تتميّز الأمم الحيّة بأنها قادرة عبر قياداتها وحركات النهوض والتحرر فيها أن تقرأ بدقة وموضوعية التحولات الجارية حولها، سواء في محيطها المباشر أو على المستوى الدولي، فلا تستسلم لليأس أو الإحباط إذا ما حملت هذه التحولات معطيات سلبية بل تسعى لمقاومتها وللاستفادة من بذور تناقضات داخلية كامنة فيها، كما أنها لا تفرط بالتفاؤل والاسترخاء إذا ما بدا لها أن هذه التحولات المحيطة بها تنطوي على إيجابيات لصالحها فتسعى للاستفادة منها عبر تعزيز ثقتها بنفسها وتطوير قواها وقدراتها دون أن تهمل التحسب لمواجهة هجمات مرتدة يمكن أن يقوم بها أعداؤها لتعطيل مفاعيل الإيجابي من هذه التحولات. والأمة العربية، هي واحدة من الأمم الحيّة رغم كل مظاهر التردي التي يتسم بها واقعها الراهن، لاسيّما الواقع الرسمي، والدليل على ذلك أنها لم تتوقف منذ أكثر من قرنين عن مقاومة كل محاولات احتلالها وإخضاعها من أقصى مغربها حتى مشرقها الذي شهد وما زال، على مدى قرن، أصلب أشكال المقاومة ضد المستعمرين القدامى بغزواتهم العسكرية المباشرة، أو المستعمرين الجدد منهم بمشاريعهم الاستيطانية والاحتلالية، كما هو حال المشروع الصهيوني، أو حتى بمشاريعهم وأحلافهم السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة على تفتيت المجتمعات وتغيير الهويات، ونهب الثروات، والانقضاض على المخزون الروحي والإيماني الهائل الذي تمتلكه كأرض عرفت أعرق الحضارات وانطلقت منها أعظم الرسالات السماوية. وإذا كان المجال هنا لا يتسع لاستعراض مراحل الكفاح الوطني والقومي المجيدة الممتدة من ثورات التحرير المتتالية في أقطار المغرب العربي، لاسيّما ثورة الجزائر الخالدة، إلى حركات المقاومة والاستقلال التي شهدتها مصر وسوريا ولبنان وصولاً إلى فلسطين المجاهدة دون توقف منذ أكثر من قرن، إلى العراق الذي كانت لانتفاضاته المتواصلة ضد الاستعمار، ولمقاومته التاريخية ضد احتلال الدولة الأكبر تداعيات ضخمة ومفاعيل كبرى لا تنحصر آثارها به فقط، بل بالإقليم كله وصولاً إلى العالم بأسره. فإن الموضوعية تقتضي ان نسجل اليوم بأن ما يشهده العالم هذه الأيام من أزمة اقتصادية ومالية وأخلاقية هائلة انطلاقاً من مركزه الاستعماري الأكبر في الولايات المتحدة، يقع في رأس أسبابها ما ألحقته بها مقاومة الأمة وممانعتها من فلسطين إلى لبنان، ومن العراق إلى أفغانستان، وما تزال من خسائر على كل صعيد. لكن استعراض تاريخ أمتنا الممتد حتى الساعة أمر بالغ الأهمية لكي نستكمل قراءة المشهد العربي بموضوعية وشمولية فلا تستبد بنا فقط تلك الصورة البائسة والمظلمة التي تطل علينا عبر مواقف وتنظيرات وتحليلات تشكل امتداداً ثقافياً وإعلامياً لذلك الغزو العسكري المتصاعد ضد استقلال أمتنا ووجودها. وبقدر ما هي مهمة القراءة الموضوعية لمفاعيل هذه التحولات الجارية من حولنا على حاضرنا ومستقبلنا، فإن ما لا يقل عنها أهمية هو أن نسعى لإدراك دورنا وأثرنا في حصولها لا من باب التفاخر والتباهي، كما يظن البعض، وإنما لإدراك عناصر القوة التي مكنتنا من الفعل والتأثير والتغيير لكي نحصنها ونطورها لمواجهة الآتي من الأيام والتطورات، وللانتقال من إستراتيجية تقاوم الأعداء وتتوخى هزيمتهم وإحباط