في مقالٍ سابق نُشر في صحيفة "26سبتمبر" بعنوان "محور الجهاد والمقاومة يفرض نفسه لاعباً في ساحة الكبار"، تناولنا التحولات الإقليمية والدولية التي مكّنت قوى غير تقليدية في المنطقة العربية من فرض نفسها على معادلات الصراع والتوازن، وإعادة تشكيل ميزان الردع الإقليمي، وركّزنا حينها على الأبعاد السياسية والعسكرية لصعود محور الجهاد والمقاومة، من اليمن إلى غزة، ومن لبنان إلى طهران. لكن لفهم هذا الصعود بصورة أشمل، لا بد من الغوص في الركائز الفكرية والسياسية التي شكّلت هوية هذا المحور، وجعلته يتحرك خارج استقطابات القوى الكبرى، بل ويخلق له موقعًا مستقلًا لا يُستوعب داخل الثنائية التقليدية للصراعات العالمية بين الشرق والغرب. إن ما جعل محور الجهاد والمقاومة يفرض نفسه كفاعل إقليمي ودولي مؤثر، ليس مجرد تحالف ظرفي بين أطراف متفرقة، بل تلك الوحدة العضوية التي تأسست على قاعدة مشتركة من الرؤية، والهدف، والقضية، والعدو، لقد كانت القضية الفلسطينية هي المحور الذي التقت عنده هذه القوى، لا كشعار دعائي أو موقف عاطفي، بل كعنوان جامع لصراع حضاري طويل الأمد، تجاوز البُعد الجغرافي ليأخذ طابعًا أممياً، فعندما همشت الأنظمة العربية الرسمية هذه القضية، بدءًا من اتفاقية كامب ديفيد، ومرورًا بمسار مدريد وأوسلو، كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عقب انتصار ثورتها، تعيد الاعتبار لهذه القضية عبر ربطها بمنظومة الأمة، لا بمنظومة الدولة القطرية الوظيفية، ومنذ ذلك الحين، تحوّل مسار الصراع من المستوى الرسمي المتخاذل إلى المستوى الشعبي- المقاوم، وبرزت قوى جديدة ذات طابع غير حكومي، تمثل ضمير الأمة وقوة ردعها المتنامية. لقد أجمع محور الجهاد والمقاومة، بأطرافه المختلفة، على أن القضية الفلسطينية ليست شأناً فلسطينياً داخلياً، ولا صراعاً حدودياً عابراً، بل قضية الأمة الإسلامية بأسرها، وواجبها الجهادي في التحرير، والمواجهة، والصمود، وهذه الرؤية لم تكن تنظيراً فكرياً معزولاً، بل انعكست في أداء ميداني، وعقيدة صلبة، وبنية مستقلة، أخذت تتراكم عبر سنوات من المعاناة، والحصار، والاستهداف، لقد كانت التحديات التي واجهت كل طرف من أطراف المحور، سواء في غزة أو صنعاء أو بيروت أو بغداد، هي المولد الحقيقي لمفهوم الاستقلالية، ولولا هذه التحديات لما استطاعت هذه الأطراف بناء ذاتها، وصياغة قرارها بعيداً عن وصاية الخارج. فغزة، التي خاضت أربع حروب كبرى وحُوصرت حتى في لقمة عيشها، استطاعت أن تبني نموذجاً فريداً للمقاومة المعتمدة على ذاتها، والمتجاوزة لواقع الانقسام والاحتواء، ولبنان، الذي واجه الاحتلال الإسرائيلي لعقود، أنتج مقاومة نوعية استطاعت دحر الاحتلال وفرض معادلات ردع مستدامة، واليمن، الذي يتعرض لعدوان وحصار أمريكي- سعودي للعام العاشر، لم يُهزم، بل صعد إلى مرتبة فاعل استراتيجي يُعيد تشكيل معادلات الأمن البحري الإقليمي والدولي، أما العراق، فرغم تفكيكه بعد الغزو الأمريكي، أعاد الحشد الشعبي الروح السيادية للقرار العراقي، رافضاً أن يكون مجرد ساحة للتصفيات الدولية، كل هذه التحديات صنعت من المحور مدرسة في الصمود، ومختبراً لبناء