قبل أيام قليلة أتيحت لي فرصة الإحتكاك الفكري الواقعي المباشر مع عدد من الأخوة والأخوات من الشباب الصغير فتيات وفتيان ممن يعرفون بجيل الفيس البوك والتويتر والإنترنت و \"السوشيال ميديا\" ،وذلك ضمن مؤتمر يحمل عنوان \" مؤتمر الإعلام الإجتماعي في فلسطين \" عقدته مؤسسة \"أمين الإعلامية \" بشكل متزامن في كل غزة ورام الله . خلال اعمال المؤتمر كنت أدرك بأن هناك إختلاف في المواقف والأفكار بيني وبين العديد من هؤلاء الشباب ، وهو إختلاف طبيعي تفرضه المسافة الزمنية التي تمتد بيننا وكذلك حجم التجربة الذاتية والجمعية لكل منا ،وطبيعة هذه التجربة والمناخ السسيولجي والتاريخي والمكاني الذي واكب تجربة كل منا . بالنسبة لي فإن إحدي محددات هذه التجربة والتي قد تكون السمة البارزة فيها والأكثر تأثيراً في بناء الشخصية الفردية والجمعية لي ولجيلي هي \" الإنتفاضة \" . فنحن أبناء جيل شاءت الأقدار أن نكون \" جيل النكسة \" التي واكبت مولدنا وتلازمت بكل معالمها المادية والمعنوية والسياسية طفولتنا وبدايات شبابنا ، وفي نفس الوقت كنا \"جيل الإنتفاضة\" التي تفجرت في الوطن ببدايات تفجر دماء الشباب في عروقنا ، وأممدناها من حياتنا ودمائنا و فكرنا وعملنا وتضحياتنا بكل ما نملك ونستطيع عليه . ففي ذكرى إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى أضع بعض معالم هذه التجربة لعله يكون فيها فرصة لتوضيح الذات سعياً للتوصل لفهم مشترك يخلق مساحة من التواصل بين جيلين \"جيل الإنتفاضة و \" جيل السوشيال ميديا\" ، أو على الأقل أكون قد أعطيت نفسي فرصة لإبراز جزء من تلك التجربة العظيمة التي أعتز بها أنا وأقراني من \"جيل الإنتفاضة\" ،تلك الإنتفاضة كحالة سسيولجية وسياسية وفكرية تجاوزت الوطني الفلسطيني و باتت تصيغ الواقع العربي مشكلة حالة تراكمية من الوعي والتغيير الفكري الموحد والتغيير الواقعي المتناغم مع متطلبات الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج ، وهو واقع لن يشعر فيه الفلسطيني بالإغتراب بإنتفاضته ومقاومته وسعيه نحو تحرير المقدسات . فعندما كنت طفل أدركت بعد زمن ماذا كانت تعني في قاموس السياسة و أبجديات الصراع مع الكيان , ما كنت أقوم به انا و أقراني أطفال مخيم جباليا من سلوك يومي بإتجاه قدر جاثم على صدورنا في قلب المخيم ، حيث فتحنا أعيننا على الدينا لنرى أبراج معسكر جيش الإحتلال قبل أن نرى بسمات أعين امهاتنا ونسمع ضحكات جنوده قبل أن نسمع العالم أول صرخة لنا , فمن مفارقات القدر أن عيادة الولادة الوحيدة في مخيم جباليا التابعة لوكالة الغوث كانت ملاصقة لجدار معسكر جيش الإحتلال في وسط مخيم جباليا ,فالواحد منا كان يدخل الحياة برسم من الموت القابع في معسكر الجيش . وكان سلوكنا اليومي تجاه هذا القدرينبع من تربيتنا الدينية والعقائدية وما تشربنا به من التاريخ وحكايا الجدة والأم عن أبطال نتخيلهم عمالقة يلثمون وجوههم بالكوفية ويحملون \"البارودة \" أو \"الكارلو\" لهم المخيم في الليل , وهو لجنود