إصلاح أمانة العاصمة: اختطاف العودي ورفيقيه تعبير عن هلع مليشيا الحوثي واقتراب نهايتها    وقفات بمديريات أمانة العاصمة وفاء لدماء الشهداء ومباركة للإنجاز الأمني الكبير    نمو إنتاج المصانع ومبيعات التجزئة في الصين بأضعف وتيرة منذ أكثر من عام    جيش المدرسين !    مصرع مجندان للعدوان بتفجير عبوة ناسفة في ابين    أبين.. حريق يلتهم مزارع موز في الكود    وجهة نظر فيما يخص موقع واعي وحجب صفحات الخصوم    الانتقالي والالتحام بكفاءات وقدرات شعب الجنوب    استشهاد جندي من الحزام الأمني وإصابة آخر في تفجير إرهابي بالوضيع    حضرموت بين تزوير الهوية وتعدد الولاءات    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    بعد صفعة المعادن النادرة.. ألمانيا تُعيد رسم سياستها التجارية مع الصين    في بطولة الشركات.. فريق وزارة الشباب والرياضة يحسم لقب كرة الطاولة واحتدام المنافسات في ألعاب البولينج والبلياردو والبادل    البرتغال تسقط أمام إيرلندا.. ورونالدو يُطرد    الحسم يتأجل للإياب.. تعادل الامارات مع العراق    اليوم الجمعة وغدا السبت مواجهتي نصف نهائي كأس العاصمة عدن    بطاقة حيدان الذكية ضمن المخطط الصهيوني للقضاء على البشرية باللقاحات    الدفاع والأركان العامة تنعيان اللواء الركن محمد عشيش    مهام عاجلة أمام المجلس الانتقالي وسط تحديات اللحظة السياسية    عدن تختنق بين غياب الدولة وتدفق المهاجرين.. والمواطن الجنوبي يدفع الثمن    أوروبا تتجه لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل أوكرانيا    الجيش الأميركي يقدم خطة لترامب لضرب فنزويلا ويعلن عملية "الرمح الجنوبي"    حكام العرب وأقنعة السلطة    الرئيس المشاط يعزي في وفاة اللواء محمد عشيش    مي عز الدين تعلن عقد قرانها وتفاجئ جمهورها    جمعيات المتقاعدين والمبعدين الجنوبيين تعود إلى الواجهة معلنة عن اعتصام في عدن    الملحق الافريقي المؤهل لمونديال 2026: نيجيريا تتخطى الغابون بعد التمديد وتصعد للنهائي    مبابي يقود فرنسا للتأهل لمونديال 2026 عقب تخطي اوكرانيا برباعية    إسرائيل تسلمت رفات أحد الاسرى المتبقين في غزة    هالاند يقود النرويج لاكتساح إستونيا ويقربها من التأهل لمونديال 2026    الرئيس عون رعى المؤتمر الوطني "نحو استراتيجية وطنية للرياضة في لبنان"    الحديدة.. مليشيا الحوثي تقطع الكهرباء عن السكان وتطالبهم بدفع متأخرات 10 أعوام    مصادر: العليمي يوجه الشؤون القانونية باعتماد قرارات أصدرها الزُبيدي    قراءة تحليلية لنص "فشل ولكن ليس للابد" ل"أحمد سيف حاشد"    الرياض.. توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز الطاقة في اليمن بقدرة 300 ميجاوات بدعم سعودي    عدن.. البنك المركزي يغلق منشأة صرافة    صنعاء.. البنك المركزي يوجه المؤسسات المالية بشأن بطائق الهوية    جوم الإرهاب في زمن البث المباشر    أغلبها استقرت بمأرب.. الهجرة الدولية تسجل نزوح 90 أسرة يمنية خلال الأسبوع الماضي    تدشين حملة رش لمكافحة الآفات الزراعية لمحصول القطن في الدريهمي    وزير الصناعية يؤكد على أهمية تمكين المرأة اقتصاديا وتوسيع مشاركتها في