مشاريعهم، إلى إستراتيجية بناء النصر لمجتمعاتنا وأمتنا، فهزيمة العدو في موقع أو جولة لا تعني بالضرورة انتصارنا، بل أن تلكؤنا في بناء مقومات الانتصار الداخلي على كل صعيد سياسي واقتصادي وثقافي وتربوي واجتماعي سيكون الثغرة التي سينفذ منها أعداؤنا المهزومون لاستعادة المبادرة وإلحاق الهزيمة بنا، وهي ثغرات نعرفها جميعاً، وفي كل أقطارنا، خصوصاً حين كنا نجد أنفسنا ننتقل بسرعة من موقع الانتصار إلى موقع الهزيمة، ومن بروج التفاؤل والأمل إلى أوحال الإحباط والتشاؤم. ألم تتراجع حلاوة النصر بقيام أول وحدة عربية معاصرة بين مصر وسوريا أمام مرارة الانفصال الذي وقع في مثل هذه الأيام قبل 49 عاماً وما خلفه من تداعياته، ألم تخبو بهجة النصر في حرب تشرين المجيدة عام 1973 أمام خيبة المعاهدات المنفردة التي أخرجت الدولة الكبرى من الصراع مع العدو في محاولة لإخراج الصراع نفسه عن مساره الصحيح كصراع وجود لا مجرد صراع على أرض هنا أو حدود هناك، ألم يتحول بلد بحجم العراق ودوره ومكانته التي كان يعتز بها كل عربي إلى حطام متناثر تتلاعب به مخططات الأعداء وتسعى لاستخدامه كممر لمشاريعهم الشرق أوسطية. لقد تعمدت التذكير بمثل هذه الاستدراكات اليوم، لأننا أمام تحولات إيجابية كبرى تشهدها المنطقة ومعها العالم فنسعى لصوغ الإستراتيجية الأسلم للاستفادة منها من جهة، ونتنبه في الوقت ذاته إلى أن معركتنا ما زالت مستمرة، وأن الأيام الآتية حبلى بمفاجآت وتطورات قد لا تكون في مجملها إيجابية إذا لم نحسن الإعداد لمواجهتها. وسأحاول هنا القيام بعرض موجز لأبرز عناوين هذه التحولات الكبرى، على الصعد الدولية والإقليمية، لإطلاق حوار شامل بينكم، كما على مستوى الأمة بأسرها، فنناقش صحتها ودقتها وسبل استثمارها لصالح مشروعنا النهضوي العربي الذي تحددت عناصره بالوحدة العربية والديمقراطية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري، وهي عناصر تحتاج، دون شك، إلى مناقشة تفصيلية لطبيعتها وللعلاقة التفاعلية فيما بينها وللآليات المعتمدة لتحقيقها. كما سأحاول التوقف عند عناوين تحولات سلبية تطل علينا ليكتمل المشهد الحالي والمستقبلي، ولكي نعد ما استطعنا من قوة وجهد لمواجهتها، وصولاً إلى تحديد جملة مهام تنتظرنا بعضها لتطوير التحولات الإيجابية وتحصينها، والبعض الآخر لمواجهة السلبي من هذه التحولات وتعطيل مفاعيله. أما أبرز عناوين التحولات الإيجابية البارزة، فتكمن أولاً في تراجع الدور الأمريكي، الإستراتيجي والعسكري والاقتصادي والأخلاقي، داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي تعيش إدارتها إرباكاً غير مسبوق في معالجة كل الملفات والتحديات المطروحة، كما تعيش إرباكاً اشد خطورة في خارجها حيث تراجعت من كونها الدولة الكبرى إلى أن تصبح دولة كبرى (حذف آل الاحتكار هنا لا مجرد آل التعريف) ومنن كونها القطب الواحد إلى قطب بين الأقطاب، ومن قوة تأمر فينفذ العالم أملاءاتها إلى دولة تسعى لإشراك دول العالم في قرارات مصيرية تتعلق بالسياسة كما بالاقتصاد، بالتجارة كما بالبيئة، بالنظام النقدي العالمي كما بأنظمة الدفاع الصاروخي. فمنذ أن ظن القيمون على الإدارة الأمريكية أن ما يسمونه حرباّ على الإرهاب في مطلع