*هل سبق لك عزيزي القارئ أن سمعت عن هذا الاسم من قبل ؟ .. فإذا كنت لم تسمع به ، فلا تآخذ نفسك كثيراً .. فهو اسم مركب من اسم لفتاة حضرمية أصيلة ، بينما العائلة هي الاسم الثاني لامرأة أمريكية جامحة ناضلت عام 1993 م ضد إحدى أكبر شركات الطاقة الأمريكية ( باسيفيك للغاز و الكهرباء ) ، وحصلت على تعويض ل634 ضحية من ضحايا التلوث البيئي الذي خلفه عمل الشركة في منطقة صحراوية ( هينكلي ولاية كاليفورنيا ) في أكبر قضية تعويض في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية .. *هذه المرأة التي عرفت ب" إيرين بروكوفيتش Erin Brockovich " خلدتها السينما الأمريكية بإنتاج فيلم ضخم عن معركتها القضائية ( الملحمة ) كسر الأرقام القياسية في المشاهدين في أول أسبوع لعرضه في أمريكا ( حقق 28.1 مليون دولار في نهاية الإسبوع الأول )، ونالت بطلته الجميلة / جوليا روبرتس / عنه جائزة الأوسكار ، ومجموعة أخرى من الجوائز من أكاديميات ومراكز البحوث السينمائية في العالم .. *وعودة إلى الإسم الأول ، فلا أعتقد أن أحداً قد سمع به من قبل ، ولو حتى في موطنها ( حضرموت ) .. هو الإسم الأول للدكتورة / قبول أحمد باعامر / طبيبة في مركز الأورام السرطانية بمستشفى ابن سيناء بالمكلا .. فتاة قمحية ، بلون الأرض الحضرمية التي تعمل عليها ، تحمل في سني عمرها الغض آلام عظمى لمئات المرضى الذين يمرون يومياً تحت يديها النحيفة ، علها تمسد عليهم برحمة قلبها الأبيض فتخفف عنهم وجع الإنهيار العظيم في الصحة والمعيشة و .. الحياة ، في التراجيديا السوداء التي تقطع نياط أقسى القلوب .. بينما / د. قبول / تنبثق من قلب المعاناة هالة من نور ورحمة في إظلام الواقع الحالك والمخيف .. عندما تشاهدها في ممرات مركز الأورام تحس بوطأة المأساة على قلبها الصغير وهي حاضرة فوق أوجاع مرضى السرطان ومريضاته وهم يتداولون إسمها بحميمية وشغف ، فتجيب هذا ، وتحنو على تلك ، وترد بهدوء على المحتد الغاضب ، وتأخذ بحنايا اليائس ، وتلطف روع الموجوع .. كتلة من العواطف الحانية سخرها الله لأولئك المرضى الذين تكاد وحشية السرطان أن تأخذ من أرواحهم نبض الحياة وألقها. *عفواً أيها الأعزاء لقد شاهدت فيلم ( بروكوفيتش ) مرات متعددة ، وفي كل مرة لم تغب عني صورة هذه الطبيبة الحضرمية بكل حنوها وطيبتها ومحبة مرضاها لها وحضورها القوي في بث الأمل في نفوس مرتادي المركز الذي تعمل فيه. *لقد عملت ( إيرين بروكوفيتش ) على آلام ضحايا خرق بيئي خطير تحدثه أعمال شركة الطاقة الأمريكية العملاقة التي تستخدم مادة كيماوية ( الكروميوم السداسي ) لتنظيف المداخن الضخمة لمفاعلاتها ، وهو الأمر الذي أدى إلى تلويث المياه الجوفية في المنطقة المحيطة بعمل الشركة .. فبدأت تنتشر بين أهالي المنطقة أمراض السرطان والفشل الكلوي في غفلة من الأهالي والسلطات. *وقد لفت هذا الأمر موظفة بسيطة في مكتب للمحاماة لتبدأ معركة قانونية وإنسانية مريرة ، حيث إمرأة مهيضة الجناح ، مسحوقة تحت ضغوط حياتية ثقيلة ، أمام إحدى كبريات شركات الطاقة العاملة تحت غطاء 28 مليار دولار إجمالي قيمة أصولها المنتشرة في أمريكا .. لتنتهي بانتصار قيَم الرحمة والإنسانية فوق طغيان وجشع الرأسمالية .. حيث تدفع الشركة لغرمائها ( 333 مليون دولار ) تعويضاً لمعاناة 634 ضحية من أهالي منطقة هينكلي. *هذا هو فعل الحب والإخلاص .. يسمو على الآلام ، فيسحق ، ويدمر كل قوى الشر والمرض والحزن .. ويهب القوة للمواجهة والصبر على المحن والمآسي مهما ثقلت ، وزادت وطأتها على النفوس. *هل هو رهان د. قبول عندما تأخذ من عمرها الذي ، لم تعشه بعد ، لتعطي مرضى ومريضات السرطان الشرس الحب علهم يقفزوا فوق محنتهم ، ويجدوا من القلوب البيضاء الملتفة حولهم بلسماً يشفي مرضهم ويخفف من أوجاعهم الحرى ؟. *فأصل أيها الأعزاء لأن أسألكم : هل سمع أحكم يوماً ببنت باعامر هذه ؟ هل رآها أحدكم يوماً تتنطع في حفل ؟ ، أو تتفلسف على منصة خطابة ؟ ، أو شهدتموها سعت يوماً للظهور أو السطوع على مرائينا المسمرة بالساعات بغباء أمام التلفاز ؟ .. *بالتأكيد لم يرها أحد هكذا .. ولكن من يريد أن يرى قيماً إنسانية نبيلة تخدم الإنسان وتعلي من قيمته ، وتضعه فوق اعتبارات المصالح والمظاهر والاعتبارات الحمقاء التي أصبحت تحاصر حياتنا بدنسها وأوساخها .. فليذهب إلى حيث د.قبول. *هذا هو فعل الحب ، وهو كذلك فعل الإحسان في العمل ، والإيمان بالقضية ، والإخلاص في أداء الواجب .. فلو لدينا ألف ممن يعملون بإخلاص طبيبة الأورام السرطانية ، وألف ممن يناضلون بإصرار الموظفة الأمريكية .. لبلغنا شأنا عالياً ، ولعلونا فوق هام السحب ، بدلاً من مضغنا لهراء الكلام ، ولوكنا لأجوف الشعارات ، وما نفعله في أنفسنا وبلادنا من تدمير للذات وسحق لمقدرات أرضنا وناسنا بالحماقات التي ( ما قتلت ذبابة ) ولم تحيي يوماً نبتة .. بل قتلت وسفكت وسحقت فينا الحياة ، وأحالتها جحيماً ، وتربعت على قلوبنا وأجسادنا بدناءة أفعالها ووضاعة فكرها و …. *إن مقالي هذا جاء بعد مشاهدة متأنية لفيلم ( إيرين بروكوفيتش ) الرائع للمرة الخامسة تقريباً .. ولازلت أستمتع به كفكرة لا كلغة سينمائية ، ولكن كفكرة إنسانية خالصة تُعنى بقيمة الإخلاص والإحسان في الفعل والعمل ، وحاجتنا إلى هذه القيم مرجعيات وشخوصاً لتحسين وتجميل واقعنا ، ونبذ القبح والغباء في التعامل مع قضاياه ..