الإحتلال في النهار ،وتشربناه من حالة الرفض العامة والإستنكار لهؤلاء الجنود الراطنين بلغة لا نعرفها وعندما عرفناها لم نستوعبها أو جنود أخرين يرطنون بلغة عربية لم نعتاد عليها لغة حذفت مفردات الكرامة والعزة والإباء منها وأحلت محلها مفردات الخنوع والإستسلام والذل والعمالة . كما وأن هذا السلوك تجذرفينا كحالة طبيعية للدفاع عن الذات المادية والمعنوية تجاه غاصب حاقد إستهدف فينا كل شيئ بيوتاً و أرواحاً وحتى احلام طفولة . هذه المحددات للعلاقة مع المحتل كنا نعبر عنها في كل مرحلة من العمر بشكل وفي كل مناسبة بطريقة فكلمة \"بيعوا \"- ونقصد فيها بيع ياجندي محتل سلاحك - كنا نقذفها في وجه المحتل كقنبلة الفدائي ، وهي قد تكون عبارة عن كلمة عادية من أربعة حروف ولكنها كانت لنا بالفعل قنبلة ، فقد كنا نتخفى بين أزقة المخيم ونتحين مرور الإحتلال راجلاً أو على آلياته فنملأ قلوبنا بعزيمة ويزداد جبيننا ضيقاً وعيونناً حدة ونملأ صدورنا بأكبر كمية من هواء المخيم الممزوج بعبق العزة ونقلص حنجرتنا حتى تتحول أحبالنا الصوتية إلى وتر مشدود على قوس ، ثم نطلقها بكلمة \"بيعوا \" قذيفة في وجه جندي الإحتلال وسمعه , ثم بعد ذلك نفر لأن النتيجة معروفة يهرول الجنود ليلحقوا بنا بين أزقة المخيم ولكن هيهات لهم أن ينالوا منا فهذا المخيم الذي حوله عوز ساكنيه إلى مأوى إلى اعقد طبيعة طوبغرافية قد يواجهها عسكري ,هذه الطبوغرافية التي حاول أن يطوعها شارون بدباباته بهدم بيوت المخيم وتوسيع شوارعه ، فلم تنهزم ولم تنزع المقاومة من المخيم لأن المقاومة إنتقلت من الطوبوغرافية إلى الديموغرافية و توحدت بالجماهير . كبرنا وكبرت معنا فلسطين وتحولت ردات فعل الطفولة إلى فهم لمعنى المقاومة , فتحدينا قدر التجهيل والعبودية عند \" المشغل اليهودي\" في بيارة كانت يوما ملكاً لأفندى فلسطيني و ادركنا انه بالعلم نصنع مقاومة نعبر عنها انياً بتلك الضربات على حقائبنا المصنوعة من قماش -الله يعلم ماذا كان قبل ذلك ، ونعبرعنه بأول كلمات نخطها على جدران المخيم \" بالروح بالندم نفديك يا فلسطين \" وبالجدول السنوى للمقاومة مظاهرات و مواجهات حجارة وقنابل ملوتوف وكاوتشوك . هذا هو المخيم الذي هيأه رب العالمين لأن يتشرف يإحتضان الشرارة الأولى للمقاومة فقد كانت ليلة 8ديسمبر 1987م ليلة من ليالي كانون الباردة التي سبقها صيف وخريف ساخنان على صعيد المقاومة حيث كان كل الوطن يعيش حالة من الغضب العام وإشتداد جذوة المقاومة خصوصاً وأن المحتل حاول أن يستكمل ما بدأته الأنظمة العربية في قمة عمان عندما تعاملت مع القضية الفلسطينية بدرجة دنيا من الإهتمام وكأنهم تعبوا من حملها ويريدون لها حل على طريقتهم ، وهاهو الإحتلال يحاول ان يكمل في الداخل ما بدأته الأنظمة العربية في ساحات الخارج فأخذ يمارس أقصى درجات الإذلال والضغط على أبناء شعبنا لكسر شوكة المقاومة حتى كانت حادثة الشاحنة في مساء 8 ديسمبر والتي ذهب ضحيتها شهداء من أبناء قرية جباليا البلد هذه الحادثة لم تأتي بشكل