لم تكن ثورة 26 سبتمبر 1962 مجرّد انتفاضة ضد حكم تقليدي، بل لحظة فارقة طوت قرونًا من الاستبداد الإماميالقائم على السلالة والكهنوت. فقد جاءت الثورة تتويجًا لمسار طويل من النضال الشعبي والفكري والسياسي، جسّد يقظة وطنية ووعيًا متقدّمًا بخطورة مشروع الإمامة، الذي اتكأ على شرعية دينية مزعومة لفرض العزلة والجهل، ورفض أي إصلاح أو تحول نحو الدولة الحديثة. لقد نشأ هذا الوعي في أوساط النخب الوطنية والمثقفين اليمنيين، ممن أدركوا أن الإمامة لم تكن مجرد نظام حكم، بل مشروعًا رجعيًا يستهدف هوية اليمن ومستقبله. ومن رحم هذا الإدراك، انطلقت شرارة الثورة، متحدية قوى الداخل وتحالفات الخارج، في مواجهة إقليمية محتدمة بين قوى التغيير، ممثلة بالمشروع القومي الناصري، ومحاور إقليمية سعت لإبقاءاليمن تحت عباءة الماضي.
ومن خلال تتبع جذور ذلك الوعي، يمكن فهم كيف تهيأت البيئة الثورية، وكيف تجاوز الثوار العقبات الفكرية والسياسية والعسكرية، وصولاً إلى إسقاط الحكم الإمامي، وإعلان الجمهورية كأول ملامح اليمن الجديد.
جذور الإدراك المبكر لخطر الإمامة
بدأ الوعي بخطر استمرار حكم الإمامة يتشكل لدى النخب اليمنية المثقفة والوطنية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، في سياق تحولات كبرى تشهدها المنطقة العربية والعالم. قاد شخصيات إصلاحية بارزة مثل أحمد المطاع ومحمد المحلويوحسن الدعيس محاولات مبكرة لمواجهة الامتيازات المطلقة لأسرة الإمام ونظام السادة، الذي كان يقوم على الاستبداد والعزلة والتخلف.
ورغم أن هذه المحاولات قوبلت بالقمع الشديد من قبل النظام الإمامي، إلا أنها أسست لحركة فكرية وسياسية منظمة وبذرت بذور الوعي الوطني، إذ أدرك هؤلاء الأحرار أن الإمامة ليست مجرد سلطة سياسية تقليدية، بل نظام مغلق يرفض أي إصلاح حقيقي ويعيق تقدم اليمن، مما جعل مواجهته ضرورة حتمية لتحقيق النهضة. في عام 1936 أسس المطاع "هيئة النضال السرية"، التي سعت إلى إقامة فروع لها في أنحاء اليمن، وتأمين موارد مالية سريه، والتأثير داخل جهاز الحكم، وفضح ممارسات الإمامة خارجيًا، بحسب ما أورده القاضي عبدالله الشماحي في كتابه "اليمن الإنسان والحضارة". وبعد ذلك بعامين، وفي خطوة عكست تطور هذا النضال من العمل السري إلى المواجهة الفكرية العلنية، أصدر المثقفون الأحرار مجلة "الحكمة" عام 1938، برئاسة أحمد عبدالوهابالوريث بالتعاون مع المطاع، لتكون أول منبر يمني يطرح مفاهيم الدستور والدولة الحديثة. وصفت الباحثة الروسية إيلينا جولوبوفسكايا هذا التطوّر بأنه "خطوة سياسية هامة في تطور حركة المعارضة". على الرغم من إغلاق المجلة من قبل الإمام يحيى، لم يتوقف المثقفون الأحرار عن التحدي، إذ أعلنوا تأسيس جمعية "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، مما يؤكد إيمانهم العميق بقوة الكلمة والفكر في إحداث التغيير وتوعية الجماهير، وتكشف عن إصرارهم على مواجهة الجهل والتخلف.
