لم يكن الوطن العربي في أي مرحلة من تاريخه الحديث مجرد مسرح للصراع بين القوى الدولية، بل كان على الدوام عنصراً فاعلاً في صياغة التوازنات العالمية، سواء من خلال موقعه الجغرافي الفريد، أو من خلال دوره في معادلات الطاقة والتجارة الدولية، أو من خلال مكانته الرمزية في وعي شعوب العالم الإسلامي. وفي ظل التحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، يبرز الوطن العربي مجدداً كلاعب مركزي في رسم ملامح نظام دولي جديد يتسم بالتعددية القطبية وتراجع الهيمنة التقليدية. خلال العقود الماضية، سعت الولاياتالمتحدة إلى فرض نظام أحادي القطب، تمحور حول إحكام السيطرة على الممرات البحرية والثروات الاستراتيجية، وجعل "أمن الكيان الإسرائيلي" محوراً ثابتاً في السياسة الأمريكية بالمنطقة. غير أن العقود الثلاثة الأخيرة، رغم ما شهدته من اجتياحات عسكرية وفرض وقائع سياسية عبر القوة، كشفت في النهاية حدود هذا النموذج وأبرزت هشاشته أمام قوى صاعدة غير تقليدية تمتلك أدوات مختلفة للصراع، تعتمد على العقيدة والصبر والتكتيك غير المتماثل، أكثر مما تعتمد على السلاح المتفوق. ما بعد "طوفان الأقصى" مثّل نقطة تحوّل تاريخية في هذا السياق. فقد أظهرت المواجهة أن قوة الكيان الإسرائيلي تآكلت، وأن الردع الذي لطالما ارتكزت عليه عقيدته الأمنية قد تم تحطيمه من الداخل. نجاح فصائل المقاومة في إدارة المعركة بمرونة فائقة، وتمكنها من فرض قواعد اشتباك جديدة، واستخدامها المتقن للوحدة الجغرافية للمواجهة من غزة إلى الضفة، ومن لبنان إلى اليمن كشف عن جبهة متماسكة تملك من وسائل التأثير ما يُربك حسابات القوى العظمى قبل الإقليمية.. أما سقوط النظام السوري، الحليف التقليدي لروسيا، فقد كشف عن حدود القدرة الروسية في حماية شركائها، وأعاد طرح سؤال محوري: ما مدى استعداد موسكو للانخراط في صراع طويل ومعقّد في منطقة لا تملك فيها القدرة على التفوق النوعي؟ الغياب الروسي عن الرد أو الحسم، ترافق مع انشغالها في صراعاتها الأوروبية، عزز من صورة انكفاء الدور الروسي في الشرق الأوسط، وأعاد تموضع بعض الدول الإقليمية في خانة البحث عن بدائل ضامنة. في المقابل، برزت اليمن كقوة صاعدة ذات طابع إقليمي، قادرة على فرض معادلات ردع بحرية وسياسية وعسكرية في آن واحد، العدوان الثلاثي (الأمريكي- البريطاني- الإسرائيلي) على اليمن، ورغم كثافته واستمراره لأسابيع، انتهى دون تحقيق أهدافه الاستراتيجية، بل فرضت صنعاء معادلة جديدة: وقف العمليات ضد السفن الأمريكية مقابل وقف العدوان، دون المساس بالعمليات الموجهة ضد الكيان الإسرائيلي، وهي سابقة نوعية في طبيعة الاشتباك الإقليمي، تؤكد أن اللاعبين غير التقليديين باتوا اليوم من يصنعون "الخطوط الحمراء"، ويحددون شروط التهدئة والمواجهة. العدوان الإسرائيلي على إيران بدوره شكّل اختباراً لقدرة طهران على الصمود والردع، الردّ الإيراني لم يكن تقليدياً، بل كسر كل التوقعات الغربية: صواريخ دقيقة، كثيفة، وصلت إلى عمق الأراضي المحتلة، أربكت الدفاعات الإسرائيلية وكشفت عن خلل استراتيجي في منظومة الردع التي بنت عليها تل أبيب تفوقها طوال العقود الماضية، هذه المواجهة لم تُسقط فقط صورة "إسرائيل التي لا تُقهر"، بل أجبرت واشنطن والعواصم الغربية على التريّث، بعدما تبيّن أن التدخل العسكري المباشر بات محفوفاً بمخاطر حرب شاملة يصعب التحكم بمسارها. وسط هذا المشهد المتغيّر، يبدو أن ميزان القوى الإقليمي لم يعد بيد القوى التقليدية، بل بات يتوزع بين قوى مرنة وعقائدية، تمتلك شبكات دعم وتحالفات ممتدة من طهران إلى صنعاء، ومن بغداد إلى بيروت، ومن غزة إلى البحر الأحمر، محور الجهاد والمقاومة، الذي طالما قُدّم بوصفه هامشياً أو فوضوياً، يتقدم اليوم إلى واجهة التأثير الإقليمي والدولي، لا بوصفه حركة رفض فحسب، بل كمشروع ردع واستراتيجية متكاملة تفرض حضورها على طاولات القرار الدولي. في هذا الإطار، تبدو الهيمنة الأمريكية في تراجع بنيوي، لا لأسباب داخلية فقط، بل لأن أدواتها القديمة لم تعد مجدية في التعامل مع واقع عربي- إسلامي تغير جذرياً. لم تعد واشنطن قادرة على ضمان أمن الكيان الإسرائيلي، ولا على تطويع القوى المحلية، ولا حتى على حشد توافق دولي في حروبها المستعجلة، أما إسرائيل، التي كانت تُقدّم باعتبارها القوة الإقليمية الأهم، فهي اليوم تعاني أزمة ثقة داخلية وارتباكاً استراتيجياً بعد انكشاف حدود قوتها أمام صواريخ المقاومة وطائراتها المسيّرة. أما إيران، فقد أثبتت أنها لم تعُد لاعباً إقليمياً فقط، بل قوة مرشحة لتكون فاعلاً دولياً وازناً، تملك من المقومات الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية ما يؤهلها لذلك، كما تملك شبكة من الحلفاء أثبتت أنها أكثر تأثيراً من الجيوش النظامية في بعض المناطق، تطورها في مجالات الصواريخ والمسيّرات والقدرة النووية، يجعل منها دولة ردع إقليمي، بينما تحالفاتها مع روسيا والصين تفتح لها أبواباً إضافية في النظام العالمي المتعدد الأقطاب. لقد أثبتت التطورات الأخيرة أن الوطن العربي ليس هامشاً جغرافياً في صراع الكبار، بل ساحة إنتاج موازين القوة الجديدة، فكما كان مركز الصراع، هو أيضاً اليوم أحد روافع التحول في النظام الدولي، والمقاومة التي طالما نُظر إليها باعتبارها اضطراباً مؤقتاً أصبحت اليوم جزءاً أساسياً من معادلة الاستقرار والتغيير، وباتت اليوم تُدير مصالحها من موقع قوة. التحول الجاري ليس نهائياً، ولا يخلو من التحديات، لكنه واضح في ملامحه: الهيمنة الأميركية تتآكل، النفوذ الإسرائيلي يتراجع، الدور الروسي يتضاءل، فيما يتقدم محور الجهاد والمقاومة ببطء ولكن بثبات، ليعيد صياغة المعادلات من جديد، وفي كل ذلك، تبقى المنطقة العربية هي قلب الصراع، ومفتاح التوازن، وساحة إعادة التشكيل الكبرى.