هذا نص آخر رسالة بعثها لي الرئيس الصماد.. قبل فترة قريبة وهو متألم يكتب لي:“يا أخي بيوجعوني خبرتنا الإعلاميين.. رجعوا يهاجموا قراراتي.. والله ما اتخذت قراراً إلا وهو في مصلحة الناس ولا اتخذ قرارا إلا بعد أن يطلع عليه السيد القائد ويوافق عليه.. وأصحابنا رجعوا يهاجموني في الفيس بوك.. الله المستعان.. مفروض يتخاطبوا معي ويسألوا ويستوضحوا”.. وأضاف: “أنا خادم لهذه المسيرة القرآنية ولن يغيرني المنصب أو يؤثر على علاقاتي بالناس”.. واقسم الرئيس الشهيد في رسالته لي ب(الواتس آب) أكثر من ستة إيمان مغلظة بالله تعالى انه يستحيل أن يميل أو يجامل في أي قرار يتخذه على حساب مصلحة الوطن والمواطنين.. رسالته كانت صاعقة جداً لي.. لعدة أسباب.. أولاً انه فاجأني بالمراسلة وهو يقول لي: معك أخوك صالح الصماد.. فلم أكن أتوقع أن يتذكرني في زحمة مشاغله.. ثانياً: كانت رسالته تعكس ألماً شديداً في داخله من أصحابنا الإعلاميين والمفسبكين.. كان يبث ألمه ذلك إلى عندي.. …… رحمة الله تغشاه.. إن قلبي يبكيه بحرقة.. كانت تربطني به علاقة حميمية عميقة.. وكان لي ناصحاً أميناً.. وصادقاً كلما يلقاني وهو مبتسم.. ويضحك ويقول لي: لا تكن تنفعل وأنت بتكتب مقالات أو منشورات.. والموضوع الفلاني اهدأ فيه قليلاً وووو كان متابعا جيدا.. طلبت ذات يوم من مكتبه أن يحددوا لي موعداً معه.. فزعل عليهم وزعل مني.. وخلاهم يبعثوا لي رسالة (إس إم إس) هذا نصها: قال الرئيس الله المستعان عليك.. أنت واحد من داخل البيت وتعال في أي وقت لا تكن تستأذن.. كان تواضعه يحرجني.. فلم أكن أجرؤ على زيارته حتى لا أكون سبباً في تأخيره عن أي أعمال وطنية وإنسانية هي أولى بوقته وطاقته.. في عام 2008م بعد أيام من إعلان وقف الحرب الخامسة على صعدة… استقبلني الرئيس الشهيد صالح الصماد في منطقته بني معاذ بمديرية سحار عصراً.. كنا صياماً بأوائل شهر رمضان.. أجواء الحرب سائدة والوضع متوتر.. كانت المنطقة جبهة ملتهبة.. قاد سيارته الجيب تحت سلسلة من الجبال بين الألغام وعلى مرمى مدافع الجيش التي تواصل ارتكاب الخروقات.. كان الصماد حينها قائداً لجبهة بني معاذ مدافعاً عن صعدة.. يتكلم بوقار, ويرمقني بطرف عينيه مبتسما وهو يخبرني أن الطريق فيها بقايا ألغام لا يعرف أحد خرائطها.. ويؤشر بأصبعه إلى ظهور الجبال ليريني مواقع عسكرية لقوات علي محسن ويقول لي بيقصفونا من هنا ومن هنا.. قلت له: ما أنت قلق يقصفوك الآن طالما أنت قائد الجبهة المدافعة في المنطقة.. قال وهو يضحك: يا خة هي شهادة في سبيل الله وهي مطلبنا.. عز الله كنا نقدم لهم لا متارسهم ما نبالي ونرى آيات الله متجلية.. ظل يلف بي على سيارته من الساعة الثالثة عصراً إلى أذان المغرب قبل أن نتناول سوياً في منزله وجبتي الإفطار والعشاء.. وانتقل من عنده إلى المقيل مع السيد القائد- حفظه الله- بجلسة ثنائية لعدة ساعات في ديوان صغير ومتواضع من البلك بإحدى المناطق. لم يترك الصماد منزلاً في منطقة بني معاذ طاله القصف والخراب من قبل السلطة إلا وأوقفني على أطلاله ونزلنا لمشاهدة بقاياه سويا.. ويقول لي: التقط صوراً لكل جزء من الدمار لتنشرها فيرى اليمنيون بشاعة الظلم الذي لحق بهؤلاء المواطنين المستضعفين الذين خرب الجيش بيوتهم ومساجدهم ومزارعهم بدون سبب.. كان متألما جداً على أوضاع الناس ويقسم أن لو استشهاده يصلح أوضاعهم لمنحهم روحه بلا تردد.. التقطنا يومها أكثر من مائتي صورة للخراب والدمار.. ورغم امتلاكه للمال ومزارع عنب ورمان وبرتقال فقد كان متواضعا وأفراد أسرته في حياته وطريقة عيشه وأثاث منزله.. في عام 2012 لقيته في سوق ضحيان.. فقال لي اطلع معه فوق سيارته.. وطلب من مرافقيه أن ينزلوا من السيارة.. قلت له ليش نزلتهم.. قال ودي أسايرك لحالي لأجل أتجمل فيك.. تحرك من فوره بين طرقات ترابية تخللت عدة مناطق حتى وصلنا إلى مزارع في بني