عفوى بل كان مخطط لها نفذها الصهيوني المجرم إنتقاماً لعملية طعن مستوطن إسرائيلي في مدينة غزة . كان مخيم جياليا يتهيأ لليلة جديدة من ليالي كانون الطويلة يمارس فيها الإحتلال العربدة و إعتقالات وتفتيش بيوت وإطلاق نار كثيف وقنابل مضيئة , توزيع بلاغات وإستدعاءات , ولكن هذه الليلة لم تكن طبيعية فقد جاء خبر الشهداء وسرى كتيار صاعق في هذا البارود الثوري المتقد وخرج سكان مخيم جباليا بكل فئاتهم واعمارهم وتوجهاتهم وتضامنوا مع جيرانهم وأخوتهم في جباليا البلد تضامن على طريقة المخيم الخاصة وبنكهة المقاومة ، هجوم على مركز الجيش جحافل وحجارة وملوتوف وكانت ليلة إحتفالية تليق بليلة الإعلان عن الشرارة الأولى للإنتفاضة ،الرصاص في كل مكان في الجو وبين البيوت وفوق الرؤوس والغضب يصرخ ويدوي في كل مكان مع ازيز الرصاص ودوي القنابل وفجأة هدأ كل شيئ كما بدأ ولكنه هدؤ كان ينذر بأن صباح يوم غد لن يكون كأصباح الأيام الماضية نعم نام المخيم محتضناً في صدره الإنتفاضة . وإستيقظ المخيم في الصباح المبكر و أطلق من حنين الماضي وألم الحاضر وأمل المستقبل الطائر الأسطوري ليحلق في سماء العالم معلناً عن ان هناك في في فلسطين \"إنتفاضة \" هذه هي الإنتفاضة كانت بالنسبة لنا ولكننا بعد ذلك أدركنا بان الإنتفاضة في مفهوم الصراع مع الكيان كانت شيئ آخر فبعد فقدان آخر خط مواجهة مع الإحتلال بفقدان الجبهة الرابعة والأخيرة بالخروج من بيروت قدمت الإنتفاضة جبهة خامسة ولكن هذه المرة في خاصرة المحتل وعلى أرضنا . وبعد أن تنكر لنا كل العالم بداية من أبناء عروبتنا و ظهور مخططات الشطب و التذويب للقضية والهوية الفلسطينيتين جاءت الإنتفاضة لتؤكد على مركزية القضية الفلسطينية وقدسيتها وبان هذا الشعب لا يمكن ان يشطب مازال يعيش حالة المقاومة . فمهما كانت الإنتفاضة في حسبة السياسيين أو جهابذة التخطيط والإبداع الإستراتيجي فإن الإنتفاضة لشعب الإنتفاضة تظل تلك الحالة العقائدية والفكرية والوجدانية والإجتماعية والسياسية والعسكرية التي تعبر عن شعب يدرك ويعي حقيقة ذاته و الغاية والمعنى من وجوده مرابط على هذا الثرى المقدس وتعبر عن إرادة في الحياة بكرامة وعزة وعن تحدي المحتل بكل ما يحمل من قوة وغطرسة وحقد وعنصرية وتحالفات وتآمرات فهي بالمعنى المجرد تعبر عن الإيمان الراسخ بأن هذه الأرض هي أرض رباط و الوعي السليم للوجود والمقاومة والإرادة في الحياة الكريمة . هي \"الإنتفاضة\" صاغت ذواتنا وتغلغلت في أدق خلايانا بل إمتزجت بجيناتنا ومورثاتنا ، يحملها الإبن عن الأب ،جيل بعد جيل حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً . هي \"الإنتفاضة \"فيض من الإشعاع الفكري والتجربة والحراك التاريخي والسسيولجي ، نغلفها بغلاف المحبة والأخوة ونقدمها هدية ثمينة لكل الأحرار المنتفضون في ربوع الوطن العربي الكبير لنبني سوياً وطن يحتضنا جميعاً لا نشعر بالإغتراب في أي جزء فيه في شرقه أوغربه أو شماله أو جنوبه . حسن حسين الوالي –غزةفلسطين . [email protected]