الوكيل مفتاح يتفقد نقطة الفلج ويؤكد أن كل الطرق من جانب مارب مفتوحة    عاجل: انفجارات عنيفة تهز محافظة يمنية وإعلان حوثي بشأنها    تتويج مبابي بجائزته الفردية الأخيرة في فرنسا قبل رحيله عن سان جيرمان (فيديو)    غندوزي يصدم لاتسيو الايطالي    مانشستر يونايتد الإنجليزي يعلن رحيل لاعبه الفرنسي رافاييل فاران    الروح الرياضية تهزم الخلافات: الملاكمة المصرية ندى فهيم تعتذر للسعودية هتان السيف    ارتفاع طفيف لمعدل البطالة في بريطانيا خلال الربع الأول من العام الجاري    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزي في وفاة الشخصية الوطنية والقيادية محسن هائل السلامي    الحوثيون يواصلون لعبتهم الخطيرة وامريكا تحذر    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    المنامة تحتضن قمة عربية    كريستيانو رونالدو يسعى لتمديد عقده مع النصر السعودي    اليابان تطالب بتعزيز الآليات القائمة لمنع عمليات النقل غير المشروع للأسلحة للحوثيين مميز    أمين عام الإصلاح يبحث مع سفير الصين جهود إحلال السلام ودعم الحكومة    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    بريطانيا تؤكد دخول مئات السفن إلى موانئ الحوثيين دون تفتيش أممي خلال الأشهر الماضية مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    نقل منصات إطلاق الصواريخ الحوثية استعدادًا للحرب واندلاع مواجهات شرسة مع الأهالي ومقتل قيادي من القوة الصاروخية    مجازر دموية لا تتوقف وحصيلة شهداء قطاع غزة تتجاوز ال35 ألفا    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    طعن مواطن حتى الموت على أيدي مدمن مخدرات جنوب غربي اليمن.. وأسرة الجاني تتخذ إجراء عاجل بشأنه    الحوثيون يواصلون افتعال أزمة الغاز بمحافظتي إب والضالع تمهيد لرفع الأسعار إلى 9 آلاف ريال    قائد الحراك التهامي السلمي يعقد لقاء مع المعهد الديمقراطي الأمريكي لبحث آفاق السلام    الحوثيون يواصلون حملة اعتقال الطلاب الفارين من المراكز الصيفية في ذمار    تحميل لملس والوليدي إنهيار خدمة كهرباء عدن مغالطة مفضوحة    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    الدولة العميقة ومن يدعمها هدفهم إضعاف الإنتقالي والمكاسب الجنوبية    اعضاء مجلس السابع من ابريل لا خوف عليهم ويعيشون في مأمن من تقلبات الدهر    بيان عاجل لإدارة أمن عدن بشأن الاحتجاجات الغاضبة والمدرعات تطارد المحتجين (فيديو)    برشلونة يرقص على أنغام سوسيداد ويستعيد وصافة الليغا!    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    ليفربول يسقط في فخ التعادل امام استون فيلا    استعدادات حوثية للاستيلاء على 4 مليار دولار من ودائع المواطنين في البنوك بصنعاء    "نكل بالحوثيين وادخل الرعب في قلوبهم"..الوية العمالقة تشيد ببطل يمني قتل 20 حوثيا لوحده    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    لاعب منتخب الشباب السابق الدبعي يؤكد تكريم نجوم الرياضة وأجب وأستحقاق وليس هبه !    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    سيف العدالة يرتفع: قصاص القاتل يزلزل حضرموت    البوم    السفيرة الفرنسية: علينا التعامل مع الملف اليمني بتواضع وحذر لأن الوضع معقد للغاية مميز    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع ''صنعاء القديمة''    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    أفضل دعاء يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال.. ردده الآن يقضى حوائجك ويرزقك    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    هناك في العرب هشام بن عمرو !    قارورة البيرة اولاً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار والقات في زمن التحولات
نشر في 26 سبتمبر يوم 23 - 01 - 2014

على الرغم من انشغال المواطنين والمواطنات من مختلف الأعمار والشرائح بمتابعة أخبار وسجالات وخلافات وتوافقات مؤتمر الحوار الوطني الذي ينعقد منذ تسعة أشهر في فندق موفمبيك، الا ان الحضور الأبرز في مختلف مشاهد حياتنا بما فيها اللقاءات والجلسات التي تمت في أطار مؤتمر الحوار او على هوامشه كان لشجرة القات بامتياز، على الرغم من ان اسعار القات اشتعلت ووصلت الى مستوى جنوني فاق كل تصور في الشهور الأخيرة التي تلت تدشين حوارات موفمبيك!! قيل في القات كلام كثير.. وأريق على جوانبه مداد أكثر.. ولا يزال القات رغم كل ما قيل وكتب عنه واحداً من أكبر التحديات التي تواجه طموح اليمنيين للانعتاق من كل الكوابح التي تؤخر تطورهم وتقدمهم.