دفعت حملة القمع الأحرار إلى النزوح إلى مدينة عدن، التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، لتصبح المركز الرئيسي لنشاطهم. "لم تكن عدن بالنسبة لهم مجرد منفى، بل كانت جزءا لا يتجزأ من الوطن، حيث شعر فيها كل يمني كأنه في صنعاء أو تعز أو إب"، كما روت الباحثة الروسية. كان وصول الأحرار بقيادة أحمد محمد النعمان ومحمد محمود الزبيري ودماج إلى عدن في الأربعينيات بمثابة إعلان عن تبدد أي أمل بقيام الإمام ونجله أحمد بتحقيق الإصلاحات. وهناك تم تأسيس حزب الأحرار بقيادة الزبيري والنعمان، بعد أن سبقهم مطيع دماج وعقيل عثمان الوراقي الجبلي، ثم انضم إليهم مناضلون آخرون. نشط الحزب في عدن مستفيدًا من المناخ السياسي المنفتح نسبيًا، وكانت صحيفة صوت اليمن لسان حاله داخل البلاد وخارجها. ومع مرور الوقت، انضم إلى الحزب عدد من الشخصيات الوطنية البارزة، مثل الشيخ عبد الله الحكيميالمقيم في كارديف – بريطانيا، الذي عمل على استقطاب الجالية اليمنية هناك، إضافة إلى القاضي عبد الرحمن بن محمد الحداد، والقاضي عبد الكريم بن أحمد العنسي وغيرهم. وقد ظل الحزب نشطًا حتى قيام ثورة 1948م التي شكلت ذروة نشاطه. في موازاة ذلك، تشكلت في مدينة إب جمعية الإصلاح برئاسة القاضي والمؤرخ محمد بن علي الأكوع، وتحت إشراف القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للجمهورية. وضعت الجمعية نظامها الداخلي وأرسلت مسودته إلى الزبيري في عدن، فأعاد صياغته وطباعته ثم أعاده إلى إب، وقد التقت أهداف الجمعية مع أهداف هيئة النضال وحزب الأحرار، وفي مقدمتها السعي إلى إنهاء حكم الإمام يحيى وأبنائه، كما ذكر القاضي محمد يحيى الحداد في كتابه "التاريخ العام لليمن". استعرض الزبيري الصعوبات التي واجهت حزب الأحرار في عدن منذ تأسيسه، فقد أقدمت حكومة الاحتلال بعدن على حله استجابة لاحتجاج الإمام يحيى لدى الملك جورج السادس، كما مارس ولي العهد أحمد ضغوطًا على عائلات التجار اليمنيين هناك مهددًا مصالحهم بسبب دعمهم المالي للأحرار. ومع هذه العراقيل أُغلقت أمام الحزب معظم الأبواب، إلا أن الأحرار واصلوا نضالهم حتى تأسست الجمعية اليمنية الكبرى التي جمعت المناضلين من شمال اليمن وجنوبه، لتواجه في آن واحد الاستعمار في الجنوب وحكم الإمامة في الشمال، وظلت تعمل حتى اندلاع ثورة 1948م. كما تم إنشاء أول هيئة تحرير لجريدة صوت اليمن التي نشرت برامج وأفكار الحزب بانتظام. وبعد عامين، تمت صياغة "الميثاق الوطني المقدس" كمشروع دستور لليمن، ضم أهداف الأحرار في تغيير نظام الإمامة وإقامة حكم على أساس العدالة والحرية والمساواة.
