عظمة الأمم تتجلى في قدرتها على تحويل المحن إلى منح، والقيود إلى فرص للنهوض. من بين التحديات التي يواجهها اليمن اليوم، من اعتداءات متعددة وحصار مستمر، تأتي فكرة الاكتفاء الذاتي كضرورة وجودية ومسار حتمي لضمان البقاء والازدهار. فالمراحل الراهنة لا تبشر بخير مستدام ما لم نعتمد على سواعدنا، ونزرع أرضنا، ونصنع منتجاتنا بأنفسنا، مستلهمين العزيمة من إرثنا الحضاري ومن تجارب الأمم التي سبقتنا في هذا المجال. يمننا السعيد "أرض الجنتين"، يمتلك ثروات طبيعية هائلة ومتنوعة، تتجاوز بكثير ما هو مستغل حاليًا، ولا يليق به أن يكون اليوم مستوردًا لا موردًا. المفارقة تكمن في أن هذه الأرض المعطاءة، التي كانت في يوم من الأيام مصدرًا للخيرات للعالم، أصبحت تعتمد على الخارج في أبسط احتياجاتها. هذا التناقض يدعونا إلى وقفة تأمل جادة حول كيفية استغلال هذه الكنوز الكامنة: 1. ثروات زراعية لا تقدر بثمن: أراضٍ خصبة تمتد من تهامة الدافئة إلى مرتفعات إب وتعز، قادرة على إنتاج الحبوب، الفواكه، والخضروات بكميات تكفي السوق المحلي وتفيض. إنها كنز أخضر ينتظر الأيدي العاملة والاستثمار الرشيد. 2. ثروات سمكية هائلة: سواحل تمتد لأكثر من 2500 كيلومتر على البحرين الأحمر والعربي، تزخر بأجود أنواع الأسماك والمأكولات البحرية، التي يمكن أن تكون مصدرًا للغذاء والدخل القومي. 3. ثروات نفطية ومعدنية كامنة: احتياطات نفطية وغازية ومعادن نادرة لم تُستغل بعد بالشكل الأمثل، وتمثل ركيزة أساسية لأي نهضة صناعية مستقبلية. 4. نباتات طبية وعطرية فريدة: تنمو في الجبال والوديان، وتُعد أساسًا لصناعات دوائية وتجميلية وتنظيفية يمكن أن تحدث ثورة في هذا القطاع. لكن رغم كل هذا، لا يزال الاستثمار في هذه القطاعات ضعيفًا، ما يجعلنا نستورد ما يمكننا إنتاجه بسهولة، ويهدر فرصًا اقتصادية هائلة. في الفترة الأخيرة لمسنا اهتمامًا ملحوظًا بهذا الجانب الحيوي، وهو ما يمثل بصيص أمل في طريق طويل. فقد شهدنا جهودًا مكثفة في زراعة الحبوب والفواكه، وهو ما يعكس وعيًا بأهمية استغلال مواردنا. الأهم من ذلك، أن هذه الجهود بدأت تؤتي ثمارها، حيث تم تحقيق الاكتفاء الذاتي من عدة أصناف غذائية وزراعية، مما أدى إلى إيقاف استيرادها وتوفير العملة الصعبة، ودعم المنتج المحلي. هذه النجاحات الجزئية تؤكد أن الإرادة والعزيمة كفيلتان بتحقيق المستحيل، وتفتح الباب أمام فرص واعدة لتحقيق اكتفاء أوسع. من أبرز هذه النجاحات: الدجاج المجمد، الزبيب، الثوم، والتفاح، وهي أمثلة حية على قدرتنا على تحقيق الاكتفاء، حيث تم وقف استيرادها، مما وفر ملايين الدولارات ودعم المزارع المحلي. على الرغم من هذه النجاحات، لا يزال الطريق طويلًا، وهناك الكثير من المنتجات التي نستطيع الاستغناء عن استيرادها، وتحويلها إلى صناعات محلية مزدهرة بجهود مضاعفة من القطاعين العام والخاص منها: 1. صناعة العصائر المحلية: أسواقنا اليمنية تغرق اليوم بالفواكه المتعددة التي تنتجها أرضنا بوفرة. في المقابل، نستورد كميات هائلة من العصائر المتنوعة من الخارج. ماذا لو استثمرنا هذه الفاكهة المحلية في إنشاء مصانع لإنتاج العصائر الطبيعية؟ هذا يحقق الاكتفاء الذاتي ويدعم المزارعين، ويحافظ على العملة الوطنية، ويخلق سوق عمل للمواطنين العاطلين عن العمل، ويقدم للمستهلك منتجًا صحيًا عالي الجودة مثل. 2. منتجات الألبان والحليبات: فنحن نستورد كميات كبيرة من الحليبات ومنتجات الألبان، بينما لدينا ثروة حيوانية لا بأس بها يمكن تطويرها. من خلال الاستثمار في مزارع الأبقار والأغنام ، وإنشاء مصانع للألبان ومشتقاتها، سيضمن لنا الاكتفاء الذاتي من هذه المنتجات الأساسية. 3. صلصة الطماطم: أرض اليمن تزرع الطماطم بوفرة، وأسواقنا تغرق بهذه الفاكهة الحمراء. ومع ذلك، نستورد الصلصة من الخارج، مع وجود منتجات محلية، لكنها قد لا تنافس المستوردة من حيث الجودة أو التعبئة. فماذا لو استثمرنا في تطوير مصانع صلصة، وتنتج منتجات تنافس المستوردة بجودتها العالية، وتناسب ذوق المواطن اليمني، وتليق باسم اليمن؟ هذا سيحول فائض الطماطم إلى قيمة مضافة، ويوفر منتجًا وطنيًا نفخر به. 4. صناعة التونة والأسماك المعلبة: من المفارقات المؤلمة أن أسواقنا تشهد إتلافًا يوميًا لآلاف الأطنان من الأسماك الفاسدة، بينما نستورد التونة المعلبة من الخارج. اليمن يمتلك سواحل غنية بأنواع الأسماك المختلفة. ماذا لو تم إنشاء مصانع حديثة لتعليب الأسماك محليًا؟ هذا سيوفر للمواطن منتجًا محليًا عالي الجودة بسعر مناسب، ويدعم اقتصادنا الوطني، ويشغل آلاف الأيدي العاملة في الوطن. 5. الصناعات الدوائية والتجميلية من النباتات: أرضنا مليئة بالنباتات المتنوعة ذات الخصائص العلاجية والعطرية، والتي يمكن استخلاص منها مواد دوائية، ومواد تنظيف، ومنتجات تجميلية. وهناك تجاهل وإهمال لهذا المجال، ولكن ماذا لو تم إنزال لجان متخصصة إلى الأرياف، وعمل دراسات واكتشافات لهذه النباتات، والاستفادة منها في الصناعات المحلية؟ هذا سيفتح آفاقًا جديدة تمامًا للاكتفاء الذاتي في مجالات حيوية، ويحول كنوز الطبيعة إلى ثروة اقتصادية. 6. إحياء الصناعات الاستراتيجية: إعادة تشغيل مصنع الغزل والنسيج، الذي كان رمزًا للصناعة اليمنية، وإعادة تفعيل دور المؤسسة الاقتصادية اليمنية في دعم الإنتاج المحلي، هي خطوات أساسية نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاعات حيوية مثل المنسوجات والملابس. لم يكن طريق الاكتفاء الذاتي مفروشًا بالورود لأي أمة. لقد عانت دول كثيرة واجتهدت وناضلت وقاومت حتى وصلت إلى الاكتفاء، وإلى التصدير للأسواق العالمية. يمكن لليمن أن يستلهم من هذه التجارب ما يلي: 1. الصين: بعد عقود من الفقر، تبنت الصين سياسة "الاعتماد على الذات" في الثمانينيات، فدعمت الزراعة والصناعة المحلية بشكل هائل، واستثمرت في البنية التحتية والبحث والتطوير. اليوم، تُعد من أكبر المصدرين في العالم، ومنها نتعلم درسًا في الاستثمار في البنية التحتية ودعم الصناعات المحلية لتلبية احتياجات السوق الداخلي. 