العقد الثاني من القرن الحالي ستمكنهم من الهيمنة على العالم كله، جاء احتلال أفغانستان ثم العراق ليشكلّ بالمقابل بداية المنحنى الانحداري لهذه الغطرسة الأمريكية التي حاول تقرير بيكر – هاميلتون الشهير أن ينظم تراجعها عبر الحديث عن حوار بدلاً من حروب، وعن قوة ناعمة بديلاً عن قوة خشنة تسّببت بحجم من الضحايا والدمار والخراب قلّما شهد العالم له مثيلاً. فخلال عقد واحد برزت من حديقتها الخلفية في أمريكا اللاتينية منظومة تخرج عن الطاعة، وترسم لهذه القارة الكبيرة مساراً ومصيراً مستقلين، وبدأت روسيا تلملم حطامها المتناثر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وتستعيد نفوذها في دول ظن كثيرون أنها باتت في المقلب الآخر، أما الصين فقد تقدمت لتصبح قوة اقتصادية كبرى في العالم مؤهلة لأن يفوق حجم اقتصادها ودخلها حجم الاقتصاد الأمريكي ذاته وخلال سنوات قليلة، بالإضافة إلى دخل يفوق الدخل الأمريكي، والذي بات الصينيون أيضاً شركاء فيه، كما في ديون الخزينة الأمريكية، بل بدأ النفوذ الصيني يتوغل في أصقاع متعددة من قارات العالم لاسيّما في القارة الأفريقية حيث الحرب المتعددة الأوجه في السودان وعليه وهي وجه آخر من وجوه الحرب الصامتة بين نفوذ غربي – أمريكي متراجع ودور صيني متقدم. أما آسيا القارة الأكبر في العالم فلم يعد فيها للسطوة الأمريكية إلا جيوب محدودة ومكلفة في أغلب الأحيان، كما هو حال أفغانستان، أو بعض "حلفاء" منافسين لها بقوة كاليابان والهند، ناهيك دول آسيا الوسطى التي تتسابق في العودة إلى الحضن الروسي الدافئ بعد الخيبة التي أصابتهم من الاعتماد على أمريكا. دول شرق آسيا أو من كانوا يسمون بالنمور اختطوا لأنفسهم منحى مستقلاً يبعد بلادهم عن صراع الجبابرة، فيما ترتبك فرائص زعماء كوريا الجنوبية وهم يخشون تخلي واشنطن عنهم بعد أن بات مطلبها الوحيد من الصين واليابان مساعدتها على الخروج بماء الوجه من ورطتها مع أحدى "دول الشر المارقة" الخبيرة بالكر والفر النووي، أي كوريا الشمالية، التي يتعلّم الإيرانيون منها على ما يبدو، دروساً في الكر والفر مع واشنطن وباريس ولندن وبون ناهيك عن روسيا التي كما يقال في المثل الدارج في بلادنا بأنها تذهب مع أم العروس فتفتح مفاعلٍ كهرونووي في بوشهر، بعد أسابيع على تصويتها مع أم العريس لصالح موجة رابعة من العقوبات ضد إيران، ويبدو أن السلوك الصيني يندرج في السياق ذاته مع واشنطن حسب أغنية فيروز "تعا ولاتيجي .. واكذب عليّ.. الكذبة مش خطية". أما تركيا التي رفضت قبل سبع سنوات أن تستخدم واشنطن أجواءها لقصف العراق، وأراضيها لغزو بلاد الرافدين (على عكس ما فعلت دول عربية عدة تعض أصابعها ندماً هذه الأيام لأنها لم تستمع إلى نصيحة سوريا والقوى الحيّة في الأمة والعالم آنذاك)، فلقد بات واضحاً أنها تواصل نهجاً مستقلاً لم يصل إلى درجة الجفاء مع حلفائها الأطلسيين، ولكنها لم تعد في موقع الرضوخ للابتزاز الأطلسي عموماً والأمريكي خصوصاً، بعد صدامها التاريخي مع الإرهاب الصهيوني في أسطول الحرية، وفي مؤتمر دافوس، وبعد إدراكها أن مصالحها، كما مشاعرها، باتت تدفعها نحو دائرة حضارتها الإسلامية الشرقية. وإذا أتينا إلى العراق، فأزمة واشنطن فيه تتصاعد