منذ بداية القرن العشرين، أصبحت المنطقة العربية مسرحاً لتدخلات القوى الكبرى، التي سعت إلى إعادة تشكيل خريطة النظام الإقليمي العربي بما يخدم مصالحها، فلم تكن هذه التدخلات عرضية أو مؤقتة، بل كانت جزءاً من استراتيجية مدروسة تهدف إلى استغلال الموارد الطبيعية وتعزيز النفوذ الجيوسياسي لتلك القوى. ففي البداية، كان الصراع بين الدولة العثمانية وأوروبا الغربية محور التحولات الكبرى في المنطقة، دفعت أوروبا الغربية نحو دعم التيار القومي العربي، مستغلة رغبة العرب في التخلص من الحكم العثماني، وهذا ما أدى إلى تقاسم النفوذ في المنطقة بين القوى الاستعمارية، وكانت اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور من أهم الأدوات التي استخدمتها بريطانيا وفرنسا لتقسيم المنطقة وإضعاف الوحدة العربية، حيث نتج عن هذه الاتفاقات تجزئة الوطن العربي وتأسيس دولة الكيان الإسرائيلي. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، ازدادت تعقيدات النظام الإقليمي العربي بشكل ملحوظ، وأصبحت المنطقة العربية ساحة للتنافس بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي، حيث سعت كل قوة منهما إلى كسب دول عربية إلى صفها، مما أدى إلى انقسام الدول العربية بين محورين: الأول تقدمي وتقوده مصر ويتبنى الأفكار الاشتراكية ويقف إلى جانب السوفييت، والثاني محافظ وتقوده السعودية ويلتزم بالتحالف مع الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة، هذا الانقسام لم يكن مجرد اختلاف سياسي، بل تحول إلى صراع داخلي بين الدول العربية نفسها، وظهرت ما عرفت لاحقاً بالحرب الباردة العربية كانعكاس لحالة الصراع في قمة النظام الدولي، وهو ما أضعف النظام الإقليمي وزاد من تبعية الدول العربية للقوى الكبرى. لم يكن هذا التحالف مع القوى الدولية اختياراً حراً في كثير من الأحيان، بل فرضته ظروف سياسية واقتصادية وأمنية معقدة، مما جعل من الصعب على الدول العربية بناء نظام إقليمي مستقل وفعال، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، استمرت الهيمنة الأمريكية في تشكيل التحالفات الإقليمية بما يخدم مصالحها. فعلى سبيل المثال، عززت الولاياتالمتحدة من دعمها للتيار المحافظ في المنطقة، والذي يُعرف بمحور الاعتدال. في ظل هذه الأوضاع، برزت قوى غير رسمية سعت إلى مقاومة هذه الهيمنة الغربية والإسرائيلية على المنطقة، كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفاؤها في سوريا، وحركات المقاومة في لبنان والعراق واليمن وفلسطين، في طليعة هذا التوجه، وتمثلت استراتيجية هذه القوى في دعم حركات المقاومة الفلسطينية، ليس فقط بالدعم العسكري والمالي، بل أيضاً من خلال الدبلوماسية الشعبية والعمل الميداني الذي أثبت فعاليته في منع التدخلات الخارجية والدفاع عن الأمن القومي العربي، هذه الجهود أدت إلى إبقاء القضية الفلسطينية حية في الوعي العربي والدولي، وأسهمت في تغيير المعادلة التقليدية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث أصبحت المقاومة المسلحة خياراً مشروعاً ومؤثراً في مواجهة الاحتلال. ومع ذلك، لم يكن تأثير محور الجهاد والمقاومة محصوراً في الدعم العسكري والمالي فقط، بل امتد إلى التأثير على الساحة السياسية والإعلامية، فعلى سبيل المثال، تم إنشاء قنوات إعلامية ومنابر دولية تهدف إلى تسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني وفضح الجرائم الإسرائيلية، هذا النشاط الإعلامي والسياسي أسهم في حشد الدعم الشعبي العربي والإسلامي والدولي للقضية الفلسطينية، مما حافظ على بقاء القضية في صدارة الاهتمامات الإقليمية والدولية. لكن على الرغم من هذه الجهود، لم يكن المشهد الإقليمي بمنأى عن التحولات الكبرى، فمع توقيع بعض الدول العربية على اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، تحت ما يعرف باتفاقيات إبراهيم، شهدت القضية الفلسطينية تراجعاً كبيراً في مركزيتها ضمن السياسة الخارجية لبعض الدول العربية، كانت هذه الاتفاقيات بمثابة تحول استراتيجي في العلاقات العربية-الإسرائيلية، فقد أدت هذه الاتفاقيات إلى تعميق الانقسام داخل الصف الفلسطيني، بينما أدانت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير هذه الاتفاقيات واعتبرتها خيانة للقضية الفلسطينية، رأت بعض الفصائل الأخرى، خصوصاً تلك المدعومة من محور الجهاد والمقاومة، في هذه التطورات فرصة لتعزيز مواقفها الرافضة للتسوية السياسية مع إسرائيل، هذا الانقسام الداخلي زاد من تعقيد المشهد السياسي الفلسطيني، وأضعف من قدرة الفلسطينيين على مواجهة التحديات المتزايدة التي تفرضها التطورات الإقليمية. وتأثرت الديناميكيات الإقليمية أيضاً بتوقيع هذه الاتفاقيات، حيث فتحت الباب أمام تعاون استراتيجي بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في مجالات متعددة، بما في ذلك الأمن والتكنولوجيا والاقتصاد، هذا التعاون الجديد يعزز من قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها الإقليمية دون الحاجة إلى تقديم تنازلات للفلسطينيين، حيث أظهرت استعداد بعض الدول لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والدخول في تحالف استراتيجي مع الكيان الإسرائيلي لمواجهة محور الجهاد والمقاومة تحت ذريعة ايقاف المد الايراني. ومع ذلك، لم تفقد القضية الفلسطينية كل أدوات التأثير، حيث إن التطبيع أثار ردود فعل قوية من قطاعات واسعة من الشعوب العربية، التي لا تزال ترى في القضية الفلسطينية جزءاً أساسياً من هويتها القومية والدينية. في المقابل، دفعت هذه التطورات الفصائل الفلسطينية إلى القيام بعملية استباقية وتمثلت في عملية طوفان الأقصى المباركة، والتي تهدف الفصائل الفلسطينية من خلالها افشال عملية التطبيع الاخيرة، مما سيعيد تشكيل التحالفات الإقليمية بطريقة تتيح للفلسطينيين مقاومة الضغوط الناتجة عن التطبيع، لكن على الرغم من ذلك، تبقى التحديات التي يفرضها التطبيع على القضية الفلسطينية كبيرة ومعقدة. يمكن القول إن النظام الإقليمي العربي لا يزال يواجه تحديات كبيرة نتيجة لاختراق القوى الدولية وتشكل التحالفات وفقاً لمصالح تلك القوى، وفي ظل هذه الظروف، على الرغم من أن محور الجهاد والمقاومة لعب دوراً مهماً في دعم القضية الفلسطينية، فإن تأثيره لا يزال مهدداً بتطورات إقليمية ودولية متسارعة، مثل اتفاقيات التطبيع التي أضعفت الموقف الفلسطيني وأعادت تشكيل العلاقات في المنطقة، في هذا السياق، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للنظام الإقليمي العربي أن يتجاوز هذه التحديات ويستعيد استقلالية قراره السياسي بعيداً عن تأثيرات القوى الخارجية؟.