في كل مرة تقع فيها جريمة قتل يعود إلى الواجهة جدلٌ قديمٌ متجدِّد مفاده أنَّ تسليم القاتل إلى أهل المقتول ليقتلوه بأنفسهم يُعدُّ تطبيقًا للقصاص كما جاء به الشرع. وما شاهدناه مؤخراً في مديرية حبان من طريقة التنفيذ كان صورةً مؤلمةً تعكس هذا الفهم الخاطئ وتكشف خطورة تحويل الحكم الشرعي إلى ممارسةٍ عرفيةٍ خارج نطاق القضاء والضوابط الشرعية. غير أنَّ هذا الفهم على شيوعه في بعض البيئات القبلية لا يستند إلى أصلٍ شرعيٍّ صحيح، بل يصطدم صراحةً بأحكام الإسلام ومقاصده الكبرى في حفظ الدماء وتحقيق العدل. فالإسلام شرع القصاص نعم لكنه شرعه منضبطاً بالقضاء والعدل لا بالغضب ولا بالأعراف ولا بردود الأفعال.
«القصاص في ميزان الشرع»
القصاص حكمٌ ثابتٌ في الإسلام بنصِّ القرآن الكريم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وجعل الشرعُ الحقَّ لأولياء الدم وخيَّرهم بين ثلاثة خيارات واضحة لا رابع لها: القصاص أو الدية أو العفو.
وهذا التخيير بحدِّ ذاته دليلٌ قاطعٌ على أنَّ الشريعة لا تتعامل مع الدم بمنطق الانتقام، بل بمنطق العدل الممزوج بالرحمة، وضبط الغضب، ومنع استباحة الأرواح.
من يملك حق تنفيذ القصاص؟
الخلط الأخطر يقع عند مسألة تنفيذ القصاص؛ فالقصاص لا يُنفَّذ بيد أولياء الدم ولا تتولاه القبيلة، ولا الأفراد وإنما يثبت بحكم قاضٍ شرعيٍّ مختص، ويُنفَّذ عبر وليِّ الأمر أو من ينيبه.
وقد استقرَّ عند أهل العلم أنَّ إقامة الحدود والقصاص من اختصاص السلطان؛ لما في ذلك من حمايةٍ للمجتمع من الفوضى، ومنعٍ لتحويل الأحكام الشرعية إلى وسائل ثأر. فالدماء لا تُفصَل فيها العاطفة، ولا يُحسَم أمرها بالغضب، وإنما تُنظَر فيها المحاكم بعد تحقيقٍ وتثبُّتٍ واستكمالٍ لشروط العدالة.
وعليه فإنَّ ما يجري أحيانًا من تسليم القاتل إلى أهل المقتول ليقوموا بقتله مباشرةً هو ممارسةٌ مخالفةٌ للشرع من وجوهٍ متعددة؛ إذ تمثِّل افتئاتًا صريحًا على حقِّ القضاء، وفتحًا لباب الثأر وتسلسل الدم بلا نهاية، مع احتمال قتل شخصٍ دون تحقُّقٍ كامل أو مع وجود شبهة، فضلًا عن إهدار حقِّ بعض أولياء الدم ممن قد يختارون العفو أو الدية.
والشريعة لا تُبيح إراقة الدم إلا بعد استكمال كلِّ شروط الضبط والعدل لا بمجرَّد الغضب أو ضغط العرف.
«غياب الدولة لا يغيّر الحكم»
كما أنَّ غياب الدولة أو ضعفها لا يغيِّر الحكم الشرعي ولا يبيح ما حرَّمه الله؛ فحتى في حال غياب السلطة لا يُباح القتل بلا حكم. وأقصى ما يجوز هو حبس الجاني أو تسليمه لجهة قضائية معتبرة أو السعي للصلح والدية. أمَّا القتل المباشر باسم «القصاص» دون حكم فليس قصاصًا، بل قتلٌ خارج إطار الشرع مهما حسنت النوايا أو اشتدَّ الألم.
الخلاصة: القصاص من شرع الله لكنَّ تنفيذه ليس بيد الأفراد ولا الأعراف القبلية. وتسليم القاتل لأهل المقتول ليقتلوه ليس تطبيقًا للشرع، بل خروجٌ عليه؛ فالشرع يريد عدلاً منضبطاً لا ثأراّ منفلتاً ويريد حفظ الدماء لا فتح أبواب الفوضى باسم الدين.