على كل صعيد وخسائرها من الحرب عليها يحتاج التفصيل فيها إلى محاضرات ومجلدات، ورغم إعلان أوباما عن انتهاء المهمة القتالية لقواته في العراق قبل ثلاثة أسابيع، فأن عناصر من هذه القوات يبدو أنها "غير منضبطة"، نفذت مهمة قتالية قبل أيام في حي الجبيل في الفلوجة مرتكبة مجزرة جديدة تستكمل مجازر أخرى ارتكبتها على مدى سنوات في الفلوجة وفي نواحي عديدة من لعراق. وفي سوريا، فلعلكم تعرفون أكثر من غيركم، كيف أدركت واشنطن، ومعها عواصم الغرب كلها، استحالة القفز فوق دورها ومكانتها وثوابتها، رغم كل المحاولات القديمة منها والجديدة، وكيف تحولت أسباب الضغط على سوريا بسبب إطلالتها الجغرافية والإستراتيجية والقومية على لبنان وفلسطين والعراق إلى أسباب للحوار على سوريا والانفتاح عليها والتسليم بدورها، رغم محاولات البعض وضع العصي في الدواليب. ولا بدّ في هذا المجال أن أستعيد حديثاً قاله لنا الرئيس بشار الأسد لدى اجتماعه مع الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في تشرين الثاني/نوفمبر 2005، وكان الضغط ضد سوريا على أشده، "بأننا ندرك أن صمودنا اليوم في وجه كل التهديدات والضغوط وحتى العدوان، سيحوّل الأسباب التي يضغطون علينا من أجلها إلى أسباب يسعون إلى الحوار معنا بسببها". وكانت تلك الرؤية استباقاً استراتيجيا لتحولات قادمة، بل لتحولات ستسهم سوريا مع المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين في استيلادها وبعد خمس سنوات على إطلاقها، كما نلمس اليوم، أيضاً، بعد عشر سنوات على أحداث أيلول/سبتمبر المؤلمة في نيويوركوواشنطن سلامة رؤية مماثلة سمعتها من الرئيس الأسد في اجتماعين متتاليين حضرتهما أولهما في 30/9/2001 مع وفد من تجمع اللجان والروابط الشعبية اللبنانية، وثانيهما أيضاً مع وفد الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في 15/10/2001 حين قال مستشرفاً المستقبل، وقبل الحرب على أفغانستان: أننا على أبواب مخطط عدواني يتضمن عدة حلقات أولها سيبدأ في أفغانستان (وقد بدأ بالفعل بعد أسبوع في 13/10) والثاني في العراق (وقد بدأت الحرب فعلاً في 19/3/2003)، أما الحلقتان الثالثة والرابعة فهما سورياوإيران، لكن مصير هاتين الحلقتين سيتقرر في ضوء ما ستواجهه العمليات العسكرية الأمريكية والأطلسية في أفغانستان والعراق، فإذا غرقت قوات الاحتلال في رمال العراق وجبال أفغانستان، وهذا ما أتوقعه، كما قال الرئيس، فأن شبح الحرب علينا سيتراجع، أما إذا استسلم العراقيون والأفغان، وهو ما لا أتوقعه، فعجلة الحرب والعدوان ستدور نحونا". لقد حرصت على إبراز هذين الحديثين في إطار الكلام عن التحولات الهامة التي نشهدها، لكي أشدد على أن القيادة هي رؤية وقدرة على قراءة الآتي من رحم الحاضر وعبر الماضي، وإذا اقترنت الرؤية والقدرة بالصلابة والشجاعة والثقة بالنفس والأمة تمكنت من مواجهة كل التحديات والتحولات. وما ينطبق على تراجع الدور الأمريكي على المستوى الدولي، ينطبق تماماً على الدور الصهيوني في المنطقة، حيث يتفاقم مأزق الكيان الصهيوني الإستراتيجي وارتباكه السياسي والعقائدي والأمني كما لم يحصل من قبل، رغم كل مظاهر الغطرسة والتطرف التي يحيط نفسه بها سواء تجاه المفاوض