في غزة لا تُقاس المعارك بالأرقام ولا تُروى البطولات بتعداد الرصاص فثمّة ما هو أبلغ من الإحصاءات: هناك إرادة لا تُقهر وعقيدة لا تنكسر ورجال باعوا الدنيا في سبيل قضية فكانوا للزمن حكاية وللأمة عنوان كرامة. ما يجري في غزة هو جهاد بين مشروع تحرّر أصيل ومشروع استكبار غاصب. وبين هذين الحدّين تصعد أرواح وتولد بطولات وتُرسم على الأرض معادلات تعجز الجيوش الكلاسيكية عن هندستها. وفي قلب جحيم العدوان وبين الركام واللهب تنبثق أسطورة المقاومة من أرض غزة حيث تسطّر كتائب وسرايا وفصائل المجاهدين ملاحم العزة على جبهات النار والدخان مُرغِمةً جيش الاحتلال على التخبّط تحت وقع ضربات نوعية وكمائن مركبة تستدرج جنوده إلى ساحات الموت المحتم. لم تكن العمليات البطولية الأخيرة التي نفّذها المجاهدون في غزة مجرد ردود فعل عشوائية بل كانت جزءاً من هندسة ميدانية عسكرية دقيقة تُظهر تطوراً لافتاً في التكتيك والمبادرة. ففي أكثر من محور قتال وقع جنود العدو في أفخاخ وكمائن ميدانية محكمة . وبالتالي نجحت المقاومة في تثبيت معادلة جديدة: الاقتراب من القطاع يعني الموت. فقد فشلت محاولات الاحتلال في تحقيق أي إنجاز ميداني حقيقي على الأرض رغم استخدامه أحدث تقنيات الرصد والطائرات دون طيار. فالمجاهدون لا يتحركون فقط في الظل بل هم من يصنعون الظل في ميدان المعركة. ففي الوقت الذي يملك فيه العدو أحدث ما أنتجته مصانع السلاح ويمتلك غطاءً سياسياً وإعلامياً من القوى الكبرى يقف المجاهد الفلسطيني بما ملكت يداه مدججاً بما هو أثقل من كل العتاد: الإيمان والبصيرة وصلابة العقيدة. هؤلاء المجاهدون ليسوا فقط مقاتلين بل حُماة قضية ومهندسو مستقبل وبناة مجد على أنقاض العدوان. هم أبناء الأرض يعرفونها شبراً شبراً يتنفسون ترابها ويستمدون من زيتونها جذور الثبات. لا ينتظرون دعماً من هنا أو هناك ولا يعوّلون على بيانات الشجب ولا على عربدة المؤتمرات. سلاحهم صدق النيّة وعدالة القضية وتجربة طويلة من الدم والصبر واليقين. وها هو العدو بكل جبروته يترنح لا لأنه فقد بعض جنوده بل لأنه فقد الثقة بقدراته وبإمكاناته. غزة تلقّنه دروساً تتجاوز الميدان وتزرع الشكّ في عقيدته الأمنية وتنسف صورته التي رسمها في أذهان أتباعه. وبالتالي الإحصاءات القادمة من إعلام العدو نفسه تُظهر حجم الكارثة التي تُمنى بها وحداته العسكرية. خسائر بشرية مستمرة وحالة ذعر وتيه في صفوف الجنود وتراجع المعنويات يقابلها ثبات أسطوري من جانب المجاهدين الذين يقاتلون بلا غطاء جوي ولا تفوق تكنولوجي بل بسلاح الإرادة والتخطيط والإيمان. ووسط هذا كله يبرز الدور الإعلامي المقاوم في بث مشاهد موثقة لبعض العمليات مما ضاعف الأثر النفسي على العدو وفضح هشاشة منظومته الأمنية والاستخباراتية. إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد تصعيد عابر بل فصلٌ جديد من فصول الجهاد الفلسطيني حيث يُكتب تاريخ الأمة بدماء الشهداء وبطولات المقاومين. فبين أنقاض البيوت ومسالك الأنفاق تلد غزة رجالها وتعلّم العالم أن الاحتلال لا يُهزم بالمؤتمرات بل بالكمائن المركبة والرصاصة التي تعرف طريقها جيدًا. لأن غزة تقاتل نيابة عن أمة وتصمد حين ينهار الآخرون وتزرع الكرامة حين تُحصد الهزائم من أفواه الزعماء. وأبطالها لا يبحثون عن لقب ولا شهرة بل عن لحظة لقاء مع الله، حين يكون البندقية طريقاً والشهادة شرفاً.