يُطرح اليوم تساؤلٌ موجِع، يكاد يكون مرادِفاً للانهيار القيمي والأخلاقي: "ما دخلنا نحن في اليمنبغزة؟" و "ما علاقتنا بفلسطين؟"..هذا التساؤل ليس مجرد استفسار ساذج، بل هو صرخة مُرّة تكشف عن عمق الشرخ في الوعي الجمعي، وشاهدٌ على انتصار الثقافة التجزِئية التي رسمها الاستعمار. لا يخفى أن هذا التساؤل يتغذى من خطابٍ مُضلِّل، يختبئ خلف وجع المعيشة، ويهمس في أذن المنهَكين قائلًا: "شغلتمونا بفلسطين؛ أين معاشاتنا؟ أين مرتباتنا؟ أولادنا جياع أفقرتونا! القصف والقتل فينا كفاكم. كفوا عن محارشة جُباح النحل ومراماة عش الدببة! أنتم ترمونهم بصاروخ فيردّون بخمسين، فسماؤكم مفتوحة ومدنكم مستهدفة. أعقِلوا!". هذه الأصوات، التي تدعو للانكفاء والانفصال، هي في الحقيقة ثمرةٌ صادقة لثقافة القُطرية والحدود المصطنعة، ثقافةٌ نجحت في تجريد الفرد من انتمائه الأوسع، وفصله عن المفهوم القرآني والإسلامي الحقيقي للأمة والوطن. إلى أين تبخَّر مفهوم "الأمة الواحدة"؟ إن شعور المرء بأن ما يحدث في فلسطينوغزة لا يعنيه شخصياً هو بمثابة زلزال عقائدي يهدد بانهيار الأركان الأساسية لديننا وقيمنا، ويضع علامات استفهام كبرى حول مدى ترسيخ المبادئ الكبرى في الوجدان المسلم: * وحدة العقيدة هي وحدة الوجود: غاب التجذير العميق لمفهوم الأمة الذي تؤكده الآية الكريمة: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]. فالأمة هنا كيانٌ واحد، لا يفرّقه جغرافيا، يجمعه توحيد الرب والغاية. * الهوية الإنسانية في الجسد الواحد: لم تتربَّ النفوس على المعنى الحيّ والعملي للحديث النبوي الذي يصف المؤمنين كالجسد الواحد، "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". فمتى تكتمل صحة الجسد وعضوٌ منه يُنزف دمًا في غزة؟ * بوصلة الاهتمام الجامعة: لم يتأصل المعنى الحاسم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". فالاهتمام ليس ترفاً، بل هو علامة الإيمان الفارقة. لقد أدى هذا الغياب التربوي والثقافي إلى اختزال كارثي، حيث تحوّل مفهوم "الأمة الواسعة" في أذهان الكثيرين ليصبح كياناً محدوداً: قبيلة، طائفة، أو نطاق جغرافي ضيق محصور بما يُسمى "الدولة القُطْرية"؛ وهي التركة المسمومة التي ورثناها من خطوط سايكس بيكو، ورسّختها مناهج التبعية الممنهجة. البطاقة الشخصية أم الهوية الإيمانية؟ سؤال الوجود لقد نجحت الثقافة القُطرية بحنكة خبيثة في ترويج شعار "حب الوطن من الإيمان"، لكنها أخفقت عن عمدٍ في تحديد ماهية هذا الوطن على حقيقته الجامعة، لتبقينا أسرى الجغرافيا لا العقيدة. فلنسأل سؤال الهوية الجذري: ما هو الوطن حقاً؟ * هل هو فقط هذا النطاق الضيق الذي نعيش فيه اليوم، والمرسوم بخطوط وهمية متحركة صنعتها الاتفاقيات الاستعمارية؟ * أم هو ذلك العالم العربي والإسلامي الواسع، الذي كان وطن أجدادنا قبل أن تمزقه الإرادة الأجنبية؟ وهل تتحدد هويتنا ب... * تلك البطاقة الشخصية أو الجواز الذي نحمله، وهو صنيعة سياسية قابلة للتبديل والتغيير والزوال؟ * أم بتلك الهوية الإيمانية والإسلامية التي منحنا إياها الخالق، وجعلها هويتنا الثابتة وعنوان وجودنا الإنساني والروحاني؟ إن الهوية الإيمانية هي الأصل الثابت والعمق التاريخي، بينما الحدود الجغرافية الحالية هي العارض المصطنع والطارئ السياسي. عندما تشتعل فلسطين، تشتعل هويتنا؛ وعندما تُدنس غزة، تُدنس كرامتنا. العتب على المنهاج لا على المتسائل: فك الارتباط الممنهج لذلك، عندما يُصدَم الوجدان بصوت يقول: "ما علاقتنا بفلسطين؟" أو "ما دخلنا بغزة؟"، فإن العتب لا يقع على المتسائل البسيط الذي أرهقته الحياة، بقدر ما يقع على من قام بتثقيفه وتعليمه وتوجيهه. العتب يقع على: * منهاج تعليمي ركّز على التاريخ المحلي السطحي وألغى التاريخ الأممي الشامل. * ثقافة إعلامية عملت على تدجين الوعي، وجعلت قضايا الأمة الكبرى مجرد أخبار عابرة أو قضايا خارجية لا تخصنا. * سياسة رسمية كرّست الانفصال وأهملت مخططات العدو الكبرى ضد الأمة والدين. إن الانفصال عن قضايا فلسطينوغزة، واللامبالاة بما يُحاك ضدنا من مؤامرات، هو النتيجة الطبيعية والمنطقية والمنتظرة للنشأة على ثقافة جعلت الحدود المصطنعة أهم وأقدس من الوحدة الإيمانية. نحن في غزة، لأن غزة هي بوصلة هويتنا، وخط دفاعنا الأول، وجدار صدنا الأخير عن معنى وجودنا وشرف هويتنا.