القطاعات التجارية    غموض يلف حادثة انتحار مرافِق المخلافي داخل سجنه في تعز    القصبي.. بين «حلم الحياة» و«طال عمره» 40 عاما على خشبة المسرح    وداعاً للتسوس.. علماء يكتشفون طريقة لإعادة نمو مينا الأسنان    عدن.. انقطاعات الكهرباء تتجاوز 15 ساعة وصهاريج الوقود محتجزة في أبين    شبوة:فعالية تأبينية مهيبة للإعلامي والإذاعي وكروان التعليق الرياضي فائز محروق    جراح مصري يدهش العالم بأول عملية من نوعها في تاريخ الطب الحديث    مناقشة آليات توفير مادة الغاز المنزلي لمحافظة البيضاء    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غزة وشخصية الأمن القومي المصري بين الجغرافيا و التاريخ مميز


(1)
رفح: نهاية المشهد التاريخي لمصر القديمة
كانت مصر، سواء في تاريخها الفرعوني أم باعتبارها الإقليم – القاعدة الأساس للوحدة العربية الإسلامية، تستخلص قيادتها السياسية الواعية أن الدرس الاستراتيجي الأول للحفاظ على أمنها الوطني وحماية سيادة ترابها الوطني، وبالترابط الوثيق معه لدورها القيادي الإقليمي والعالمي بالمعنى السياسي والحضاري، إنما يتمثل ذلك الدرس بأن تعي كلياً أن حماية سيادتها لا تبدأ عند حدودها المباشرة لإقليمها بل تبدأ شمالاً فشرقاً عند جبال طوروس وأعالي الفرات وجنوباً عند باب المندب وأعماق السودان وغرباً عند بني غازي، مع بحرية حربية ضاربة في أعماق البحر المتوسط والبحر الأحمر والبحر العربي.
ولقد ظهر هذا الوعي الاستراتيجي بعد أن فرغت مصر من عهد الهكسوس على عهد الدولة الفرعونية "الحديثة" حين بدأ المصريون لأول مرة بتكوين جيش عامل، كبير، منظم وثابت، يستخدم الخيول والمركبات الحربية، فكونت به إمبراطورية ضخمة (1570 ق.م – 1087) من أوائل الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، ضمت إلى أراضي مصر، أراضي السودان وفلسطين وسورية وبعض بلاد النهرين، أي امتدت على حد تعبير المصريين القدماء "من قرن الأرض حتى أطراف المياه المعكوسة" أي من وراء الجندل الرابع في السودان إلى منفرج نهر الفرات في أطراف سورية الشمالية الشرقية بل وإرسال السفن البحرية إلى بلاد "بونت" على عهد الملكة حتشبسوت جنوب البحر الأحمر وإلى إقليم ظفار العماني.
بعد أن أصبحت بلاد الشام تحت النفوذ المصري – مع تمتع ممالك الشام باستقلالها الذاتي_ لم تكن القيادة المصرية منذئذ تستعد للغزاة عند الحد المصري المباشر، فإن الحملات الحربية التي قام بها تحوتمس الثالث والنصر الذي حققه في حملته الثامنة (1450 ق.م) في موقعة "مجدو" (MEGIDO) وعبور نهر الفرات ليفتح بلاد "ميتاني" (MITANNI) قمة للاستراتيجية الحربية، تحدث لأول مرة في تاريخ العالم القديم.
وتستمر الدولة المصرية في اقتفاء هذه الاستراتيجية بالحملات الحربية الاستباقية في مواجهة الدولة "الخيتية" التي حلت محل دولة "ميتاني" كدولة قطبية أشد قوة وبمطامع توسعية أبعد، فكان ملوك مصر "الرعامسة" خير من واصل التصدي لهم بحملات استباقية فكانت معركة "قادش" على نهر العاصي أشدها ضراوة، قادها الملك المصري رعمسيس الثاني (1279 – 1230 ق. م) وليتابع حملاته في العام الثامن من حكمه مسترداً بها نفوذ مصر في سورية.