الفلسطيني أو حتى تجاه الإدارة الأمريكية نفسها. فبعد حرب تموز 2006 في لبنان وحرب غزّة في فلسطين عام 2009، عاد القلق على المصير الذي يفتك بالمجتمع الصهيوني إلى المربع الأول، أي إلى زمن التأسيس للكيان الغاصب قبل ستة عقود ونيّف، ومن يتابع الحوارات الحقيقية داخل هذا المجتمع القلق، كما من يواكب أرقام الراغبين من اليهود في الهجرة المضادة إلى خارج الكيان الصهيوني، ومن يلاحظ حال التشطي السياسي والفساد الأخلاقي والعجز الاستراتيجي الذي يتسع الإحساس بهم داخل النظام العنصري، لا يجد صعوبة في تلمس مظاهر هذا القلق الذي يأخذ في معظم الأحيان طابع العنف الإجرامي والغلو العقائدي والتطرف السياسي وكل واحد منهم تعبير، كما يقول علم النفس، عن إحساس باليأس، أو شعور بعدم الأمان، أو رغبة بالهروب إلى الأمام. لقد قرأت بالأمس بالذات مقالاً لكاتب إسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة هآرتس يقول حول المستوطنات: أجل، ليست المستوطنات أكثر من أزهار بلاستيكية. إنها مغروسة في أرض ليست لها، ولم تنبت شيئا سوى قبحها. وهي اصطناعية غير منتمية ولم تستطع أيضا أن تنبت شيئا سوى أضرارها. وما يزيد من حراجة المأزق الأمريكي هو هذا التصاعد العالمي في الاعتراض على الممارسات الصهيونية، وعلى السلوك الصهيوني، وصولاً إلى الفكر الصهيوني العنصري، وهو تصاعد يأخذ كل يوم تعبيراً جديداً بدءاً من قوافل وأساطيل كسر الحصار على غزّة وصولاً إلى تصاعد حملات المقاطعة الثقافية والأكاديمية وصولاً إلى المقاطعة الاقتصادية لهذا الكيان العنصري التي أعلن عنها قبل أيام أيضاً ستة ملايين ونصف عامل بريطاني في مؤتمر نقاباتهم والذي لم يكتف الناطق باسمهم بإعلان المقاطعة الاقتصادية بل اعتبر تلك المقاطعة خطوة في مسار مماثل لذاك الذي سلكته بريطانيا ومعظم دول العالم، ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وهو ما يرعب الصهاينة الذين يدركون أن ما أقاموه على أرض فلسطين ليس دولة أو حتى كيان بل هو نظام للفصل العنصري القائم على التهجير والاستيطان والإرهاب يسعى إلى محاكاة نظام مماثل أقامه العنصريون للبيض في الولايات المتحدة على حساب السكان الأصليين، أي الهنود الحمر، دون أن يدركوا أن الظروف التي سمحت بما جرى داخل أمريكا الشمالية لم تعد تسمح بإقامة أوضاع مماثلة بدليل ما جرى في جنوب إفريقيا لنظام الفصل العنصري. وما يجري في بريطانيا العظمى أي في بلاد بلفور نفسه، ومن أمام مجلس العموم نفسه الذي أطلق منه وعده الشهير، بينما يطلق اليوم من أمامه جورج غالاواي قوافل شريان الحياة إلى غزة، مرشح للانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تتعاظم الاعتراضات على الممارسات الصهيونية ولكنها تتعاظم بشكل خاص معترضة على العبء الاستراتيجي الذي بدأت تل أبيب تشكله على مصالح الولايات المتحدة نفسها، وعلى أمنها الاستراتيجي، وعلى حياة قواتها، حسبما سمعناه على لسان كبار الضباط الأمريكيين وعلى رأسهم رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة مولن نفسه، كما سمعناه من وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية والصديقة الوفية للصهاينة السيدة كلينتون حين حذرت اللوبي الصهيوني (الايباك) من ثلاثة مخاطر تنتظر هذا الكيان وهي "الديموغرافيا، والايدولوجيا، والتكنولوجيا". وما يقال عن التحولات الجارية داخل المجتمع الأمريكي والغربي، يقال أيضاً على صعيد الجاليات اليهودية نفسها التي بدأت ترتفع منها أصوات وعرائض تندد بسياسة الكيان الصهيوني، والتي يمكن تلخيصها بقول هام لمفكر يهودي بريطاني كان ذات يوم صهيونياً متعصباً وشارك في حرب 1967 في صفوف الجيش الإسرائيلي، د. طوني جوديت الذي قال منذ العام 2003: المشكلة مع إسرائيل، لا تكمن في أنها تشكل موقعاً متقدماً لأوروبا في العالم العربي، وإنما لكونها قد نشأت في وقت متأخر للغاية، حاملة معها مشروعاً تقسيمياً يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر إلى عالم مختلف، هو عالم حقوق الأفراد، والحدود المفتوحة، والقانون الدولي. إن فكرة الدولة اليهودية بحد ذاتها، حيث يتمتع الدين اليهودي واليهود بامتيازات خاصة، يُحرم منها غير اليهود، فكرة تعود إلى زمن آخر، ومكان آخر. باختصار شديد إسرائيل هي مجرد مغالطة تاريخية". ولا تنحصر التحولات الكبرى في تراجع استراتيجي للعدو الأمريكي العالمي، وللدور الصهيوني الإقليمي، بل هناك تحولات هامة لا ينبغي تجاهلها في قراءة المشهد الإقليمي والدولي من حولنا. من هذه التحولات أيضاً انه بالإضافة إلى بروز دول أقطاب في النظام الدولي الذي يعاد تشكيله كروسياوالصين والاتحاد الأوروبي، فان هناك دولاً إقليمية باتت تلعب دور أقطاب على مستوى الأقاليم التي تنضوي في إطارها، فهناك الهند واليابان واندونيسيا وماليزيا في آسيا، والبرازيل وفنزويلا وكوبا والأرجنتين وبوليفيا في أمريكا اللاتينية، وجنوب إفريقيا ونيجيريا في القارة الإفريقية، وتركيا وإيران وباكستان في الشرق الأوسط ناهيك عن دول عربية مؤثرة، رغم كل ما تواجهه من صعوبات، وتأثيرها نابع من قوة إستراتيجية أو اقتصادية أو سياسية تملكها. لقد بتنا اليوم أمام تراتبية جديدة في النظام الدولي تجعله أكثر توازناً واستقراراً وأمناً وعدالة، لأنه يقوم على قمة متعددة الأقطاب الكبار، وعلى جسم متعددة الأقطاب الإقليميين، بحيث بات تداخل المصالح وتشابكها بين هذه الدول الكبرى والإقليمية يحول دون انفراد قطب واحد، أو حتى قطبين كما كان أيام الحرب الباردة، من التحكم بمصير العالم. وربما كان هذا التطور الهام وراء جنون بعض الدول الكبرى من اتفاق تركيا والبرازيل وإيران على إيجاد مخرج للأزمة النووية في إيران، فسارعت إلى اتخاذ عقوبات جديدة بحق طهران . وكأنها تعاقب أيضاً تركيا والبرازيل على تطاولهما للعب ادوار اكبر من حجمها. ومن التحولات البالغة الأثر على مستقبل المنطقة بأسرها هو قيام مثلث استراتيجي عربي (تمثله سوريا اليوم)، تركي – إيراني يمكن أن يشكل مع انضمام الدول العربية الأخرى إليه منظومة إقليمية هامة توازي المنظومة الإقليمية الكبرى القائمة، وتكون الأمة العربية بإمكاناتها وقضاياها في القلب منها. أما أبرز التحولات التاريخية الهامة على مستوى أمتنا فهي في تحول ظاهرة المقاومة إلى نهج وخيار وثقافة على مستوى الأمة، لم يعد سهلاً محاصرتها أو الإجهاز عليها، فما فعلته المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق سيترك بصماته على مستقبل