تمر التسوية السياسية في اليمن بظروف أقل ما يمكن القول عنها إنها "حرجة"، فاللاعبون الأساسيون يتبادلون الاتهامات بشأن فشلهم في التوصل إلى توافق، مع أنهم اتفقوا على تسمية الحكومة المشاركين فيها ب"حكومة الوفاق الوطني"، إلا أنهم أخفقوا في ترجمة هذه التسمية إلى واقع عملي وحقيقي. وقبل أشهر من الآن، وبعد توقيع الأطراف السياسية كافة على المبادرة الخليجية في العاصمة السعودية، الرياض، بمن فيهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ظن كثيرون أن الأمور يمكن أن تجنح نحو التهدئة، خصوصاً بعد الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن العالمين ببواطن الأمور كانوا متأكدين أن ما حدث لم يكن سوى عبارة عن مسكنات موقتة سرعان ما تزول مع بدء مباشرة حكومة الوفاق الوطني مهامها، وهو ما تجسد بعد أسابيع عدة فقط من مباشرة الحكومة مهامها. وكان البعض يعول كثيراً على نشاط لجنة الشؤون العسكرية في تحقيق الاستقرار لفرض أجندتها على الساحة، خصوصاً وأن المتصارعين مازالوا في أماكنهم. صحيح أن اللجنة حققت الكثير قياساً لما كان عليه اليمن بعد نحو عام من المواجهات المسلحة، إلا أن اللجنة لم تتمكن من فرض أجندتها نتيجة لخلط الأوراق واستمرار حال التجاذبات بين القوى المتصارعة، السياسية والعسكرية على السواء. وبدا أن البلد يحتاج إلى مرحلة أخرى تستطيع أن تكتسب فيها القيادة التي تسلمت مقاليد الأمور شرعية شعبية، وهو ما تحقق بانتخاب نائب الرئيس السابق عبدربه منصور هادي رئيساً جديداً للبلاد. وحتى وإن بدت الانتخابات شكلية، فبعد الانتخابات أظهر الرئيس الجديد مرونة نسبية في معالجة ذيول المواجهات التي خلفتها الأزمة السياسية والعسكرية في البلاد. وعلى الرغم من أن هادي لم يتخذ قرارات ترضي رغبات طرفي الأزمة، فإنّ القرارات التي اتخذها، وإن كانت بطيئة، أشاعت جواً من الأمل والتفاؤل لجهة تحريك المياه الراكدة بعد أشهر من القتال، امتد من صنعاء إلى أرحب وتعز وعدن وغيرها من المناطق التي اشتعلت فيها ثورة للمطالبة بإسقاط النظام والرئيس السابق علي عبدالله صالح. أوضاع معقدة الأشهر التي تلت انتخابات هادي، والممتدة من شباط الماضي وحتى اليوم، أبرزت تعقيدات الأوضاع في البلاد، فلم يعد بإمكان الرئيس الجديد البقاء صامتاً حيال الكثير من الظواهر في البلاد، خصوصاً مع انقسام الحكومة ومؤسستي الجيش والأمن والقبيلة وحتى النخب السياسية. لهذا تحرك هادي في الأسابيع الأخيرة باتجاه إعادة هيكلة الجيش والأمن، وأصدر قرارات عدة تمثلت بدمج ونقل وحدات عسكرية تابعة لقوات الحرس الجمهوري التي يقودها نجل الرئيس السابق، اللواء أحمد صالح، وقائد الفرقة الأولى مدرع اللواء علي محسن الأحمر، وهي القرارات التي وصفها البعض بأنها "ثورة" في الاتجاه الصحيح . خطوات هادي أكدت أن الرجل، وإن ظهر أنه لم يعمل على تطهير البلاد من مراكز القوى العسكرية والقبلية بصورة حاسمة، فإن لديه الرغبة والتصميم بإعادة الأوضاع إلى مسارها الصحيح، وأن الإجراءات التي اتخذها تعطي مفعولها في إعادة ضبط إيقاع الحياة السياسية المعقدة رويداً رويداً، خصوصاً في ظل انقسام واضح في المواقف، ورغبة من قبل الطرف الخاسر في "المعركة الثورية"، وهو "حزب المؤتمر الشعبي العام" الذي يتزعمه الرئيس السابق، والذي لا يريد تسليم الراية لخصومه، والعمل بكل الوسائل والطرق لإفشال حكومة الوفاق الوطني بطرق مشروعة وغير مشروعة، مثلما حدث في عمليتي التمرد اللتين وقعتا في كل من وزارة الداخلية والدفاع خلال الشهر الماضي احتجاجاً على قرارات عسكرية وأمنية في الوزارتين . خلافات مستمرة وطوال الفترة التي أعقبت تشكيل حكومة الوفاق الوطني، ظل رئيسها محمد سالم باسندوة عرضة للنقد والاستهداف من قبل خصومه، تبدى ذلك في الحملات الإعلامية المكثفة التي قادها الإعلام التابع ل"حزب المؤتمر الشعبي العام" وحلفاؤه، وهو ما أحدث شرخاً كبيراً داخل مجلس الوزراء وأفقد الحكومة القدرة على معالجة الظواهر السلبية التي