وإذا كانت معارك مصر الآنفة بمثابة الدفاع الاستباقي عن سيادة ترابها الوطني وكانت مواقع معاركها تدور إلى الشمال كثيراً من أرض فلسطين الحالية، فإن مصر التي ستأخذ قوتها في التراجع بفعل تغيرات دولية واسعة النطاق، أخطرها التغير المناخي نحو الجفاف الشديد وجائحة المجاعة وذروتهما العام 1200 ق. م، حملت معها اختفاء الدولة الخيتية وتنامي قوة "آشور" وتمددها شمالاً في الأناضول وغرباً في سورية واجتياح (شعوب البحر) من بحر (ايجه) لأراضي الدولة "الخيتية" وبر الشام حتى مصر، فإننا مع ذلك التغير الكبير الذي أفرغ سورية من النفوذ المصري ليظهر محله اتحاد سياسي شبه كونفدرالي من الممالك الآرامية السورية بقيادة مملكة دمشق، في المواجهة الحربية مع آشور كما برز جلياً ابتداء من معركة قرقرة عام 845 ق. م والتي نجح فيها هذا الحلف في صد قوة آشور، فإن مصر حاولت مع ذلك الإبقاء على نفوذ حالها في سورية بإظهارها الدعم السياسي للحلف الآرامي الثاني الذي ظهر بعد سقوط مملكة دمشق والحلف الثاني قادته مملكة حماة هذه المرة، لكن هذا الحلف سيتعرض بدوره لهزيمة عسكرية ماحقة من قبل آشور على يد ملكها صارغون الثاني (721 – 705 ق.م. (
ومن العوامل الهامة لهزيمة هذا الحلف أمامه عدم وفاء مصر بوعودها التي كانت تغدقها له وبوجه خاص للدويلات الفلسطينية بالدعم العسكري والمادي وتحريضها على الثورة على آشور، فتكون عاقبة ذلك ليس وحسب تلك الضربة العسكرية الماحقة التي أنزلها صارغون الثاني (721 – 705 ق.م) بممالك هذا الحلف، فيدمر مدن ممالكه وينهب ثرواتها ويأسر أهاليها ويهجرهم إلى أرض آشور، بل وتطال قبضة هذا الملك الآشوري العسكرية مصر نفسها بعد أن وصلت ضربته العسكرية إلى غزة التي احتلها وأخذ ملكها (هانو) أسيراً. وبعد غزة تظهر أرض مصر مكشوفة مع أول حدودها حيث يتبعها الملك الآشوري صارغون الثاني بضربة أليمة وجهها لمصر في منطقة رفح، أو بحسب نص سجلات صارغون: "الذي قهر مصر في رفح" وذلك عقاباً على تدخلها في شؤون آشور وتحريضها الدويلات الفلسطينية على العصيان ولكن دون سند حقيقي.
مع هذه اللحظة التي قهرت فيها الدولة المصرية عند رفح، بدا أنها اللحظة التي فقدت فيها الدولة المصرية الفرعونية أرادتها وروحها نهائياً وطرحت معها عزيمتها على المقاومة، لهذا نجد أن العقود بل والقرون التالية، أخذت تسير بها من هزيمة إلى أخرى، فنجد أن المحاولة المصرية التالية مباشرة في دعم الدولة التي سلمت من ضربة آشور وهي مملكة (يهوذا)، لم يجدها نفعاً التشجيع المصري لها بالاستقلال عن آشور، إذ يبعث عليها الملك الآشوري سنحاريب حملة عسكرية أرغم قادتها حزقيا ملك يهوذا على المثول أمامهم والاستماع لإنذارهم: "هوذا قد اتكأت على عكاز هذه القصبة المرضوضة، على مصر التي إذا توكأ عليها أحد دخلت في كفه وثقبتها" فتضطر مملكة يهوذا للخضوع لآشور بصورة أشد قساوة، فإذا بلغنا عهد الملك الآشوري آسر حدون (680 – 696 ق. م) فإن آشور عند منتصف القرن السابع قبل الميلاد في تمددها تكون قد ابتلعت مصر بكاملها وأجزاء لا بأس بها من شمال إفريقيا وجزر المتوسط وشواطئ اليونان وآسيا الصغرى.
