الزمن 1 يناير 2010. المسخ يكتُب مقالاً في صحيفة الثورة تحت عنوان: ليكن عام خيرٍ وسلام. كانت دباباته في صعدة وأطقمه العسكرية في عدن تنشر السلام وتحرك التنمية، كعادته، ساعة كتابة المقال. هكذا كان المسخ يستخدم كل تلك اللغة الراشدة ليعبئها دجلاً وقبحاً: من من أجل أن ترفرف رايات السلام والتآلف والمحبة في ربوع اليمن العزيز وأن تحتشد الجهود في معركة البناء والتنمية تحت راية الجمهورية والوحدة والديمقراطية، بعيداً عن الصراعات والخلافات التي لم يجن منها وطننا وشعبنا في الماضي غير المآسي والأحزان التي ظلت تنغص القلوب وتعيق مسيرة التقدم في الوصول إلى غاياتها المنشودة. في 31 ديسمبر 2011 ألقى المسخ خطاباً جديداً. تحدث فيه أيضاً عن الوطن وعن حكومة الوفاق. ولأنه رجل سلام، خلق من ضلع السلام الأعوج على هيئة بندقية، فقد استخدم جملة "سنلجأ إلى طرق أخرى" ست مرات، بينما هو يشير إلى الطريقة المُثلى لإدارة المشهد اليمني الراهن. ألمح إلى أن هذه الطرق الأخرى لا علاقة لها بفكرة الوفاق، ولا العدالة الانتقالية. قال إنه لن يسمح بانهيار مؤسسات الدولة. وبعيداً عن دقّة هذه الجملة "مؤسسات الدولة" فإن المسخ يرى أن استبدال الشاطر بالعميد السقلدي يمثل انهياراً حقيقياً لمؤسسة التوجيه المعنوي. كما أن عودة سمير اليوسفي لرئاسة صحيفة الجمهورية، وعودة باسليم إلى التلفزيون يمثل انقلاباً هائلاً على المؤسساتية واليمن الحديث الذي بناه المسخ طوبة طوبة، حتى الدور التسعين تحت الأرض! يناور صالح في موضوع سفره إلى أميركا بنفس الطريقة الكلاسيكية للقناع الكبير: صالح عفاش الدم، أشهر راقص ستربتيز حِميَري. حفلات ستربتيز شهيرة كان صالح بطلها. هل تتذكرون حفلة "اترشح ما اترشحش" و "أوقع ما أوقعش" وأخيراً ولأول مرّة على المسرح القومي "أسافر ما اسافرش". أميركا، ومعها الاتحاد الأوروبي، يدرسون الآن فكرة "العدالة الانتقالية" بديلاً عن الضمانات. وهي مقاربة تقوم بها دولة ما، في طور الانتقال من العنف او الاستبداد إلى الديموقراطية أو المصالحة، تجاه موضوعات حدثت في الماضيي متعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، جرائم الحروب، أو الإبادة الجماعية. حيث تقوم بتصفيتها عبر وسائل قضائية وغير قضائية، وبحيث يكون من الممكن الدفاع عن عمليات التسوية تلك طبقاً للقانون الدولي، وكذلك تكييفات القانون المحلي. تشمل إجراءات العدالة الانتقالية خمس استراتيجيات: المحاكمات، لجان كشف الحقيقة، إصلاح مؤسسي متعلق بجهاز العدالة، تخليد الضحايا عبر المتاحف والنصب التذكارية وخلافه، والتعويض المريح. نشرت صحيفة أخبار، الأحد الفائت، نقلاً عن دبلوماسي خليجي رفيع - يعتقد أنه السفير السعودي - إن المجتمع الدولي يطرح فكرة العدالة الانتقالية بدلاً عن الضمانات. وأن صالح غير متحمّس لفكرة العدالة الاجتماعية، ويفضل ضمانات مباشرة بلا تفاصيل. إذ يعتقد، وهو ما يدركه صالح، أن باني اليمن الحديث قد أقام مملكته على عرش من الدم والجماجم، يحرسه اللصوص والقتلة والمهربون من كل جانب. وهي حقيقة سيعني الاقتراب منها قتل صالح نفسياً وأخلاقياً لمليون سنة قادمة. صالح يدرك أن كلامي هذا ليس بلا دليل. ويدرك معه أيضاً بقية جوقة الحيوانات الناطقة، وسائر الكائنات النيأندرتالية التي تشاركه طريقة وعيه بالعمل السياسي، واستجابته لمخاطره. العدالة