أزقة صنعاء الجميلة وشوارعها الضيقة, بيوتها المرصوصة كحبات اللؤلؤ المنشود, رائحة القهوة في الصباح والبخور في المساء تسلب روح العاشق المتيم بها, يتراقص اطفالها طربا مع كل لعبة يمارسونها, كرة القدم احدى الالعاب التي سلبت عقولهم, لا يهم أن كانت كرة حقيقة او مصنوعة من الملابس (البالية) او حتى من أوراق الأشجار, كان يهم أطفال صنعاء ممارستها والاستمتاع بها, في أواخر سبعينيات القرن الماضي كانت تلعب بجانب الأراضي الزارعية, الأراضي التي غزاها التطور العمراني المذهل فيما بعد, كان الأطفال يستمتعون في الأرضي المحاذية لشارع الزبيري مقابل باب البلقة, هناك كانت قد تطورت كرة القدم وأصبح التنافس في هذه الأماكن أقوى واشد, فأصبح كل شاب يشكل له فريقاً ويتنافسون على ضم أفضل اللاعبين لفرقهم, اتفقت اغلب الفرق وقادتها على كل اللاعبين إلا طفل صغير كل فريق لا يرغب به, فمنظره الخارجي وجسمه النحيل وعمره الذي لم يتجاوز الثامنة لا يشجعهم لضمه, احدهم أخذه مضطرا للنقص الذي في فريقه, لم يكن يعلم ان هذا الفتى سيصبح يوما ما الأفضل في البلاد، تعودنا أن تكون البدايات صعبة وكذلك مع بطل قصتنا الذي تعب كثيرا حتى وصل إلى القمة، فمن دوري الإحياء وفريق الحي الذي يسكن فيه، وكما يقولون أن المعاناة تولد الإبداع فتلك المعاناة والخشونة التي كان يواجهها في الملاعب الترابية نصحه الكثير الذهاب إلى أهلي صنعاء هناك سيجد لموهبته طريقا صالحا للنجومية، بدأ في فريق البراعم شبلا خجولا يطارد كرة القدم كل ما همس زملاؤه في إذنه، ومرت الأيام اشتد عودة وتجرأ في مقارعة منهم اكبر منه، وثق جدا بإمكاناته وأصبح يتجاوز خصومه كزئبق يتجاوز الجدران والقلاع المحصنة, كان يتمتع بسهولة مفرطة في الهروب بالكرة من بين أقدام المدافعين, وكان يملك مرونة وإحساسا مرهفا في صناعة الكرات الحريرية لزملائه المهاجمين, بل كان يتواجد في قدميه مجموعة من الآلات الموسيقية المبهرة التي يخرج منها أجمل الالحان وأطيب أنواع الموسيقى التي تطرب العيون قبل الأذان, خلط بين الموسيقى العذبة والرقص بالكرة بسلاسة أمتع الجمهور وحتى اللاعبين المنافسين, وأجبرهم على مرور أسمه في كل لسان وأصبح مختار اليريمي هو الرسام الذي كان ينحت بسيقانه أجمل اللوحات في كل ملاعب الجمهورية اليمنية من بداية عقد الثمانينات إلى نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي, كانت فترة الكابتن مختار اليريمي مع النادي الأهلي ومع المنتخبات الوطنية, شكل مع أولاد عبدالله الصنعاني واحمد الصنعاني ثلاثيا مرعبا في وسط الميدان للأهلي, كان الجمهور يطلق الأغاني والأهازيج بهذا الوسط المدمر والذي يقطع الكرات وحتى الهواء على الفريق المنافس, وما أجمل أن تصل الكرة إلى مختار اليريمي الذي حمل على كتفيه العديد من المهاجمين, كان الزئبق كما كان الاعلام والجمهور يحبون أن ينادوه يفرد سيقانه ويحرك قدميه بانسيابية ويجعلها في خدمة فريقه وبطرق مذهلة, مختار جمع في لعبه كل صفات اللاعب الأنيق والوسط العصري الذي يقدم المتعة وبنفس الوقت يقدم اللعب الايجابي والذي يخدم بكل تأكيد الفنيلة التي يرتديها والشعار الذي يحمله في فترة الثمانينات كان التنافس بين الأهلي والوحدة مثيرا جدا, صراع شريف داخل ميدان كرة القدم, من يكون سببا في فوز احدهم على الأخر يصبح بطلا عند جمهور فريقه, ويراه العشاق البطل والملهم لهم وتتزين جدران منزلهم بصورة وهو يركل الكرة بقدمه, ويظل المشجع يشرح تفاصيل الهدف الذي سجله لأولاده وأحفاده, ويوما ما كان مختار اليريمي بطلا للكتيبة الحمراء عندما وضع الكرة في الزاوية 90 لحارس الوحدة الصنعاني, وضع هذا الهدف فريق الأهلي على منصة التتويج وحمل الدرع الذي حسمه ذكاء وفنيات الزئبق مختار اليريمي.. كرة القدم حلم وطموح وتحدي ومختار اليريمي تجاوز هذه المراحل الثلاث, ونحت اسمه في احدى قاعات النادي الأهلي وكان دائما عامل مساعد لكل المنتخبات الوطنية, لم يبخل او يتهاون او يتهرب عن خدمة الوطن وارتداء الشعار, ربما كان للمدربون تكتيكات مختلفة لا تناسب فنيات ومهارات الزئبق, تحدث الجمهور عن ظلم واجه هذا اللاعب مع المنتخبات الوطنية, عن أبعاد واستبعاد في بعض الأحيان, ولكنه رفض كل وجهات النظر التي خرجت من بين كراسي المدرجات وهذا رفضه لم يكن انقاصا في حق الجمهور العريض الذي يحبه ولكن احتراما لوجهات النظر التي تتبعها الأجهزة الفنية في المنتخبات الوطنية, مختار اليريمي الذي كانت كرة القدم قاسية أحيانا معه ظل البطل الذي تغنى به الجمهور وكان رد الجماهير هو الأهم في مسيرة الزئبق, ودع كرة القدم بعد ان عرف ان ركبتاه لم تعد تستطيع أن تحمله داخل ميدان كرة القدم, ترك مكانه لغيره وذهب بعيدا عنها, وظل ذلك الحب والعشق في قلبه لكن الأيام لا تستطيع ان تعود كما نشاء وترحل إلى الأمام كما يشاء الله !