وحتى بعد أن سحب (آشور بانيبال) الملك الآشوري قواته من مصر، لم يجدِ ذلك مصر نفعاً أن تستعيد روحها، فنراها مع سقوط الدولة الآشورية وقد حاول الفرعون (نخو) الصعود نحو الفرات على أمل استعادة النفوذ المصري على الجنوب السوري، ما يلبث أن يفر أمام (نبوخذ نصر) ملك المملكة البابلية التي ورثت آشور فيطارده ويرده سريعاً إلى حدود مصر. والمشهد اللاحق هو تلاحق دول الاحتلال: احتلال فارس فالإغريق فالرومان ، والرومان البطالسة فبيزنطة حتى كان عهد التحرير العربي بقيادة عمرو بن العاص، فتستعيد مصر وعي دورها التاريخي كولاية من ولايات الدولة العربية الإسلامية ولا تغيب عنها هذه الروح ووعي الاستراتيجية التليدة من تاريخها القديم ولكن بعد أن نفخت فيها روحاً جديدة، ولا يغيب عنها مثل هذا الوعي الاستراتيجي وروحه الجديدة، حتى حين تجزأت الدولة العربية الإسلامية، وصارت معها مصر دولة عربية قطبية كما هو شأن الدولة الفاطمية والأيوبية والمملوكية، فإن صلاح الدين الأيوبي إنما أطاح بالدولة الفاطمية وأسس الدولة الأيوبية من منطلق عجزها عن مقاومة الغزوة الصليبية، وقد وحد الشمال السوري والموصل مع مصر ومد وجود الدولة إلى اليمن لتكون عمقاً استراتيجياً في مواجهة معارك الجهاد التي قادها ضد الدولة الصليبية التي قامت على أرض فلسطين.
إن معارك مصر على عهد صلاح الدين ومن تلاه من سلاطين الدولة الأيوبية أو المملوكية، لم ينتظر سلاطينهم ملاقاة جيوش الغزو عند حدود مصر بل على أرض الشام وفي الغالب الأعم على أرض فلسطين.
وكما كانت المواجهة على أرض فلسطين مع الصليبيين، كانت المواجهة أيضاً مع التتار في "عين جالوت" وإلحاق الهزيمة بهم.
(2)
مصر تختار: فلسطين أم إسرائيل؟
اتجهت مصر كولاية عثمانية، يقودها محمد علي باشا نحو مشروع نهضوي متكامل، يخرجها من دائرة التخلف ويضعها في قلب حركة متكاملة الأبعاد للنهضة وبناء مؤسسات وأجهزة دولة قوية وعصرية وذات تمدد جغرافي يشمل في المقام الأول السودان وشبه الجزيرة العربية ومصر مما جعل مشروع محمد علي باشا وابنه إبراهيم –وبصرف النظر عن دقة وصدقية مبادئهما- مشروعاً عروبياً وحدوياً، فإن الدول الاستعمارية الكبرى وفي مقدمتها بريطانيا، تصدت لهذا المشروع بكل يقظة لأهدافه وأبعاده الاستراتيجية، فكان مؤتمر لندن الدولي عام 1840م الذي ألزم محمد علي بسحب قواته من اليمن والشام والتقيد بحدود مصر وبسقف واطئ لعدد الجيش بحيث يكون موكلاً فقط بالأمن الداخلي، إنما كانت بريطانيا قد أنجزت بمؤتمر لندن ما أسماه أحد المفكرين ب"كامب ديفيد" الأول. فتقزيم الدور التاريخي لمصر، الذي يتسع ليقود ما هو أبعد من مساحة حدودها الجغرافية الضيقة إلى الوطن العربي والمنطقة الإسلامية، إنما كان يتفرع عنه من أهداف مؤتمر لندن 1840م، التمهيد غير المنظور للمشروع الصهيوني في فلسطين، فإذا تبع ذلك الاحتلال البريطاني لمصر، ارتفع إنجاز المشروع الصهيوني دوراً أعلى بإحكام القبضة البريطانية على مصر وإحداث قطيعة بينها وبين المحيط العربي والمباعدة بينها وبين