الانتقالية استراتيحية ملائمة للوضع اليمني كثيراً، لا يمكن تخيل مسودة ضمانات وقد منحت لصالح بطريقة تفضي إلى دفن كل ضحاياه. يمكننا القول: إن النصف قرن الأخير من تاريخ اليمن هو "تغريبة موت" كان بطلها وعازفها وسائسها صالح عفاش الدم الكبير. إن صفحة صالح السوداء تشبه إلى حد كبير "حجر رشيد" في التاريخ المصري، إذ لم يكن ممكناً قراءة تاريخ مصر القديم دون العون العظيم الذي قدمه الكشف عن حجر رشيد. ومن غير العلمي ولا الأخلاقي أن تغلق هذه الصفحة فقط لمجرد أن صالح يهدد بالعودة إلى درجة الصفر أو اللجوء إلى خيارات أخرى لطالما لجأ إليها كان فيها رأس حربة الخاسرين. العدالة الاجتماعية ستعني في الأخير إنهاك صالح، وتصفية ملف جرائمه. سينجو، بمعنى آخر، من الموت خوفاً، أو الموت العملي. بعيداً عن مصير هذا المسخ التالف فما يهمنا في موضوع العدالة الاجتماعية هو أن نتمكن من رفع الأحجار الضخمة التي غطى بها صالح تاريخنا المعاصر. لن نطمئن لموضع أقدامنا في الغد دون أن نعرف، على درجة ما من اليقين، ما الذي حدث في النصف الثاني من القرن العشرين. غير ذلك يعني أن يراد لثورتنا أن تكون بلا تاريخ. فكرة العدالة الاجتماعية تفترض تشكيل لجان "للبحث عن الحقيقة" وتجهيز نظام العدل بحيث يصبح كفؤاً وكافياً للنظر في هذا الملف. بدأت فكرة العدالة الاجتماعية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. في الدول التي يراد لها أن تنتقل من واحدية المؤسسة إلى المؤسساتية، من الاستبداد إلى الديموقراطية، من العنف والحروب الداخلية إلى السلام الاجتماعي القابل للحياة، ومن القمع إلى التنوّع. ذلك أن القوى المهيمنة، التي يراد تصفية ملف جرائمها عبر فكرة العدالة الانتقالية، ستجد نفسها في معركة بقاء، وستبذل كل ما بمقدورها لإعاقة عملية الانتقال. الحالة الليبية والسورية مثالان شديدا الوضوح على المدى الذي من الممكن أن تذهب إليه قوى الاستبداد وعوائل الطغيان في محاولة ستصفها بأنها عمليات ضرورية للدفاع عن النفس. ستنتصر الشعوب بفعل العزامة البشرية ومنطق السيرورة التاريخية، لكنها ستتألم كثيراً بعد النصر، ربما لعشرات السنين. على سبيل المثال: مرت قبل أيام الذكرى ال22 للثورة البرتقالية في رومانيا (16 - 25 ديسمبر) ضد الطاغوت شاوشسكو. سألت زملائي الأطباء الرومان: لماذا لا تبتهجون بهذه المناسبة؟ قالوا لي: نحاول أن لا نتذكر هذا اليوم، لأنه يوم مليء بالألم. قالت لي طبيبة رومانية: ما الذي ذكرك بهذا اليوم؟ قلت لها: لأنه واحد من أيام الله بالنسبة لنا كعرب، لا نزال نعيشه حتى الساعة. كانت حركة "كفاية" في مصر ترفع اللون البرتقالي، تيمناً باللون البرتقالي الروماني، وكذلك بحركتكم الوطنية التي رفعت لوحة كبيرة: يكفي. بينوشيه، الديكتاتور التشيلي الشهير، انتقل من رئاسة السلطة إلى قيادة الجيش إلى التقاعد بموسيقى عسكرية عبر تسويات داخلية متعلقة بفكرة العدالة الانتقالية. أي عدالة خاصة يقترحها المجتمع في مرحلة الانتقال من وضع إلى آخر أفضل منه. ذلك عندما يقرر المجتمع، بصورة حازمة، أنه سيصرف جهده إلى المستقبل على أن لا يدفن الماضي مرّة واحدة. في ألمانيا الشرقية، في الأرجنتين، وحتى جنوب أفريقيا فعّلت فكرة العدالة الانتقالية، واستطاعت الشعوب أن تسجل أسماء الشهداء والمجرمين في التاريخ وفي المتاحف إلى الأبد. كتب جار الله، رئيس