لا يختلف اثنان حول الآثار السلبية لهذه الشجرة على الصحة والبيئة والأسرة والاقتصاد الوطني.. ولدينا ما يكفي من الدراسات والتقارير التي أوضحت مخاطر القات التي تؤدي إلى تدهور صحة المجتمع، وانتشار الأمراض النفسية والعصبية مثل القلق والاكتئاب والأرق، بالإضافة إلى أمراض ضغط الدم والإمساك وسرطان الفم، ناهيك عن امتصاص الموارد المائية الشحيحة للبلاد، وابتلاع الجزء الأعظم من ميزانية الأسرة، على حساب حاجتها للغذاء والدواء والتعليم والادخار وتحسين مستوى المعيشة.
بيد أنّ الأخطر من كل ما تقدّم ، هو قدرة القات على الاستجابة للحداثة أكثر من المجتمع نفسه.. فقد تمكنت هذه الشجرة من الانخراط في العمليات الجديدة التي تستهدف تحديث النظام السياسي وتغيير نمط حياة المجتمع في مختلف المجالات.
استجاب القات لمقتضيات الديمقراطية التعددية، فدخل مجالس السياسة واخترق الحياة الداخلية للأحزاب السياسية ، واقتحم منتديات المثقفين والأدباء والفنانين وأصبح صنواً لنشاطهم الإبداعي.. ثم اتجه صوب ملتقيات النساء التي ضاقت بها تقاليد المجتمع الموروثة عن عهود العزلة والانغلاق والتمييز ضد المرأة ، ونجح في استقطاب النساء إلى فضائه الواسع تجسيداً لمبدأ المساواة !!.
مد القات نفوذه فاستولى على اهتمامات الشباب والطلاب ، وأثبت قدرته على سد الفراغ الذي يولده عجز المجتمع عن تلبية احتياجاتهم المادية والروحية المتنامية ، في عصر لا يجد الشباب لوجوده معنىً إلا ّ في حياة غنية بالقدرة على إشغال أوقات الفراغ ، وتنمية مواهب الشباب وتنويع خياراتهم وتوسيع مداركهم وخبراتهم .
أصبح القات وسيلة لا غنى عنها في إنجاز المهام التي تضطلع بها النخب الإدارية والعلمية والعسكرية والاقتصادية المعنية بصياغة استراتيجيات التنمية، ومعالجة مصاعب التطور، واستشراف آفاق المستقبل.
حتى النخب الدينية المعنية بحراسة الدين والقيم الدينية ودعم الفضيلة والأخلاق الحميدة في المجتمع ، أصبحت ترتبط هي الأخرى بوشائج وثيقة مع هذه الشجرة.. ولذلك فإنّ المجتهدين من (أهل العلم) في اليمن خالفوا غيرهم من علماء الدين في بعض البلدان الإسلامية، حيث أفتى علماؤنا بتحليل القات فيما حرمه آخرون على المسلمين في بلدانهم.