المشروع القومي العربي، وفتح أبواب مصر للنشاط الصهيوني وركائزه الاقتصادية والفكرية والسياسية والثقافية ولتكون ركيزة خلفية في إسناد مشروع وعد بلفور البريطاني عام 1917م لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التي غدت تحت سلطة الانتداب البريطاني وفقاً لمعاهدة سايكس بيكو التي نقضت الوعد البريطاني للقوميين العرب بقيام دولة عربية في الشام وشبه الجزيرة العربية بزعامة الشريف حسين، وهو الوعد الذي دفع بهؤلاء إلى الثورة العربية عام 1916م على الدولة العثمانية، مما جعل من الثورة العربية قوة ماحقة للدولة العثمانية بما هي عدو لبريطانيا في ساحات الحرب العالمية الأولى، وليس لكونها محتلة للأراضي العربية وقامعة لآمال العرب في التحرر والوحدة.
وإذا كانت بريطانيا قد نكثت باتفاقها مع القوميين العرب لإقامة مشروعهم في الدولة العربية القومية من الولايات العثمانية، فإن مصر الخاضعة للاحتلال قد أخرجت من نطاق المشروع القومي منذ البدء، فإذا ما توقفت الحرب العالمية الأولى، نكثت بدورها بما وعدت به مصر بالاستقلال مقابل تضحياتها الهائلة مع بريطانيا أثناء الحرب، فاندلعت ثورة الشعب المصري عام 1919م والتي مكنت زعاماته من الطبقة الوسطى انتزاع مشروعية التمثيل للشعب والعمل بدستور 1923م الذي مكن مصر من قدر من الحكم الذاتي.
مع الثورة الشعبية العارمة عام 1919م ضد الاحتلال البريطاني ودون صرف النظر عن ميول قيادة ثورة 1919م ممثلة بحزب الوفد للمهادنة، فإن التصادم الشعبي مع الاحتلال قد أخذ يظهر تصادماً شعبياً متصاعداً مع المشروع الصهيوني في فلسطين، وأخذت القوى والتيارات السياسية المصرية المعبرة عن ذلك الترابط، تلعب دوراً متنامياً في الحياة السياسية وتغدو بالتدريج أكثر تأثيراً في صفوف الشعب، بل وغدت مع عقد الثلاثينيات وأواسطه وبالتحديد مع اندلاع الثورة العربية الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939م)، ذات تأثير ملحوظ على بعض رجال الحكم ودوائر البلاط الملكي، وبرز وعي شعبي عارم بجانب توجه زعامات حكومية، بخطورة قيام كيان صهيوني على أرض فلسطين لا باعتباره وحسب مخططاً عدوانياً يتناقض مع المبادئ الإسلامية والقومية ويناقض مبادئ العدالة والإنسانية لكونه اغتصاباً لأرض الشعب العربي الفلسطيني، بل لكون المشروع الصهيوني على أرض فلسطين يهدد كيان مصر ويتصادم مع مصالحها، ويهددها بأفدح الأخطار السياسية والاقتصادية، بل ويصطدم مع توجه قيادة الدولة المصرية بما فيها الملك الشاب فاروق لأن تتزعم مصر البلدان العربية. ومن هنا نفهم تراجع تأثير الأفكار الليبرالية والديمقراطية التي كانت أكثر تقبلاً في مطلع الفرن العشرين وحتى نهاية عقد العشرينيات لصالح تأثير أفكار الحركة الإسلامية والمبادئ القومية واليسارية مع النصف الثاني من الثلاثينيات والتي ستأخذ في غرس نفسها في حقل جديد حساس هو الجيش مع افتتاح الكلية الحربية بموجب اتفاقية 1936م والتي التحق بصفوفها لأول مرة أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى