فيما كان الخبراء يكتشفون أسناناً اصطناعية في جمجمة لجثة تعود إلى عجوز، وحقيبة بمتعلقاتها تخص فتاة مراهقة بعمر الورود، وفيما كان هؤلاء يتفحصون جثث مقبرة جماعية في السماوة تحتوي على بقايا 1500 من الأكراد، أغلبهم من النساء والأطفال والعجزة سِيقوا إلى مصيرهم المرعب في عمليات الأنفال الشهيرة التي قادها نظام صدام البائد في أواخر الثمانينات. قاد انتحاري من الجماعات الأصولية المدعومة من فلول النظام المنهار سيارته المفخخة وسط سوق الخضار والفاكهة في وسط بلدة الصويرة (50 كم جنوب بغداد) ليقتل ويجرح العشرات من العراقيين الأبرياء. وفي اليوم نفسه عثر على 14 جثة لشباب في مقتبل العمر قتلوا بطلقة واحدة في الرأس ورميت جثثهم في منطقة لتجميع النفايات. والقتل بطلقة واحدة في الرأس هي الطريقة المفضلة عند عناصر استخبارات نظام صدام كما علمتنا تجربتنا معهم في الكويت.هذا العنف الذي خرج من عقاله وبات لا يخضع لأي معايير سوى تخريب التجربة الديمقراطية الوليدة، يحصد مزيداً من الأرواح البريئة كل يوم. فتحت عنوان «تجارة النعوش تلقى رواجاً في مدينة الموت» تنقل التايمز اللندنية (6/5) عن حانوتي يحكي عن زيادة الطلبات على التوابيت، حيث أصبحت تتعدى الستين في اليوم مقارنة بتابوت واحد في اليوم قبل الحرب. أما أسعار تلك التوابيت فقد ارتفعت من ثلاثة جنيهات إسترلينية إلى خمسة وعشرين جنيهاً، وهو مبلغ كبير للكثيرين في العراق. وفي هذا السياق يلحظ حفار القبور مهند أبو شيبا، أن عدد الموتى الذين باتوا يصلون إلى مقبرة السلام في النجف قد تضاعف. وإذا كانت 50 متراً مربعاً من أرض المقبرة تساوي 400 جنيه في الماضي، فإنها تساوى الآن عشرة أضعاف ذلك المبلغ.ولم يستثن عنف الإرهابيين أحداً، حتى أولئك الذين نذروا أنفسهم لخدمة الشعب العراقي، ليس فقط بالعهد الجديد، بل حتى في العهد البائد. فلم يشفع لمارجريت حسن أنها متزوجة من عراقي، وإنها قد أسلمت وتسكن العراق منذ ثلاثين عاماً، وإنها بدأت نشاطها الخيري في العام 1991 من خلال منظمة الرعاية الدولية، فقد اختطفت وقتلت شر قتلة. أما الأميركية مارلا روزيكا، فقد جاءت لتفضح ممارسات بني جلدتها المحتلين، فأنشأت في العام 2003 جمعية «الحملة من أجل ضحايا الحرب الأبرياء». وكانت تزور البيوت العراقية بيتاً بيتاً لتجري مسحاً لتحديد عدد الضحايا المدنيين في البلاد. لكنها أضحت طعماً لسيارة مفخخة ادعى أصحابها أنهم «مقاومة عراقية»، فأي مقاومة وطنية تلك التي تقتل أصدقاء الشعب العراقي؟؟ إنها مأساة فظيعة - كما قالت مديرة المجموعة - تحمل سخرية مؤلمة تكمن في أن يصبح أي شخص يكرس حياته لمساعدة ضحايا الحرب ضحية حرب هو ذاته»! ولعل وقع العنف أشد ما يكون على المرأة العراقية، فهاجس الاختطاف وما قد يترتب عليه من احتمال تعرضها للاغتصاب يظل هو الهاجس الأكبر الذي أمسى يقيد حركتها. فالشابة حلا ذات الستة عشر ربيعاً، كما تقول النيويورك تايمز(6/5) أصبحت لا تتعدى عتبة الباب بعد أن نجت من عملية اختطاف. وتشير المقالة إلى روايات تؤكد قتل بعض الأسر لبناتها بعد أن يتم تحريرهن من الخطف صوناً للشرف. أما الصنداي تايمز (20/3) فتعدد أسباب استهداف «المسلحين للنساء العراقيات» ومنها: لارتباط أعمال بعضهن بالمسؤولين العراقيين والأميركيين، أو لمطالبة بعضهن بالمزيد من الحقوق للمرأة، مما يثير حفيظة بعض المتشددين، أو لعدم ارتدائهن الحجاب، فضلاً لتركهن لبعض التقاليد السائدة.والانتحاريون بالسيارات المفخخة هم مصدر الأذى الأول الذي يحيق بالعراقيين يومياً. وتلخص إذاعة البي بي سي البريطانية مقابلة نشرت في الصنداي تايمز (7/5) مع «احد قادة الجماعات الإرهابية» يتحدث فيها عن صعوبة فهم دوافع هؤلاء الانتحاريين العرب، فهم يأتون بقناعة راسخة لا تقبل التفاوض أو المرونة. وهؤلاء الشبان العرب تتراوح أعمارهم بين سن 19 إلى 40 عاماً، وغالبيتهم من أصول سعودية ويمنية بالإضافة إلى عدد صغير من بعض الدول العربية والأفريقية. كما يوجد بينهم أيضاً متطوعون من الجاليات الإسلامية في أوروبا. وعن الفترة التي تسبق تنفيذ المهمة الانتحارية يقول هذا القائد إن الانتحاري يتلقى تدريباً عسكرياً أخيراً يستغرق يوماً أو أكثر، ويقضي ليلته الأخيرة وهو يقرأ القرآن وفي الصلاة، وفي بعض الأحيان يقيم زملاء الانتحاري حفلاً يطلقون عليه زفة الحور، في حين يفضل البعض الآخر قضاء ليلته الأخيرة في عزلة تامة مع الله. لكن شتان بين «نقاء وصدق وشجاعة» هؤلاء الشباب المغرر بهم، وبين قياداتهم التي تدفعهم إلى الموت وهي في ذات الوقت أشد ما تكون محافظة على حياتها، بل تجبن وقت الشدائد. تنقل جريدة الأوبزيرفر البريطاينة ( 8/5 ) عن أبو أسامة، وكان سائقاً لأبي مصعب الزرقاوي. حينما أصبح قاب قوسين أو أدني من الاعتقال في فبراير الماضي، قوله إن الزرقاوي أصيب بحالة هستيرية، إذ لم يكن يعرف أين هو لأنه كان يسألني مراراً عن سكان المنطقة وعن قبائلها. ثم أخذ بندقيته وكمية من الدولارات الأميركية وهرب»! وما فعله الزرقاوي يفعله كثير من القادة أصحاب «الهالات الزائفة»، فشتان بين بسالة عدي وقصي في يومهما الأخير، وبين جبن القائد صدام حسين الذي قبض عليه مختبئاً في حفرة! إن الهجمة المتمثلة بأعمال القتل التي يمارسها ضد العراقيين وضد مستقبلهم الديمقراطي مجرمون قتلة، بعضهم ينتمي إلى كهوف التاريخ باسم الإسلام، والإسلام منهم براء، وبعضهم الآخر ينتمي إلى كهوف تاريخ النظام الاستبدادي البائد - كما يقول الكاتب اللبناني كريم مروة محقاً - لا يمكن أن تثني هذا الشعب عن عزمه في تحقيق أمل ناضل طويلاً من أجله وقدم في سبيله آلاف القرابين وهو بناء عراق ديمقراطي تعددي علماني اتحادي. "البيان"