن او بعائلة معيّنة. لم يدر حسني مبارك في اي لحظة ان مصر تواجه تحديات من نوع مختلف، على راسها النمو السكاني والتطرف الديني وبناء المؤسسات الديموقراطية، وانه من دون التصدي لهذه التحديات، كانت الاوضاع مقبلة على تدهور كبير، خلف جمال مبارك والده ام لم يخلفه! امّا بالنسبة الى ليبيا، فكان الجنون هو السائد. لم يكن هناك منطق من ايّ نوع كان. الى الآن ليس معروفا هل كان معمّر القذافي يسعى الى توريث نجله سيف الاسلام ام انه كان يشعر بالغيرة تجاهه. في كلّ الاحوال، يبدو ثابتاً ان القذّافي الاب لم يكن يعبد سوى نفسه وكان لديه اعتقاد بانّ ليبيا بدأت به وتنتهي معه. ربّما نجح في تحقيق ما كان يحلم به بدليل ان ليس في استطاعة احد التكهّن بمستقبل ليبيا باستثناء ان آبار النفط فيها ستظلّ تعمل بكلّ طاقتها لاسباب لا علاقة لها بالليبيين بل بالمصالح الاوروبية والاميركية لا اكثر. بالنسبة الى اليمن، هناك وضع مختلف. هناك وضع في غاية التعقيد ادرك علي عبدالله صالح انه غير قابل للحل. خرج من السلطة من دون ان يخرج منها تاركاً كتلة النار في ايدي خصومه. سيتوجب على هؤلاء التعاطي مع مجموعة من المشاكل الكفيلة بتحويل اليمن الى صومال آخر. تبدأ هذه المشاكل بالاقتصاد المُدمّر وتنتهي عند ارهاب "القاعدة" مرورا بالحوثيين واوضاع الجنوب، حتى لا نقول اكثر من ذلك. تجمع سوريا بين كلّ تونس ومصر وليبيا واليمن. يكفي ان رئيس الدولة فيها لا يريد الاعتراف بانّه يواجه ثورة شعبية حقيقية وانه لم يعد لديه ما يقدّمه لبلده سوى اطالة الازمة وتحويلها الى حرب اهلية ذات طابع مذهبي بحت. لم يعد السؤال هل انتهى النظام السوري ام لم ينته. السؤال اي مصير لسوريا هل من مجال لتفادي تكرار التجربة العراقية في هذا البلد الذي لا يزال شعبه يرفع شعار "الشعب السوري واحد" ويصرّ على التمسّك به. لم يكن من مجال لتفادي "الربيع العربي" بعد كلّ ما فعلته الانظمة القائمة ببلدانها وبشعوبها. هل من مجال لتفادي انهيار دول عربية معيّنة رفع حكامها شعار "من بعدي الطوفان"..