المنطقة مؤكداً أن "هذه المقاومة ليست بقايا من مرحلة انتهت بل هي طلائع مرحلة آتية"، كما قلت يوما لوزير الخارجية الإيراني لدى زيارته بيروت في أوائل حزيران عام 1992 واجتماعه بقادة الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية يومها وكان بينهم سماحة السيد حسن نصر الله وكان قد انتخب حديثاً آنذاك أميناً عاماً لحزب الله خلفاً للشهيد القائد السيد عباس الموسوي. وصحيح إن المقاومة ليست جديدة على تاريخ امتنا المعاصر، لكن التحول الهام في العقدين الأخيرين أنها امتلكت عناصر قوة لم تكن تمتلكها من قبل، فلقد أعادت القضية إلى الشعوب بعد أن صادرتها الأنظمة، وتوفر لها عمق استراتيجي حاضن عربي وإسلامي، واستفادت في سلوكها وتنظيمها من كل الخبرات والتجارب السابقة، ونجحت في الربط بين الايدولوجيا والتكنولوجيا على نحو انبهر معه العدو والصديق معاً، وتوفرت لها قيادة شجاعة مؤمنة إذا قالت فعلت، وإذا وعدت صدقت. إن العديد من الدراسات والتحليلات والكتب يحاول دراسة ظاهرة المقاومة في الأمة، خصوصاً في لبنان والعراق، ولعل آخرها الكتاب الرائع الذي ألفّه الصحفي المرموق ديفيد هيرست قبل أسابيع بعنوان " حذار من الدول الصغيرة. لبنان ميدان المعركة في الشرق الأوسط" وعنوان الكتاب كافٍ لشرح مضمونه. إن النموذج الذي قدمته المقاومة حول ما يمكن انجازه عبر تفوق موازين الإرادة على موازين القوى سيعيد الكثير من حسابات دول معتدية أو محتلة أو حتى أنظمة ظالمة ومستبدة، وسيفتح المجال واسعاً أمام ما يمكن تسميته "بعصر الجماهير" في مواجهة "العصر الأمريكي" كما نسمع على مدى عقود. ولكي لا تجرفنا موجات التفاؤل بهذه التحولات بعيداً عن الواقع، وتنسينا موجبات التبصر فيما يمكن أن يُعد لمواجهة هذه التحولات الايجابية وإفراغها من مضمونها، ولكي لا نستكمل المشهد السياسي والتاريخي بنوع آخر من التحولات السلبية والخطرة، فلنمر عليها سريعاً ولو بشكل عناوين، خصوصاً أن فضاءنا الثقافي والإعلامي مليء بالتحليلات والتنظيرات التي لا ترى إلا الجوانب القاتمة في واقعنا وفي التحولات من حولنا، فأعفاني أصحابها من الاسترسال في تفصيل وتحليل هذه التحولات السلبية، وان لم يعفوني من ضرورة التحذير من مخاطرها ومن تداعياتها. تحولات سلبية: 1. تصاعد الاتجاهات اليمينية العنصرية المتطرفة داخل دول الغرب بما فيها الولايات المتحدة، مما سيؤدي إلى إستيلاد نزعات فاشية وعنصرية قد تقود العالم إلى مغامرات خطيرة وغير محسوبة. 2. تنامي الاتجاهات العنصرية المتطرفة داخل الكيان الصهيوني ونجاحها في تسويق فكرة "الدولة اليهودية" داخل الولايات المتحدة والعمل على فرضها مع الإدارة الأمريكية على الفلسطينيين والعرب وإمكانية لجوء العقل الفاشي العنصري الصهيوني إلى حروب مدمرة تنقلب نتائجها عليه، اغلب الظن، لكنها ستحدث دماراً كبيراً من حولها. 3. تنامي ظاهرة الرضوخ الرسمي العربي، بما فيه الرسمي الفلسطيني، للاملاءات الأمريكية والصهيونية بما يخفض إلى حد كبير من سقف المطالب الوطنية الفلسطينية ويضعف من الزخم العالمي المتنامي لدعم قضية فلسطين. 