خلفتها الأزمة السياسية والعسكرية التي شهدتها البلاد خلال أكثر من عام. وظهر إعلام المؤتمر متابعاً لكل نشاطات باسندوة والوزراء التابعين للقاء المشترك بهدف إظهار عيوبهم، خصوصاً وزارات الداخلية والإعلام والمالية والكهرباء والشؤون القانونية، وتجاهل الإعلام الإخفاقات التي تكتنف عمل الوزراء المحسوبين على حزب المؤتمر وحلفائه . وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع يؤكد أن أداء الحكومة لم يكن بمستوى الآمال التي علّقها عليها الناس للخروج من الأزمة لأسباب عديدة، أبرزها غياب الانسجام داخل الحكومة، وهو ما أشار إليه وزير التعليم العالي والبحث العلمي يحيى الشعيبي في سياق عرض الأسباب التي دعته إلى تقديم استقالته قبل أكثر من شهرين من الحكومة ورفضتها الحكومة والرئيس هادي. واعتبر مراقبون ومحللون استقالة الشعيبي رسالة واضحة بأن مسار التسوية السياسية أصبح يعاني اختلالاً ، وأن الوقت قد حان لإعادة تقييم أداء الحكومة بما يؤدي إلى تغيير وزاري يشمل وزراء ووزارات وإدخال تعديلات جوهرية على أداء الحكومة ومنظومة عملها. قنبلة باسندوة في ظل هذه الأجواء الخلافية رمى رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة قنبلة سياسية من العيار الثقيل عندما كتب مقالاً في إحدى الصحف العربية كشف فيه عن جملة مؤشرات وصفها ب"السلبية" تدل على محاولة تعطيل مجرى التسوية السياسية، والحيلولة دون انتقال السلطة كاستحقاقات بارزة نصت عليها المبادرة، واقترح العودة إلى مسار الحسم الثوري بعدما تأكد أن أعوان الرئيس السابق لايزالون يشكلون عقبة في طريق التسوية. وقال باسندوة في مقاله إن "محاولات الالتفاف على استحقاقات المبادرة (الخليجية) بدأت بالظهور من جانب المؤتمر وحلفائه، عندما بدأ رئيس الجمهورية المنتخب وحكومة الوفاق بممارسة صلاحياتهما والتي تتابعت بهدف تعطيل سير التسوية السياسية، وإفراغها من المضامين، وتحويلها إلى مجرد إجراءات شكلية مغايرة فعلياً للالتزامات التي تنص عليها المبادرة". ورأى أن "بقايا النظام السابق غدت أكثر جرأة في الإسفار عن نواياها الحقيقية، قاطعة الشك باليقين بأنها عازمة على استعاده السيطرة على البلد مرة أخرى، ضاربة عرض الحائط بالالتزامات الملقاة عليها وفقاً للمبادرة". ويلخص باسندوة رؤيته للوضع من خلال القنبلة التي فجرها وأثارت ردود أفعال غاضبة في أوساط معسكر الرئيس السابق وحلفائه بالقول إنه "أمام هذا التراخي في دور المجتمع الدولي، سيكون على اللقاء المشترك وشركائه، وعلى كل قوى الثورة اليمنية السعي بجدية لاستعادة زخم الثورة، والعودة إلى اعتماد المسار الثوري كنهج وحيد لاستكمال تنفيذ أهداف الثورة، وفي هذه الحالة لا يمكن استعادة زخم الثورة إلا عن طريق واحد، هو التخلي كلياً عن نهج التسوية السياسية، الذي أفرغ من المضمون، ولم يعد ذا قيمة تذكر". تسوية متعثرة وأمام الوضع المتأزم يعتقد مراقبون أن الوقت حان لأن يتدخل رعاة المبادرة الخليجية لإعادة الأوضاع إلى حال من الاستقرار في أداء الحكومة، ويرون أن أقصر الطرق إلى ذلك هو إعادة تشكيل الحكومة بطريقة تبعد عوامل الفشل وتعزز عوامل الوفاق في حكومة لن يطول عمرها أكثر من عام ونصف العام، وهي معنية بإعادة الثقة إلى المواطن الذي طحنته الصراعات ولايزال يعتقد أن بقاء الحال على ما هو عليه يعيد إنتاج أزمة قد تكون أكثر سوءاً وكارثية من السابق، لاسيما أن أدوات الصراع لاتزال على ما هي عليه. ويحتاج المواطن اليمني إلى الثقة بحكومته وقدرتها على النأي بنفسها عن الصراعات السياسية التي تؤثر في مسار التسوية وتقوده إلى الهاوية، وأن الحديث عن العودة إلى خيار الحسم الثوري يعيد الأزمة، إلى مربع العنف من جديد، ما يجعل التسوية في "عنق زجاجة". ويرى المراقبون أن القدرة على استيعاب حقيقة أن "لا نظام بقي ولا ثورة نجحت" من قبل الأطراف كافة، هو السبيل الوحيد للتفكير ببناء نظام جديد يكون قادراً على تلبية مطالب الجميع وإبعاد الشعور ب"النصر أو الهزيمة".