معاذ.. ونادى بعض العمال لديه في المزارع وتحدث معهم بأريحية وحب ولطف كإخوة له.. وطلب منهم سلال فارغة.. فاحضروها فحملها بيديه وطلب مني أن اتبعه.. دخلنا مزرعة رمان.. وبدأ يقطف بيديه كميات كبيرة من الثمار ويملأ بها السلة الأولى والثانية.. ثم حملهما إلى صندوق سيارته.. ثم سأل أصحابه العمال عن أجود بستان للعنب الأسود بين بساتينه الصغيرة.. ثم ذهبنا إلى أحد البساتين.. قال هذا العنب لا أعطيه إلا هدية للعزيزين علي.. ثم ملأ سلتين أخريين اقتطفهما بنفسه.. كان يقشر لي الرمان بيديه الطاهرتين الكريمتين ويناولني.. ثم أدخلني مزرعة قات وقطف منها ملء حضنه من أجود الغرسات.. وناولني.. ثم صعدنا على سيارته وساقها بنا إلى مدينة صعدة حتى باب منزل طنت استأجره مع أطفالي.. ونزل من السيارة ورفض أن أحمل بنفسي سلال الفاكهة التي أهداني بل أصر على أن يحملها بنفسه إلى مدخل المنزل.. هكذا كان عواضعه ودماثة أخلاقه وكرم وسمو سجيته.. هكذا كان يعمل مع كثير من الناس الذين تربطه بهم علاقات حميمية.. وهكذا كان يبحث عن الأجر ويعمل على تجميعه ليسبق في فعل الخير.. اذكر ونحن متجهون إلى منزلي.. سألته عن بدايات حياته.. قال درست وتخرجت.. لكن أساس حياتي إنني مزارع كواحد من هؤلاء المواطنين المستضعفين.. قلت له قرأت علم؟.. قال كثير كثير وشبعنا مقراً.. فسألته كيف اندفعت وتأثرت بأنصار الله.. أطلق تنهيدة من صدره وقال: عرفت فيهم معنى الرجولة الحقيقية.. هؤلاء رجال ولهذا انطلقت معهم بقوة.. رحم الله الرئيس الشهيد صالح الصماد.. بقدر ما أغبطه على ما منحه الله من فضل الشهادة بقدر ما أنا حزين على فراقه.. بعد معركة أنصار الله مع بن عزيز وانتصار المستضعفين على غطرسته.. ذهبت زيارة إلى منزلي في مديرية سفيان.. وبعد أربع ساعات من وصولي إلى المنزل تلقيت اتصالاً من رقم مجهول.. أجبت عليه: من معي.. قال: معك صالح الصماد.. وتبادلنا التحايا.. ثم قال لي: بلغني أنك في بيتك بسفيان.. قلت له نعم.. قال المسافة بيني وبينك عشرين دقيقة هب لك سيارة توصلك إلى عندي في منطقة جوفان وأنا باحاسبها.. تعال خزن معنا.. تحركت من فوري..وأعتقدته كان في زيارة عابرة.. فوجئت بحشد كبير جدا من قبائل سفيان في مجلس واسع يستمعون لمحاضرة من الشهيد الصماد .. جلست بقربه.. وبعد انتهاء المحاضرة صعدت بجواره على سيارته الشاص (طقم) وكان يقود بنفسه.. وقطعنا مسافات قليلة بين شعاب ووديان وجبال لنعتلي احد جبال سفيان في منطقة قريبة من العمشية حتى وصلنا بالسيارة الى قمة الجبل وهناك كان ينتظرنا العزيز المجاهد حسن صلاح المراني (ابوطه) .. صلينا المغرب وتعشينا.. ثم جلسنا نتحدث لقرابة ساعتين.. علمت أن شهيدنا العظيم كان قد مضى عليه أكثر من أسبوعين على رأس ذلك الجبل في دشمة متواضعة لا تقيه برداً ولا غباراً.. يهبط في النهار للتنقل من قرية إلى قرية ليتلمس هموم الناس ويعالج مشاكل الثارات بين قبائل سفيان.. ويحاضرهم ويثقفهم بثقافة القرآن.. واستمر بعدها في المنطقة لفترة غير قصيرة بعيدا عن أولاده وأسرته.. كان مجاهدا عمليا يتحرك في كل ميدان . ويقترب من قلوب الناس جميعا.. وكان كل من عرفه وخالطه يحبه ويتوق إلى مصاحبته للأبد والتضحية بين يديه.. كان مربيا للرجال.. ومدرسة للرجولة والبطولة.. إذا أطل بوجهه تهللت الأسارير وابتسمت الوجوه.. حبه تملك قلبي.. وظللت على تواصل دائم معه إلى قبل شهر ونصف .. ذات مساء ليلة إصداره قرارات تعيين النائب العام ماجد الدربابي ومسؤولين آخرين في الدولة.. بعث لي عدة رسائل على (الواتس آب) يطمئن على صحتي ويعرض علي خدماته.. وهو يشكو بألم من ردة فعل بعض إعلاميي أنصار الله تجاه القرارات المعلنة.. وتحدثنا مطولاً في قضايا كثيرة.. ليلتها دمعت عيني لشدة تواضع رسالته الأخيرة نهاية المحادثة التي كتبها لي قائلاً: أي خدمة لك أنا مستعد ليل أو نهار.. أنا خادم لأقدامكم يا مجاهدين..