4. توسع ظاهرة الانقسام والتوتر والتحريض على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية أو جهوية في العديد من أقطار الأمة العربية والإسلامية بما يخدم مخططات الفتنة المرسومة في المطابخ الصهيونية والاستعمارية. 5. اشتداد المحاولات الرامية إلى محاصرة وتشويه وإضعاف الروابط الجامعة في الأقطار وعلى مستوى الأمة، لا سيّما الرابطة الوطنية وكل القيم المرتبطة بها، أو رابطة العروبة بكل أبعادها، وذلك في إطار مشروع التفتيت الجاري حالياً في عدد من الأقطار والذين يخططون لنقله إلى أقطار أخرى. 6. تزايد وسائل القمع والاستبداد في العديد من الأنظمة العربية بما يؤدي إلى أضعاف التأثير الشعبي في القرار السياسي، وبما يحقق لأعدائنا احتلال إرادتنا بعد احتلال أرضنا. المهام المطلوبة: 1. التأكيد على التلازم بين مقاومة الاحتلال وبناء مجتمعاتنا في ضوء المشروع النهضوي، والانطلاق بان المقاومة هي رافعة رئيسية للنهوض لا لكونها تتصدى لأعدائه فقط، بل لأنها تعبئ الأمة، كماً ونوعاً، لمواجهة التحديات. 2. تحصين وحدة مجتمعاتنا الداخلية عبر اعتماد روح العفو والتسامح، ونهج الانفتاح والحوار، وتطوير وتعزيز صيغ العمل الديمقراطي ومحاصرة كل منطق طائفي او مذهبي باعتباره الاحتياطي الاستراتيجي للأعداء. 3. تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك، وتنفيذ القرارات والمواثيق والاتفاقات المعقودة. 4. تصويب بوصلة الأمة باتجاه العدو الصهيوني ورسم إستراتيجية عربية متكاملة للأمن القومي تقوم على تكامل الدفاع بين الأقطار، وتكامل المواجهة بين المقاومة الشعبية والجيوش النظامية. 5. وضع خطط مدروسة لاتحاد عربي عبر برامج متدرجة في كافة مجالات الحياة لا سيما في مجال الاقتصاد والتجارة والمواصلات والمشاريع الكبرى المشتركة. 6. إيلاء البعد الثقافي والتربوي اهتماماً خاصاً بما فيه تطوير وتعميق الاهتمام باللغة العربية لما لها من ارتباط وثيق بهويتنا الثقافية. 7. تعميق التواصل والتفاعل مع دول الجوار الحضاري الإسلامي وبناء منظومات مشتركة على الصعد الرسمية والشعبية. أ- منطقة تجارة حرة. ب- المؤتمر الدائم للحوار العربي – الإيراني – التركي. ج- المؤتمر الدائم للحوار العربي - الأفريقي. 8. تطوير آليات للتواصل والتفاعل مع قوى التحرر ومناهضة الهيمنة الامبريالية والعنصرية الصهيونية لإنشاء شبكة عالمية للحرية والعدالة في العالم. 9. إعادة صياغة هيكلة الأمم المتحدة ومؤسساتها خصوصاً لجهة بناء توازن حقيقي بين الجمعية العامة كسلطة تشريعية ومجلس الأمن كسلطة تنفيذية من اجل تجسير الهوة المتزايدة بين المؤسسات الدولية والرأي العام العالمي. 10. الاهتمام بمراكز الأبحاث والدراسات وتخصيص موازنات كافية لها لكي تتحول إلى بيئة بحثية وعلمية تسهم في ترشيد القرار السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي والاجتماعي، وتخرج سياساتنا من الارتجال والتفرد والتسّرع. 11. السعي لبناء كتلة تاريخية نهضوية من كل التيارات والقوى الفاعلة من الأمة والمنتمية إلى كل التيارات الفكرية الملتزمة بمشروع الوحدة والنهضة والتحرير. 12. بلورة خطاب عربي وإسلامي مستنير بعيد عن الغلو والتعصب قادر على بناء الوحدة في الداخل، واستمالة قوى رئيسية في العالم والسعي لترجمته في ممارسات حضارية تليق بتراث امتنا وتقاليدها ورسالتها الخالدة.