وكما يوجد القات في مجالس علماء الدين وقادة الأحزاب وملتقيات النساء والشباب والطلاب والمثقفين وأسواق المال ومرابع القبائل، وصالات الأفراح والعزاء، ومراكز البحوث ومعاهد تنمية الديمقراطية، فقد تمكن أيضا ً من الاستيلاء على قاعات التحرير في الصحف الحكومية والحزبية والمستقلة، واقتحام مقاهي الانترنت، وصالات الفنادق الراقية التي تتبارى في تخصيص بعض قاعاتها للنزلاء (الموالعة) ، وتزويدها بخدمات الاتصالات والشبكات الفضائية!!.
بقدر ما أثبتت شجرة القات قدرتها على الاستجابة للمتغيرات التي يشهدها المجتمع بتأثير العمليات السياسية الجديدة ، بقدر ما أثبتت هذه الشجرة أيضًا قدرتها على بلورة أشكال أخرى من الاستجابات المصاحبة لتنامي الطلب على القات.. فأصحاب مزارع القات لم يترددوا في تحديث طرق وأساليب الإنتاج والتسويق.. وتبعًا لذلك استجابت فروع اقتصادية أخرى لتحديث أساليب تعاملها مع حاجة مستهلكي القات لتطوير تقاليد التعاطي مع القات خصوصاًً وأنّ مزارعي ومستهلكي القات مؤمنون بالوحدة والديمقراطية والتعددية الحزبية ، وحريصون على صيانة مكاسب الثورة والجمهورية.. ولذلك شرعت المصانع في إنتاج أحدث المشروبات الغازية والمفروشات والأدخنة والمواد الحافظة ، وغيرها من الاستجابات اللازمة لإلحاق القات بعصر الحداثة والتنمية واقتصاد السوق..!!
هكذا أصبح القات بيرق أحزابنا، وعنوان ديمقراطيتنا ، ورمز خصوصيتنا.. ومصدر إلهام مبدعينا، وصنو نسائنا وجليس شبابنا وعبق تاريخنا!!.
وعليه، فلا غرابة أن يصبح القات جزءاً أصيلاً من نسيج تخلفنا، ومحدداً رئيسياً لنمط حياتنا وركودنا، ولصًا خفيف الظل يسرق مواردنا وصحتنا وأوقاتنا وأعمارنا!!.
الفقيد الراحل أحمد جابر عفيف كرس كثيراً من جهده ووقته قبل أن يتوفاه الله لتنشيط الجمعية اليمنية لمواجهة أضرار القات التي يرأسها.. وقد استرعى انتباهي أحد تقارير هذه الجمعية الذي يشير إلى أنّ المواطنين في بلادنا يضيعون عشرين مليار ساعة عمل يوميًا بسبب مضغ القات ، فيما ينفق المجتمع على القات بحسب تقديرات البنك الدولي ومنظمات دولية مختصة بالزراعة ، ما يزيد عن خمسة مليارات من الدولارات سنوياً، بالإضافة إلى استنزاف أكثر من 30 ٪ من الموارد المائية الشحيحة ، أصلاً لزراعة القات ، الأمر الذي ينذر بوقوع كارثة جفاف وتصحر في حالة استمرار الوضع الحالي للموارد المائية !!.
قبل حوالي عشر سنوات نظمت حكومة الأستاذ عبدالقادر باجمال مؤتمراً وطنياً لمناقشة خطر شجرة القات.. لكن المؤتمر عجز عن الاقتراب من مناطق الوجع واكتفى بإطلاق أطنان من التوصيات والتحذيرات التي أصابتنا بالكآبة بعد أن أصبح حضور القات طاغيًا في كل مجالات حياتنا.
إنّ إدراك الخطر القادم لا يكفي، ما لم تعززه إرادة سياسية لمواجهته، في إطار إستراتيجية وطنية تبدأ بتخفيض الطلب عليه.. وسيكون مفيداً جداًً لو اقتربنا قليلاً من منطقة الوجع بمناقشة فكرة تقليص أيام تعاطي القات بصورةٍ قانونية في العاصمة والمدن الرئيسة.. وهي خطوة لا غنى عنها في طريق الألف ميل.
مما له دلالة ان يتزامن الحضور الطاغي للقات الى جانب االاستعدادات لاستقبال مخرجات مؤتمر الحوار الوطني في اواخر شهر يناير 2014 بما هو الشهر الأول من العام الرابع عشر من القرن الحادي والعشرين في الألفية الثالثة الجديدة من تاريخ البشرية وسط معطيات تُشير إلى أنّ ثمة حضوراً خاملاً لليمن والعالم العربي والإسلامي على تخوم عصر ما بعد الحداثة.
