لم يبق في الشط المهجور غير نورس وأنا نورس ، ربما فاته السرب ورحل في الأفق إلى البعيد ، فموسم الرحيل تراءى في عينيه عبر الشفق ، فأصبح يقفز بين الصخور السوداء الحزينة كلما رأى موجه راوقها إلى صخره أخرى.. ينقر بمنقاره الذهبي ، بالكاد يجد بين الصخور نمله جائعة أيضا ، ويلتهمها وتؤلم حلقه قرصا قبل أن تموت. وأنا هنا كمن تنفس البحر أهداني ألما جديدا ووحشه بدلا من انس كنت أرنو إليه.. هل يشبهني هذا النورس فهو وحيد مثلي ذهب أقرانه يتقافزون في الضياء إلى حيث الغيم والورد والفراشات والربيع ، لماذا تخلف هذا الجندي الأبي ، هل أهيص جناحه ، وما ذنبه فيما أل إليه حاله ، أظن قدره أن يعيش الشتاء هنا معي في شط ، ربما غمره الصقيع ذات مساء ، ولن تسمع غير أغاني الصيادين ورائحة السمك المشوي عندما تعبر مراكبهم وهم يغنون أغاني موغلة في القدم كان يغنيها الصيادون منذ ألاف السنين ، ربما هذا البحر هو الذي يقذف في أفواههم لحن الأمسيات الحزينة ، الذي يجاوبه صدى الصخور .. وهممت أن احمل هذا النورس إلى كوخي ، غير أني احترمت حريته ، ولكن ربما يتجمد على الشط وإذا لم يطرأ من هنا ، واني له ذلك ، ومع احترامي لحريته ، وحفاظا عليها أخذته ووضعته في كفي وهو يرتجف من البرد والألم والجوع ، ورأيت في عينيه ألما وشوقا إلى الهجرة وفقدان السرب ، وهممت بوضعه في قفص ، ولكن احترمت حريته أيضا ، ووضعته أعلى القفص ن وقدمت له بعض سنابل وعشب عله يتعافى قيل موسم أخر للرحيل.. بعد عده أسابيع ، بدا يحلق قليلا مع الغروب ، ويحط رحاله على الكوخ ، وتغير صوته ، وأصبح فيه شيئا من الحنين ، ربما بسبب الفراق.. وذات يوم رأيت ابن الجيران يتسلل قرب الكوخ ويحمل(نبله) ويترصد النورس كي يصيبه في مقتل ، وأمسكت به قبل أن يطلق صاروخه القاتل نحو النورس ، واعتذر الصغير ذو الشعر الذهبي ، والعينين البراقتين وقال لي : لم اعلم بان لك نورس ، أنت فقط تربي الحمام وقلت في سري (أنا اربي الحرمان).. وألف النورس الكوخ وأصبح يغدو ويروح وفي موسم الهجرة بدأت أسراب النوارس هجرتها نحو الجزر الدافئة ، فتغير لحن النورس وأصبح يرسل لحنا يشبه نغم الفوز الجميل. وعندما عدت من البحر مساء اليوم التالي ، وأنا احمل صنارتي القديمة لقيني ابن الجيران وهو حزين ، ذهب النورس يا عمي ، حاولت أن أصيده وهو يلحق السرب ولكنه افلت مني وقفز ككره المضرب وعانق احد أفراد السرب في الفضاء ..قال لي هذه الكلمات وهو مطأطئ الرأس ، وسلمني خطابا جاء بالبريد للتو ، ووجدت فيه دعوه من صديق قديم يدعوني لزيارة بلد تبعد ألاف الأميال .. هي بلدي :: وأخيرا وجدت من يدعوني لزيارة بلدي وكأنها مواسم الرحيل تتزامن في شتاءات العمر قبل الجفاف ، ولكن قبل الرحيل إلى الغابة والصحراء ، سأودع البحر وصخوره السوداء ، وستوحشني وحشته عندما تأتي النوارس من الشمال في هجره أخرى هناك، في أرضي ، أرض الدفء والشوق والحنين..