ذات التوجهات المعادية للاحتلال والصهيونية والظلم الاجتماعي والفساد المستشري، وستأخذ ليس أفكار الإسلام السياسي والمبادئ العربية القومية بل وأفكار اليسار في التغلغل في صفوف الأجيال الجديدة من خريجي الكلية الحربية وضباط الجيش، لتتبلور منهم حركة الضباط الأحرار وذلك في سياق تصاعد قضية فلسطين حدة مع قرار مجلس الأمن الدولي بتقسيم فلسطين في نوفمبر 1947م ودخول مصر وجيشها الحرب على أرض فلسطين ثم هزيمة جيش مصر وكل جيوش الدول العربية المشاركة في الحرب مع إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في مايو 1948م، وهو ما مهد التربة الخصبة لإطاحة القوات المسلحة بقيادة تنظيم الضباط الأحرار بالسلطة القائمة والتي تحولت بالتدريج مما عرف بحركة الجيش إلى ما أعلن عنه بأنه ثورة.
ومع ثورة 23 يوليو 1952م، يمكن أن نفهم كيف أن التوجهات السياسية التي تبنتها الثورة وذلك بعد أن اتضحت زعامة عبد الناصر وتقلده رئاسة الجمهورية وفي إطار المنهاج النظري – السياسي للنظام الوليد كما في وثيقة "فلسفة الثورة" عن الدوائر الثلاث: العربية والإسلامية والإفريقية، ليست مسألة تعبير عن عقيدة ثورية، فهي بالرغم من أنها كذلك إلا أنها كانت استرجاعاً بالغ القوة للذاكرة التاريخية العربية، ومنذ بدايات الحضارة المصرية القديمة و للدور التاريخي المصري المجلجل على المستوى العربي والإقليمي العريض ثم على المستوى العالمي.
وقد ساعد على تفتق هذا الاسترجاع وتحوله إلى وعي عقيدي عند قيادة الثورة ويصار إلى تكريسه يومياً في صفوف الشعب وجهاز الدولة، بروز القوى الدولية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية وفي مطلع عقد الخمسينيات، ممثلاً بمنظومة الدول الاشتراكية التي غدت قوة عالمية مساندة يحسب لها الحساب وبتيار من الدول المستقلة والمتحررة من الاستعمار لها وزنها المؤثر في السياسة العالمية مع إعلانها كتلة نهج الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وهي الكتلة التي كانت مصر إحدى دولها الثلاث الداعية لتأسيسها، وتيار حركات التحرر المناضلة ضد الاستعمار القديم وحيث ستلعب القيادة المصرية الجديدة مركز السند القوي لها سياسياً وإعلامياً ومالياً وعسكرياً.
لكل ذلك، كان اضطلاع القيادة المصرية لثورة 23 يوليو بدور مركز الصدارة لدعم قضية فلسطين ودخولها بعد حرب 1948م في حروب 1956م و 1967م و 1973م كما هو تعبير عن الاضطلاع بالدور القومي العربي أو الدفاع عن الإسلام، فإنه إلى جانب ذلك بل وفي المقدمة من كل ذلك، كان تعبيراً عن "الوطنية المصرية" ودفاعاً عن الأمن الوطني للكيان المصري إلا أنه التعبير والدفاع المشبع بالوعي الذاتي لدور مصر التاريخي على المستوى العربي والإسلامي والعالمي.
لهذا فإن الدعاوى بأن مصر قد خاضت تلك الحروب، محملة بعبء ألقاه العرب على أكتافها وأقحموا مصر فيها فيما هي – أي تلك الحروب- مسؤولية العرب أجمعين..وإلا فليكف العرب عن تحميل مصر فوق ما تطيق وليدعوا مصر وشأنها وليتركوها تخلد إلى السلام مع إسرائيل"؟!