بوسعنا القول ان ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تمكنت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين من نقل العمل الاجتماعي من مجال الإنتاج الصناعي إلى مجال الإنتاج الاليكتروني، وتجديد مُدخلات الصناعة إذ غدت تعتمد على المواد الخفيفة بدلاً من المواد الثقيلة، فيما تغيّرت الوسائط المنظمة للعَلاقة بين الإنتاج والتسويق والاستهلاك بواسطة إحلال إدارة المعلومات محل إدارة العمليات والأشياء ، وما ترتب على ذلك من تحولاتٍ جذرية في معايير الأرباح بوصفها المصدر الرئيسي لتراكم الثروة، خصوصًا بعد أن أسهمت التجارة الاليكترونية في تحقيق التحول من فائض القيمة الذي اكتشفته الماركسية إلى القيمة المضافة التي استولدتها العولمة!!
أما بُنية العمل والملكية فقد تبدلتا على نحوٍ مدهش، حيث اتسع الطابع الإجتماعي للملكية على نطاقٍ عالمي من خلال أسواق الأسهم والتجارة الاليكترونية، بطريقة أكثر فعالية من صيغة «الاشتراكية والثورة البروليتارية» التي كانت الماركسية تراهن عليها، فيما تراجع دور الطبقة العاملة التي تلعب دور القوة المحركة للعمل في ظل المعطيات التقنية للثورة الصناعية وأصبح العمل اليوم يعتمد على قوة محركة جديدة هي العاملون الذين يقرؤون المعطيات الرمزية والرقمية والمعلوماتية على شاشات أجهزة الحاسوب، ثم يقومون بتحويلها إلى صورٍ وأصواتٍ وأوامر ورسائل وقرارات وتعليمات تنتقل بسرعة الضوء من مواقع الإدارة إلى مواقع الإنتاج والتسويق داخل البلد الواحد وعلى مستوى الكوكب الأرضي بأسره.
تبدو صورة الحضور اليمني والعربي على تخوم الألفية الثالثة قاتمة ومضطربة، مقابل الحضور الفاعل لأممٍ وشعوب وثقافات أخرى نجحت في اختراق مشهد النظام العالمي الذي تحوّل إلى نظام كوني بلا حدود، على نحوٍ يصعب تجاهله والإنعزال عنه أو مقاومته ورفضه ، فيما أصبح معيار الدخول إليه والحضور الفاعل فيه هو مدى القدرة على امتلاك الحيوية الذهنية والفكرية، والاستفادة من الفتوحات المعرفية والمنجزات التقنية التي يتشكل على أساسها العالم الجديد في الزمن الجديد.
لا ريب في أنّ العقدين الأخيرين من القرن العشرين شكلا محطة هامة على تخوم الألفية الثالثة التي دشّنت بداية انتقال الحضارة الحديثة من زمن الثورة الصناعية التي حققت خلال ثلاثمائة عام ما لم تحققه حضارات البشرية خلال آلاف السنين إلى زمن الفتوحات اللامتناهية لثورة الاتصال والمعلومات التي نقلت الحضارة الصناعية الحديثة من العالمية إلى العولمة.
وبوسعنا القول أنّ خميرة الإنتقال من عالمية الحضارة الحديثة إلى عولمة حضارة ما بعد الحداثة، تشكلت ونضجت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بفعل تسارع فتوحات تكنولوجيا الإتصال والمعلومات التي أعلنت شهادة وفاة «المنظومة الاشتراكية العالمية» التي جاءت ولادتها بعد قيام الثورة البلشفية في بدايات القرن العشرين ودخول القوات السوفييتية الى بعض دول اوروبا الشرقية لتشكل أول محاولة للإنشقاق عن واحدية وعالمية الحضارة المعاصرة بواسطة عملية قيصرية اريقت على أطرافها دماء غزيرة، وأول تجربة تستخدم أدوات الأيديولوجيا لبناء «حضارة اشتراكية » مغايرة، ينقسم العالم على تربتها إلى عالمين وحضارتين وثقافتين معاصرتين «الاشتراكية والرأسمالية».