القوة الذاتية، ومصدراً لإرادة سياسية حرة. ولأن الاستقلالية تتطلب توازناً دقيقاً بين التعاون وعدم التبعية، فقد ميّز محور الجهاد والمقاومة بين بناء العلاقات، وبين السقوط في العمالة، فهو يرتبط بعلاقات استراتيجية مع القوى التي تدعم قضاياه دون أن يسمح لها بإملاء قراره أو فرض توجهاتها عليه، حتى العلاقة بإيران، الداعم الأول للمحور، لم تتحول يوماً إلى وصاية أو تبعية، بل ظلت محكومة بمنطق الشراكة، فكل طرف من أطراف المحور يحتفظ بقراره السيادي، ويمتلك هامشاً مستقلاً في تحديد توقيت وشكل مشاركته في أي مواجهة، أو قراره إزاء قضاياه الداخلية، وهذا التوازن هو ما جعل هذا المحور غير قابل للاحتواء، وغير مرتهن في قراراته لأجندة دولية، بخلاف معظم الأنظمة الرسمية التي فقدت استقلالها تحت ثقل التحالفات الغربية. ومن هنا يبرز مبدأ "لا شرقية ولا غربية" ليس كشعار أطلقته الثورة الإسلامية في إيران فقط، بل كمبدأ استراتيجي أصبحت تتبناه قوى المقاومة في فلسطينولبنانواليمنوالعراق، ويشكل الأرضية الفكرية والسياسية لهذا المحور، فالمحور لا يبحث عن حماية أمريكية، ولا يتحالف مع موسكو أو بكين على حساب استقلاله، بل ينسج شبكة علاقات من موقع الفاعل الحر، ويتعامل مع العالم من موقع الندية، لا الاستجداء، وهو بهذا يقدم نموذجاً جديداً للتموضع الإقليمي، لا يقوم على التبعية لمحور دولي، بل على الاستقلال في القرار، والتكامل في الأدوار، والوفاء للقضية. لكن رغم هذا الصعود، لا تزال التحديات قائمة، والطريق نحو تحقيق حضور أكثر فاعلية إقليمياً ودولياً يتطلب تعزيز بنية المحور على أكثر من صعيد، فالمحور يحتاج مستقبلاً إلى تطوير أدواته الإعلامية لتخاطب العالم بلغته وتكشف زيف الرواية الغربية، كما يحتاج إلى بناء مؤسسات بحث وتخطيط، تُنتج المعرفة الاستراتيجية، وتُقنِّن الفعل السياسي والمقاوم، وتُخرِج القرار من رد الفعل إلى المبادرة والتأثير، كذلك، فإن تعزيز البُعد الاقتصادي الذاتي، وتكامل الموارد بين أطراف المحور، من شأنه أن يرفع من سقف القدرة على الصمود والمبادرة، ويمنح الاستقلالية مضموناً فعلياً لا شعاراتيًّا، كما أن التوسع في التنسيق العسكري والاستخباري، وتطوير الصناعات الدفاعية، سيُبقي المحور في موقع الصدارة، ويمنحه قدرة مضاعفة على فرض معادلات الردع في الإقليم. إن محور الجهاد والمقاومة، الذي نشأ من رحم المعاناة، وتكوّن في قلب الحصار، وخاض معاركه منفرداً في مواجهة الطغيان الأمريكي- الصهيوني، هو اليوم أكثر الأطراف أهلاً لقيادة مشروع تحرري أصيل في المنطقة، مشروع لا يُخضع المقاومة لمعادلات التسوية، ولا يستبدل البندقية بالمساومة، ولا يرى في القضايا الكبرى أوراقاً للمقايضة، بل قضايا وجود، ومقدسات لا تقبل التجزئة، ومن هنا، فإن مستقبل هذا المحور مرهون بقدرته على الثبات على مبادئه من جهة، وبقدرته على التحديث والتكامل والاتصال بالعالم من جهة أخرى، وبين التمسك بالثوابت والانفتاح على التطوير، تكمن القوة الاستراتيجية الحقيقية لهذا المحور، الذي لا يُمثل مجرد رد فعل على العدوان، بل تعبيراً عن هوية أمة قررت أن تكتب تاريخها بدماء أبنائها، وإرادة حرة لا تنكسر.