إن كل ذلك ليس إلا بعض الحق الذي يراد منه كل الباطل.
والباطل كله قد تجمع أولاً من حول جوقة الإعلام الزائف بدئ بإطلاقه حتى قبل أن تتوقف مدافع حرب أكتوبر 1973 التي كبح سير انتصاراتها العسكرية والتي لوى الضلال القيادي ما تحقق من انتصار عسكري عربي، ليوجه سريعاً نحو مفاوضات مع الدولة الغاصبة تحت خيمة الكيلو 101 فإلى مفاوضات سلمية أخرى باتجاه التطبيع، أبرزها مفاوضات "جنيف"، وصولاً إلى شق الصف العربي بزيارة السادات المفاجئة للقدس، فمفاوضات كامب ديفيد وإبرام معاهدة السلام والاعتراف بإسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي وبذل شتى المساعي لتطبيع الحياة بين مصر و "إسرائيل" في كافة المجالات بما فيها الثقافة والتربية.
وبغزو الكويت وحرب عاصفة الصحراء وما لحقها من اختلال جديد في ميزان القوى وانشقاق مريع للصف العربي، تعقد مفاوضات "مدريد" التي لم تستكمل نفسها حتى يعلن عن اتفاق "أوسلو" للسلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وتل أبيب وتلحق الأردن بإبرام معاهدة سلام وتطبيع.
وفي هذا المسار، الذي ضاق فيه الوطن الفلسطيني فلم يعد من النهر إلى البحر، بل اقتصر على قطاع غزة والضفة الغربية، وحتى هذه جرى التنازل عن نسبة منها فضلاً عن توسع السرطان الاستيطاني بوتائر زمنية متسارعة، ومع مئات الحواجز والتوقيف على المعابر لساعات، والاعتقالات الاعتباطية للآلاف وعمليات القتل والاغتيال ومحاصرة المسجد الأقصى والحفريات التي تهدده بالسقوط، والاشتراطات لأعمار المصلين فيه وتعرضه لاقتحام القوات الصهيونية مع شن حروب عسكرية وحشية بين فترة وأخرى، وبناء جدار الفصل العنصري وبث حملات الكراهية والعداء العنصري ضد عرب 48؛ كل ذلك الذي جعل تنفس الهواء يكاد يكون مستحيلاً ويسمى مع ذلك انه اتفاق سلام مع دعاية إسرائيلية يناصرها إعلام الدول الكبرى بأنها "محبة للسلام" وحريصة عليه، فيما تصور تلك الدعاية الصهيونية الإنسان الفلسطيني بأنه "إرهابي" حتى وهو يُقتل وتنتزع أعضاؤه لبنوك أعضاء المستشفيات الإسرائيلية.
كل ذلك، جعل لدعوى "السلام" الوهمية الزائفة منطقها الأعلى خاصة وقد صار مسنوداً في أكثر منابر الإعلام الرسمي العربي وبصورة مماثلة بل وأقوى. والمعزوفة واحدة: إن "المقاومة هي الإرهاب" ويوازي ذلك عقد مختلف أنواع الاتصالات والمفاوضات والاتفاقيات لكيفية مكافحة "الإرهاب" بعد أن غدا حتى كثير من الأنظمة العربية تطلقه على "المقاومة" ومن يعمل تحت لوائها أو حتى يدعو لمشروعيتها فيصير رأسه مطلوبا.ً
كل هذا قاد بالضرورة إلى ما يعانيه فلسطينيو قطاع غزة من حصار تفرضه عليهم إسرائيل من جهة وحصار آخر تقوم به مصر؛ الدولة العربية الأكبر والأهم والملاصقة بين كل بلدان العرب لقطاع غزة.