الثورة الدستورية 1948: تجربة أولى في المقاومة المنظمة
تُوّجت هذه الجهود بثورة الدستور عام 1948، التي "كانت أول محاولة جادة لتنظيم ثورة بالمفهوم العصري"، كما تقول جولوبوفسكايا، التي ترى أن الأحرار نجحوا في هذا الفعل الثوري في هزّ "المعتقدات الشعبية بقداسة الأسرة ورسوخ سلطة الإمام، وأيقظوا لدى الشعب الشعور باستطاعته أن يقرر مصيره ويختار حكامه". ورغم أن الثورة انتهت بالفشل، إلا أن كتاب "ثورة 48" يؤكد أن إجماع المناضلين انعقد على أنها كانت البذرة الأولى التي أنبتت الحركات والانتفاضات اللاحقة، حتى نضجت في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، إذ لولا ثورة 1948م لما قامت سبتمبر، إذ استلهم تنظيم الضباط الأحرار مبادئها وأهدافها، وتلاحم مع من تبقى من رجالها، ليكملوا المسيرة حتى تحقيق النصر. وقد أشار الزبيري -وفق المصدر نفسه- إلى أن المساعدات المالية التي قدمها المهاجرون اليمنيون في الخارج كانت المصدر الوحيد الذي اعتمدت عليه حركة الأحرار في تمويل نشاطها ودعم زعمائها ورجالها، بل شمل ذلك حتى الأمير إبراهيم بن الإمام يحيى الذي انضم إليهم، إذ لم يكن يملك ثروة خاصة يستند إليها. مع صعود ثورة يوليو 1952 في مصر، تجدد نشاط الأحرار، وانتقل الزبيري إلى القاهرة وأسس مكتبًا ل"الاتحاد اليمني"، وأصدر الكراريس والمقالات، وبث برنامجًا من إذاعة "صوت العرب". في الداخل، تزايدت التمردات العسكرية والقبلية ضد الإمام أحمد، وبلغت ذروتها بمحاولة اغتياله عام 1961. وفي ديسمبر من نفس العام، تأسس تنظيم "الضباط الأحرار" السري بقيادة علي عبدالمغني، الذي أعد خطة محكمة لإسقاط الحكم وإقامة نظام جمهوري، وهو ما تحقق في 26 سبتمبر 1962. وهكذا، لم يكن الإدراك المبكر لخطر الإمامة مفاجئًا، بل نتيجة تراكم طويل من الوعي والمعاناة، انتهى بانفجار ثورة سبتمبر التي جسّدت التحام الوعي الوطني بالموجة التحررية العربية.
التحديات الإقليمية المضادة للثورة واجهت الثورة اليمنية تحديات إقليمية جسيمة، فقد شهدت ثورة 1948 موقفًا مترددًا من الدول العربية، إذ لم يقدم أي منها دعمًا حقيقيًا للثوار، واكتفت الجامعة العربية بإرسال وفود استطلاعية، الأمر الذي ساهم –بحسب المؤرخ الحداد– في فشل الثورة وعودة الإمام أحمد إلى الحكم. ومع ذلك، حاول الإمام لاحقًا استثمار المد القومي العربي لصالحه، فانضم إلى أحلاف إقليمية مثل ميثاق الأمن المشترك عام 1956 واتحاد الدول العربية عام 1958. وفي المقابل، سعى الأحرار إلى تعزيز حضورهم في الخارج. فبحسب الباحث بلال الطيب، تولى الزبيري رئاسة فرع الاتحاد اليمني في القاهرة عام 1955، ولحق به رفيقه أحمد النعمان، حيث أعادا إصدار صحيفة "صوت اليمن"، ووجدوا في إذاعة "صوت العرب" منبرًا لصوتهم. غير أن هذا النشاط لم يدم طويلًا، إذ أغلقت السلطات المصرية مقر الاتحاد وسحبت ترخيص الصحيفة وأغلقت الإذاعة في أبريل 1956، نتيجة التقارب الذي حصل بين جمال عبد الناصر والإمام أحمد. ورغم هذه الانتكاسة، لم يتوقف النضال. وكما يذكر الطيب: "لم يستسلم الزبيري وأحمد النعمان لليأس، بل واصلا جهودهما في الخارج لجمع التبرعات وإنشاء كلية بلقيس في عدن لتعليم أبناء المهاجرين وربطهم بوطنهم، مؤكدين أن أي محاولة للتغيير دون تعليم مصيرها الفشل." وفي الوقت ذاته، واصل الزبيري معركته الفكرية ضد نظام الإمامة، فأصدر عددًا من الكتب، أبرزها "الإمامة وخطرها على وحدة اليمن"، الذي حذّر فيه من أن اليمن ستظل غارقة في الأزمات والكوارث ما دامت الإمامة قائمة، وأن قوى عربية ودولية ستظل تستغل هذه المعضلة بلا نهاية. ساهمت التحولات الإقليمية أيضًا في تشكيل وعي القيادات الثورية بمستقبل اليمن، فقد أرسلت مصر بعثة عسكرية لتدريب القوات المسلحة اليمنية على الأسلحة الحديثة بطلب من ولي العهد محمد البدر عام 1957، وهي البعثة التي، رغم طردها لاحقًا، ساعدت في تكوين رؤية واضحة لدى القيادة المصرية عن الأوضاع في اليمن. ومع اندلاع ثورة 26 سبتمبر، تحولت اليمن إلى ساحة صراع بالوكالة، مما وضع الثوار أمام تحدٍ مزدوج: تثبيت شرعيتهم داخليًا، والتعامل مع استقطاب إقليمي حاد، لكن إدراكهم لطبيعة الصراع دفعهم إلى بناء خطاب سياسي يؤكد أن ثورتهم جزء لا يتجزأ من حركة التحرر العربية الأوسع.
