نجح الغرب يوم قسّم جسد هذه الأمة بمشرط "سايكس-بيكو"، ولم يكن طموحه حينها متوقفاً عند تقطيع الأرض ورسم الحدود المصطنعة بالمسطرة الاستعمارية، بل كان الهدف الأخبث هو "تقطيع العقل" معها. لقد أرادوا تحويل الإنسان من سعة الأفق التي تحتضن قضايا الأمة الكبرى، إلى زنزانة "القُطر" الضيقة، ليبقى كل جزء منا منشغلاً بحدوده، غافلاً عن نزيف أخيه، ومنفصلاً عن الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. سجن "القُطرية" وتفتيت الوعي لقد تحول التفكير في واقعنا المعاصر من "فضاء الأمة" الرحب إلى "سجن القُطر" المظلم. انشغل كل واحد منا بترميم حدوده، ونسينا أن الجرح واحد، وأن السكين التي طعنت غزة هي ذاتها التي تتربص بالسودان وبلادنا اليمن والصومال وبقية العواصم. هذا الانكفاء لم يكن صدفة، بل كان نتاجاً لعملية تخدير ممنهجة للوعي، تهدف إلى إيهام الشعوب بأن النجاة الفردية ممكنة في ظل الغرق الجماعي. الجريمة الكبرى: استهداف "الشعور" واليوم، نشهد استكمال فصول تلك الجريمة التاريخية؛ فالعدو لم يعد يكتفي بتمزيق الخرائط، بل انتقل إلى تمزيق "الضمائر والوجدان". لقد أصبحنا في زمن يُراد فيه تحويل الفطرة الإنسانية والانتماء العقدي إلى "تُهمة". * صار التعاطف مع غزة أو السودان أو أي جرح في جسد المسلمين يُصنف كخروج عن "المصلحة الوطنية". * صار الإحساس بآلام الأمة يُوصف بأنه "أجندات خارجية". * صار "الصمت" هو الوطنية الجديدة التي يحاول الغرب فرضها على عالمٍ يريدونه بلا قلب، وبلا ذاكرة، وبلا قيم. الوطنية الحقيقية والضمير الحي إن ما يروج له الاستعمار الحديث تحت مسمى "الواقعية" أو "الوطنية الضيقة" ما هو إلا محاولة لتمرير الأجندات التي تقتضي عزل الشعوب عن قضاياها المصيرية. إنهم يريدون "إنساناً آلياً" يرى الدماء تسيل في الشوارع المجاورة له فلا يحرك ساكناً، ويرى المقدسات تُدنس فلا يشعر بوخزة ضمير. لكن ما يجهله هؤلاء المخططون، وما تخبرنا به سنن التاريخ، هي حكاية هذا الشعب (أمة الإسلام) الذي لا يموت ولا يُقهر. إن الضمير الذي يحاولون قتله ينبعث من جديد مع كل صرخة مظلوم، والوعي الذي يحاولون تغييبه يستيقظ تحت وطأة المأساة. الخاتمة إن المعركة اليوم ليست معركة حدود فحسب، بل هي معركة وجود ووعي. ولن يكتمل لنا نصرٌ إلا إذا حطمنا "سايكس-بيكو" العقلية قبل الجغرافية، واستعدنا شعورنا بأننا أمة واحدة، همها واحد، ومصيرها واحد. ستبقى الحقيقة ساطعة: نحن أمةٌ قد تمرض، وقد تُنهك، لكنها أبداً لا ترحل ولا تنكسر.