الحصار الذي تقوم به مصر لقطاع غزة هو الفعل الشنيع والجريمة الأساس وهو مستنكر لأنه ضد طبيعة الدور التاريخي لمصر، ونقيض للمسؤولية التاريخية الملقاة على الدولة المصرية باعتبار أنها كانت المتكفلة بحماية قطاع غزة مند حرب 1948م وعجزت عن حمايته في هزيمة يونيو 1967م مما يلقي عليها بالمسؤولية القانونية أمام المجتمع الدولي في الدفاع عن أبناء هذا القطاع من الفلسطينيين، وفي المقدمة ليس من أوجب واجباتها التصدي للحصار الإسرائيلي وإبطاله، بل والعمل إلى جانب ذلك على فك الحصار من الجهة الغزاوية الملاصقة لمصر، وإمداد أهالي غزة بكل محتاجاتهم حتى ولو كان ذلك على نفقة الدولة المصرية وحدها فكيف إذا كان الأمر مجرد السماح للمواطنين الفلسطينيين، أبناء غزة أن يقوموا بالنشاط التجاري والاقتصادي بما يسد متطلبات العيش البريء أو إذا كان ذلك دعماً من شعب مصر أو الشعوب العربية والعالم.
إن الشرعية الدولية كما جسدها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للعام 1966م، تجيز للدولة المصرية ذلك بل هي توجبه عليها وجوبا.
والأمر ليس هنا مسألة الموقف من الشرعة الدولية، وهل يبيح القانون الدولي فك الدولة المصرية حصارها على غزة أم لا؟ فالمسألة هنا هي موقف سياسي هو الذي جعل وسائل الإعلام تتناقل أنباء مشروع تنفيذ الدولة المصرية لجدار الحصار الفولاذي تحت الأرض بين رفح المصرية ورفح الغزاوية، وحملت بعض وسائل الإعلام معلومات عن هذا المشروع سيجري تنفيذه بتمويل أمريكي قدره مليارا دولار، ومع عدم نفي الجهات الرسمية المصرية لتبني مثل هذا المشروع، يصبح أمره حقيقة. وهو مشروع إذ ينقل الحصار إلى درجة القتل والقتل العمد وهو عدا عن أنه جريمة قتل جماعية شائنة، يكشف عن نوع خطورتها ، فإن الخطورة الأعم والأشمل هي أن مثل هذا الفعل – وحتى لو اكتفينا بعملية الحصار القائمة- إنما تتمثل في تبدل المواقف في تحديد من هو الصديق واحتساب من هو العدو بالنسبة لمصر وشعب مصر.
إن المروع هو هذا العويل الإعلامي المضلل الذي تستوي في ضخه مئات الإذاعات والفضائيات وآلاف الصحف والنشرات؛ عربية وغير عربية، فإن إسرائيل بكل ما ترتكبه من جرائم في حق الإنسانية وآخره شهادة تقرير "جولدستون" عليها، تتحول هي البريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، أما الفلسطيني "فإرهابي" مدان لأنه "مقاوم"، بل وحتى لمجرد أنه "فلسطيني" ...وأبناء غزة ليسوا فلسطينيين مظلومين ومذبوحين من الوريد إلى الوريد بل هم "حمساويون" لا بل هم أبناء "إمارة إسلامية" احتاروا في تحديدها فتارة هي "إمارة طالبانية" ولكن هذه سلفية متطرفة، فيسكتون عن ترديدها حين يريدون حملها على إيران الشيعية الصفوية، وهكذا لم يعد المشروع لا قومياً..لا حضارياً ..لا إسلامياً..بل المشروع تصنيع عداوات وحروب طائفية سياسية من المحيط إلى الخليج.
لم يكن القارئ ليصدق أو يتأثر بما كتبه في بداية السبعينيات من القرن العشرين القاص السوري العجيلي في قصته "نبوءات الشيخ سليمان" الذي يتبلغ بقول الأستاذ أو الكاتب الذي يلتقيه في المقهى:
"نعم، سيأتي الحاكم الذي يبيع فلسطين ثم الذي يدفع مالاً ليتخلص من فلسطين".
انتهى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.