2. إيران: رغم العقوبات الاقتصادية الشديدة، استطاعت تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء والدواء بنسبة كبيرة، من خلال دعم الإنتاج المحلي وتطوير القدرات الذاتية والبحث العلمي. ومنها نستلهم درسًا في الصمود في وجه الحصار عبر تطوير القدرات الذاتية والاعتماد على الكفاءات المحلية. بالنظر إلى ما تقدم فإن تحقيق الاكتفاء الذاتي هو استراتيجية شاملة تحمل في طياتها فوائد متعددة الأبعاد، تعزز من صمود الأمة واستقلالها منها: 1. حماية العملة الوطنية: تقليل الاستيراد يعني تقليل الطلب على العملات الأجنبية، مما يعزز قيمة الريال اليمني ويقلل من التضخم. 2. خلق فرص عمل واسعة: في الزراعة، الصناعة، النقل، التسويق، والخدمات المرتبطة، مما يساهم في حل مشكلة البطالة. 3. تعزيز الأمن الغذائي والدوائي: لا يمكن أن نكون أحرارًا إذا كنا جائعين أو نعتمد على الخارج في غذائنا ودوائنا. الاكتفاء الذاتي هو ركيزة أساسية للأمن القومي. 4. تحفيز الصناعات الوطنية: من خلال دعم المنتجات المحلية وتحسين جودتها، مما يؤدي إلى نمو اقتصادي مستدام. 5. تنمية الريف: عبر استغلال موارده الطبيعية وتوفير البنية التحتية اللازمة للاستثمار، مما يحد من الهجرة إلى المدن. 6. بناء اقتصاد مرن: قادر على الصمود أمام الصدمات الخارجية والتقلبات الاقتصادية العالمية. وبالتالي فإن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي يتطلب رؤية واضحة، تخطيطًا محكمًا، وتضافر جهود كافة الأطراف ومتطلبات أبرزها : 1. دراسات ميدانية معمقة: لإنزال لجان علمية متخصصة إلى الأرياف لاكتشاف النباتات المفيدة وتوثيقها، وتقييم الثروات الطبيعية الأخرى. 2. إعادة تشغيل المصانع المعطلة: مثل مصنع الغزل والنسيج، ومصانع الألبان والعصائر، وتحديثها. 3. تفعيل المؤسسة الاقتصادية اليمنية: لتكون ذراعًا داعمًا للإنتاج المحلي، من خلال توفير التمويل، التسويق، والدعم الفني. 4. تشجيع القطاع الخاص: عبر تسهيلات ضريبية، قروض ميسرة، وتفعيل دور الجمعيات التعاونية، وتوفير بيئة استثمارية جاذبة. 5. تأهيل الكوادر الوطنية: في مجالات الزراعة الحديثة، الصناعة، إدارة الجودة، والتسويق، من خلال برامج تدريبية متخصصة. 6. حملات توعية وطنية: لتعزيز ثقافة دعم المنتج المحلي لدى المستهلك اليمني، وإبراز أهميته الاقتصادية والوطنية. 7. التركيز على الجودة: لضمان أن المنتجات المحلية تنافس المستوردة وتلبي تطلعات المواطن. وتبقى الخلاصة هي أن تحقيق الاكتفاء الذاتي ضرورة وطنية في ظل الظروف الراهنة. فبإمكاننا أن نحول التحديات إلى فرص، وأن نعيد لليمن مكانتها كأرض الخير والعطاء. وعلينا أن نؤمن بأننا قادرون، وأن نستلهم من تجارب الشعوب التي نهضت رغم الحصار والفقر، فصنعت قوتها من أرضها، وفرضت احترامها على العالم. لنجعل من الاكتفاء الذاتي درعًا يحميها ومفتاحًا يفتح أبواب المستقبل الواعد .