تحرير السياسة الكويتية، أن صالح أعطى الربيع العربي نكهة خاصة عبر مغادرته من السلطة كزعيم وطني حقيقي. فكرة العدالة الانتقالية تقطع الطريق على مدلسي التاريخ من فشلة الكتاب العابرين للحدود. وفي نفس الوقت: تمنع تجار الحروب من إزهاق مزيد من الأرواح. لأن العدالة الانتقالية تعني: كشف الحقيقة بلا حدود. نعم، سيخرج صالح من الوطن بتسوية موازية لفكرة العدالة، لكنه لن يكون أكثر من خروج مشين: بجسدك وبعض مالك يا صالح. بلا نكهات ولا روائح سوى رائحة "غريغور سامسا" الذي استيقظ من أحلامه المزعجة فوجد نفسه وقد مسخ إلى حشرة كريهة، كما رسمه فرينز كافكا. لقد أصبح الشعب يتداوى الآن بالسخرية منك، بإهانتك أيها المسخ. شاب من أبناء اليمن الجديد سخر منك بصورة أدخلت السرور إلى أقاصي قلبي، يا صالح. اقترح قبل أيام أن يكون اسم الجمعة القادمة: الفيزا طلعت. هل هناك ما أهو أكثر إيلاماً من هذا؟ لا أتصور .. صالح يريد أن يحصل على الضمانات، توقيع على بياض. ويصر على أن تنتهي الحكاية عن هذا الفصل. لكن العدالة الانتقالية، الفكرة في صميمها، تفترض أن على جهاز القضاء المحلي أن يدرس أولاً ملف صالح. على لجان التحقيق، الاحترافية، أن تقدم ملفاتها. سيكون على نظام صالح أن يدفع تعويضاً مقبولاً لكل ضحاياه، وعلى الدولة الجديدة أن تمنحهم التعويض المعنوي المريح: بدءً من سرد سيرهم في المناهج الدراسية إلى تسمية المطارات بأسمائهم. عند ذلك يمكن إجراء عملية تصفية حساب بين صالح وضحاياه، ويمكن القول: لقد ساعدت هذه العملية على الانتقال "قليل الألم" من الاستبداد إلى الديموقراطية، دون أن يكون هذا الانتقال قد ترك على قارعة الطريق أبطالاً بلا مستقبل، وشهداء بلا أضرحة. صحيح، تذكرت أمراً طريفاً. كان المخلوق البركاني قد نسيَ الطريق إلى ميدان السبعين. تذكر في صبيحة يوم من الأيام الأخيرة للثورة أغنية محمد قنديل "يا حلو صبّح، يا حلو طُل" فأطل البركاني على السبعين: سنعود بهم إلى درجة الصفر. كان الزمن الجمعة، وكان الوقت: الظهيرة، وكان عنوان الجمعة: وإن عدتم عدنا. غير أن اللوحات التي حملها مؤيدو صالح في هذه الجمعة، كما رأيناها في الفيديوهات المنشورة في مواقع الحزب الحاكم، كانت: جمعة الإخاء، الجمعة التي مضى عليها أكثر من أربعة أشهر. لا يزال الحزب الحاكم يرقّع كل شيء، حتى نفسه. توعد البركاني بتخريب العملية السياسية التي بالكاد التقطت أنفسها. عبده ربه منصور، الذي فيما يبدو لم ترق له هذه الإشارة، اجتمع بأعضاء الحكومة يوم الأحد وأخبرهم إن هذه الحكومة هي أكثر حكومة في التاريخ اليمني الحديث تحظى بالرعاية والمراقبة والمساندة الدولية. يبدو أن جملة "فخامة الرئيس" بدت تروق له كثيراً. قال في لقاء متلفز قبل شهر "إنه القضاء والقدر". منطق معدّل من مقولة: صلاة الفجر ودعاء الوالدين. ليس هذا هو الموضوع الرئيسي، بالمناسبة. باختصار: إن تفعيل فكرة العدالة الانتقالية سيعني أن الشعب اليمني سيدخل في متتالية زمنية مركبة وشديدة التعقيد، في غياب غطاء أمني واجتماعي واقتصادي مساعد. بما قد يرافقها من إعادة هيكلة جهاز العدالة من جديد، وصياغة نظام شرطة مساند لفكرة العدالة، إلخ. وهو أمر قد يتعارض مع حماس اليمنيين للخلاص العاجل من صالح وقطع حبل أحلامه إلى الأبد. ليس لدي اقتراحات دقيقة حول أفضل السبل لمعالجة هذه المعضلة المركبة. صحيفة المصدر