نجاح الثورة في تجاوز العقبات
يعود نجاح ثورة 26 سبتمبر في تجاوز العقبات الجسيمة إلى مزيج من العوامل الداخلية والخارجية. أولاً: التنظيم الدقيق والسرية التامة التي عمل بها "الضباط الأحرار"، الذين أسسوا تنظيمهم السري في ديسمبر 1961 في صنعاءوتعز والحديدة وخلال أقل من عام تعاقبت أربع لجان على قيادته، كان آخرها برئاسة الملازم علي عبدالمغنيقبل الثورة ب22 يومًا، وقد برز بدوره الذكي والحماسي كحلقة وصل مع القيادة المصرية، ومُلهمًا لزملائه الضباط. اعتمد التنظيم على السرية التامة، بحيث لا يعرف أعضاء خلية عن غيرهم، وأقروا قسمًا صارمًا بالولاء للوطن والقيادة، يصل حد إباحة دم من يفشي سرًا، مع التزام مالي شهري قدره ريال واحد. ثانيًا: وجود قيادة واعية ومثقفة لدى الحركة الوطنية، وقد أدركت هذه القيادة أهمية نشر العلم والثقافة، ورأت أن التغيير الحقيقي لا يتم دون قاعدة معرفية صلبة. وقد كان لافتا أقوال المناضلين مثل محمد أحمد السياغي الذي دعا إلى "تلقيح الدم اليمني بدم حر" يعيد للإنسان كرامته. فيما ركّز النعمان على الحفاظ على الكرامة وتحقيق الذات، مؤكدًا أن مساهمة اليمنيين في بناء العالم لا بد أن تكون على نحو يحفظ عزتهم ويمنع عنهم العبودية لأي مخلوق.
ثالثًا: تراكم الخبرات النضالية منذ ثلاثينيات القرن العشرين؛ التي بدأت مع طلائع مستنيرة شكلت جمعيات إصلاحية مثل هيئة النضال عام 1936 وشكلت أرضية خصبة لنمو الوعي الثوري، كما أن مجلة الحكمة وحزب الأحرار وجمعية الإصلاح ساهمت في إذكاء الوعي الوطني، رغم قمع النظام الإمامي، كما يقول الدكتور ربحي طاهر سحويل وهو أكاديمي فلسطيني عمل في جامعة صنعاء ونشر دراسة حول الحركة الوطنية وأثرها على حركة ثورة 26 سبتمبر.
رابعًا: الفهم العميق للسياق الإقليمي، إذ أدرك الثوار أن الأطماع الاستعمارية في المنطقة، والتي وجدت في الإمامة حليفًا لها، تمثل تهديدًا مباشرًا لمستقبل اليمن، ومن هنا جاء استثمارهم للدعم المصري كرسالة سياسية بليغة مفادها أن إسقاط الإمامة ليس مجرد شأن داخلي، بل خطوة أساسية على طريق تحقيق أهداف الأمة العربية الكبرى. في الخلاصة، يمكن القول إن نجاح ثورة 26 سبتمبر في تثبيت الجمهورية، رغم الظروف الداخلية والإقليمية المعقدة، كان نتاج تراكم طويل من النضال والفكر والتنظيم. جسّدت الثورة لحظة التقاء بين الإدراك المبكر لخطر الإمامة، والتنظيم السري الفعّال للضباط الأحرار. لم تكن ثورة سبتمبر مجرد تغيير سياسي، بل إعلانًا عن ميلاد اليمن الحديث، ومشروعًا وطنيًا أثبت قدرة الشعب على كسر قيود الماضي وصناعة مستقبله بيده. واليوم، بعد عقود، تظل هذه الثورة مصدر إلهام للأجيال الجديدة، تذكرهم بأن الإرادة الصادقة والتنظيم الواعي والوعي العميق بالتحديات هي مفاتيح الخلاص لأي وطن يطمح إلى الحرية والعدالة والنهضة.