لسوء حظ العالم العربي والإسلامي أنّه كان إما ملحقًا بأحد العالمين المفترضين، أو محايدًا بينهما، أو خاضعًا لتهويمات طوباوية (دينية أو قومية) تفترض إمكانية بناء عالم ثالث وحضارة ثالثة على أساس الهوية الدينية أو القومية، والأسوأ من ذلك أنّ العالم العربي شهدَ خلال العقدين الأخيرين فشل كافة مشاريع التغيير المفترضة التي بشرت بها وقادتها تيارات فكرية وطنية أو قومية أو إسلامية، وقد تزامن دخول هذه المشاريع مأزق الركود والتراجع مع بدايات انتقال الحضارة المعاصرة من العالمية إلى العولمة ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة ومن النظام الدولي إلى النظام الكوني.
عندما انتقل العرب من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين كان نظامهم الإقليمي يشهد بدايات تحلله وتفككه على إثر غزو العراق للكويت، وانتشار القواعد العسكرية الأجنبية فوق الأراضي العربية.. وبعد دخول الألفية الثالثة الميلادية أصبح العالم العربي مكشوفًا بالكامل أمام تحديات العولمة وعالم ما بعد الحداثة.
في هذا السياق تضاءلت حوافز التفكير بالآليات والتصورات التي تساعد على تعويض العالم العربي ما خسره من فرصٍ تاريخية ضائعة خلال القرن العشرين المنصرم، وتمكنه من تجاوز فجوة التخلف والركود والانقطاع الحضاري والعودة إلى ميدان إبداع الحضارة.. حيث أصبح العرب مثقلين بهموم إضافية ذات طابع مركزي ومحوري. فالإسلام الذي نشره العرب في مختلف بقاع العالم وصنعوا به حضارتهم ، يتعرض للتشويه والتشكيك بصورةٍ مزدوجة، حيث يتم تقديمه من قبل الجماعات الإسلاموية المتطرفة على نحوٍ متشدد ومنغلق ودموي بخلافٍ تعاليمه السمحاء وقيمه الإنسانية ورصيده الحضاري المنفتح، فيما تسعى القوى اليمينية والعنصرية في الغرب للتحريض ضد الإسلام والعرب والمسلمين على خلفية الجرائم الدموية والمجازر الجماعية، وغيرها من أعمال الإرهاب التي ترتكبها جماعات ضالة ومتعصبة تحت يافطة الجهاد الإسلامي!!
أما الإرهاب الذي ارتبط بهجمات 11 سبتمبر على رموز السيادة الكونية والقوة الاقتصادية والجبروت العسكري في قلعة العولمة ومعقل ثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات، فقد تمكن من تحويل بدايات الألفية الثالثة الجديدة، إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين العولمة وما قبلها.. وتعميق الفجوة بين حضارة القرن الحادي والعشرين وبقايا حضارات القرون السابقة.. وتقويض الأنساق والتصورات الطوباوية والتهويمات الأيديولوجية (الدينية والقومية) الموروثة عن الحقب السابقة للألفية الثالثة الجديدة.
ومع بدء وإتساع المواجهة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر 2001م ، وجد العالم العربي نفسه في قلب هذه المواجهة الساخنة ، خصوصًا وأنّ الذين تورطوا في تلك الاعتداءات المشينة تخطيطًا وتمويلاً وتنفيذًا، جاؤوا منه، وحملوا هويته وثقافته، وتظاهروا بتبني قضاياه!!
هكذا انقضت الأعوام الماضية من القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة الميلادية.. وحين أطل علينا العام الرابع عشر قبل بضعة اسابيع ، وجد اليمنيون أنفسهم في دوامة مستمرة من الخسائر الجديدة التي تُضاف إلى خسائر سابقة تكبدوها حين أضاعوا فرصًا نهضوية تاريخية لا يمكن تعويضها!.
والحال أنّ جميع اليمنيين و العرب عموماً مطالبون اليوم باجتراح معارك دفاعية عن قضايا جديدة قديمة مثل : الحرية، السيادة، التنمية، النهضة .
في الوقت نفسه يتوجب على االيمنيين تأهيل أوضاعهم للإلتحاق بالعصر الجديد والاندماج في العالم الكوني.. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون الديمقراطية وإصلاح أوضاع التعليم والثقافة والإعلام ، وتبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب وتحريره من وصاية أشباه الإكليروس، وما يترتب على ذلك من نقدٍ للتأويلات السلفية المتحجرة للدين، وتقويض التوظيف السياسي للإسلام الذي أصبح اليوم اسلاماً سياسياً تتصارع على تربته قوى الثروة والسلطة، ويستخدمه السياسيون غطاءً (شرعياً) للصراع على العروش، وممارسة أساليب قذرة تبررها دهاليز ومواخيرالسياسة ولا تجيزها قيم الدين !!
لقد تأخر العالم العربي كثيرًا في حسم هذه القضايا طوال القرن الماضي، وعجز عن اكتشاف حقيقة الأوهام التي أصابته بالإخفاق في الإجابة على أسئلة النهضة، بما في ذلك الفشل الذريع للمشاريع السياسية (القومية والدينية) التي وعدت الناس بالحرية والسيادة والاستقلال والتنمية والعدالة والنهضة في عصر متدفق بالحيوية والفعالية والإنجاز والتجاوز.. وبتأثير ذلك الإنسداد وصل العالم العربي إلى مأزقه الحالي، وهو بطبيعة الحال مأزق النخب السياسية والفكرية والدينية والحزبية والتقليدية القديمة التي لم تدرك حتى الآن أنّها أضحت جزءًا من إرث الماضي، وعقبة أمام الاندماج بالعصر والحضارة والحداثة.
لعلّ مأزق هذه النخب العربية القديمة يعود إلى إفراطها في التعاطي مع اليوتوبيا والميثولوجيا في آنٍ واحدٍ على مستوى النسق الذهني للوعي والجهاز المفاهيمي للتفكير.. أماعلى صعيد الممارسة فقد كانت ولا زالت مخدّرة بأوهام الأيديولوجيا القومية والاشتراكية والدينية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأيديولوجيا تعد العدو الرئيسي للحقيقة والمعرفة.
وبعد انكشاف أليوتوبيا وإفلاس الأيديولوجيا أمام حقائق العصر، ظلّت هذه النخب أسيرةً لأوهامها العارية وشعاراتها الشعبوية وخطابها الإنشائي.. والأخطر من كل ذلك لا زالت هذه النخب المتكلسة تصر على إغلاق الطريق أمام تقدم نخب صاعدة من الجيل الجديد، ومصادرة حقها في ان تأخذ فرصتها ودورها في التفكير والممارسة.
ما من شكٍ في أنّ مأزق العالم العربي في نهاية القرن العشرين والألفية الثانية جاء محصلة لتراكم مريع من الإخفاقات والتراجعات التي تتالت منذ قرون طويلة، تمتد إلى ظهور السلفية المتشددة التي مارست مختلف أشكال العداء للعقل، وحاربت الفلسفة والعلوم الطبيعية والترجمة، واضطهدت الفلاسفة وعلماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق، وأحرقت كتبهم الثمينة، الأمر الذي مهّد لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وغروب شمس الحضارة العربية والإسلامية.
وزاد من خطورة هذا المأزق أنّه تزامن مع انتقال الحضارة الحديثة في نهاية الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.. ومن العالمية إلى العولمة.
يبقى القول أنّ بلوغ أهداف كهذه غير ممكن من دون بلورة مشروع نهضوي للتغيير الشامل، عبر بوابة التجديد الديمقراطي للمجتمع العربي بأفق الحرية والحداثة، بما هما نقيضان موضوعيان لأية وصاية على الدين والعقل والهوية والثقافة والمعرفة، أو إدعاء باحتكار الحقيقة، أو مصادرة لضرورة الحداثة واستبدالها بتحديث التخلف!!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.