بكرت غبش .. اين سارح ..؟ قلت ارض الحبش .. عندما وصلت إلي اديس ابابا أدهشني منظرها الساحر فقد بدت لي وكأنها غابة من الأشجار الخضراء تزين عاصمة الحبشة، هذه البلاد التي سمعت منذ كنت صبيا في القرية الكثير من الحكايات عنها وعن الرجال الذين تركوا اهلهم وهجروا نسائهم وهاجروا اليها ولم يعودوا، وعن الساحرات اللواتي يسحرن اليمنيين في أديس ودردوا ودبر زيد، وحكاية ناشر غالب الذي أبحر بالزعيمة إلى عصب وأسمرة وشق البحور السبعة حتى وصل الى تنكا بلاد النامس. عندما شاهدت سوق المركاتو، وعرفت سدست كيلوا، وتجولت في طور هيلج، ورأيت الخراعيب كما قال كندي، وكحلت عيوني بنسناس اديس المسكونة بالماء والخضرة والوجه الحسن، عرفت السبب الذي يجعل كل من يصل إليها من اليمنيين يستوطنها ولا يعود منها، ومن عاد، عاد وقلبه أسيرا بعشقها، متيما بجمالها، مفتونا بطبيعتها الخلابة وطيبة اهلها وبساطة العيش فيها. ذهبنا الى مدرسة الجالية اليمنية للإشراف على امتحانات المرحلتين، وقفت أتأمل إلى هذه المدرسة العريقة التي تأسست في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وتذكرت أساتذة أفاضل عملوا فيها أمثال عبد الله عبد العزيز، والمرحوم محمد سعيد جرادة، وعبد الصمد عثمان الصراري، ودرس فيها القاص الشهيد محمد عبد الولي والأستاذ محبوب علي المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية، ودارت براسي صور عديدة ومن هذه الصور صورة صالح سيف، والحاج عبد اللطيف، والسيد امين ونوريتو، وطانتو, وعبده سعيد.. توقفت عند هذا الاسم اتذكر... من يا ترى يكون عبده سعيد هذا .. اه .. لقد تذكرت انه ابرز شخصية في قصة محمد عبد الولى (يموتون غرباء)، هذه القصة التي استطاع فيها الكاتب ان يبرز التناقض بين ما هو قائم في اليمن من تزمت حاد، وبين ما يمثله المجتمع الحبشي من انفتاح اخلاقي، وان يصور كذلك النماذج اليمنية والحبشية بذلك المنظار الإنساني الواسع. عبده سعيد الذي هاجر الى بلاد الحبشة لجمع المال وبناء منزل في القرية من اجل ان يقول الاطفال وتردد النساء احسن دار دار عبده سعيد واغنى شخص هو عبده سعيد .. لم يستطيع ان يعود للقرية ليشاهد احلامه التي تحققت، بل لم يعود لزوجته التي تركها بعد عام من الزواج، ولم يرى ابنه الذي كان في بطن أمه جنينا عندما ترك القرية، بل لم يستطع حتى ان يرد على زبائنه بان المنزل الذي في الصورة التي يعلقها بدكانه هو منزله خوفا من ان يكتشفوا بان المال الذي يجمعه يرسله الى بلاده وهو لم يدفع الضرائب التي عليه، وفي نهاية القصة يموت عبده سعيد كما صوره الكاتب غريبا في بلاد غريبة غير بلاده ويقبر في قبر غير قبره. والحقيقة لو كان محمد عبد الولى يعيش الآن بيننا لتغيرت وجهت نظره تماما بنهاية عبده سعيد، وبالطبع كان سيدرك بان عبده سعيد لم يعش غريبا ولم يمت غريبا كما مات في القصة، وسيعرف ايضا بان الغرباء ليسوا اليمنيين الذين ماتوا او يموتون في ارض الحبشة كما كان يعتقد، بل كان المشهد سيختلف تماما عندما يعرف ان الغرباء الحقيقيون هم اليمنيين المغتربين في اليمن، المغتربين في صنعاء، هم أولئك الغرباء الحقيقيين الذين يعيشون فيها غرباء ويموتون غرباء وهم لا يملكون حتى شبر من هذه الارض التي تعتبر بلادهم، يموتون غرباء في وطنهم الذي لم يمنحهم حتى حقهم في المواطنة، يموتون غرباء وهم يبحثون في وطنهم الغريب عن وطن وعن مأوى يؤويهم، ولقمة عيش تسد رمقهم.. اما عبده سعيد لم يشعر يوما انه غريب في غربته، فقد عاش في بلاد الحبشة معززا ومكرما واخذ منها حقه وحق غيره ورحل، لم يمت غريبا كما صوره بن عبد الولي بل عاش في بلاد لم تشعره بتاتا بالغربة او تحسسه بأنه فيها غريب، بلاد أعطته كل الذي يريد، العمل والأمل والحياة الكريمة، أعطته الدكان والبضائع والمال الوفير والأصدقاء والصديقات، والكثير من العشيقات، أعطته الأمان ومنحته الطمأنينة وسقته الحنان والحب كله والوداد، ومارس فيها كامل حريته الفكرية والعقائدية، لم يضطهد ولم يمارس ضده اي أسلوب من الاساليب العرقية او الطائفية او العنصرية او اي وصايا من الوصايا الدينية، لقد اعطته الحبشة، مالم تعطيه اليمن له، ووجد فيها ما لم يجده في بلاده، فكيف مات غريب، وهو على سبيل المثال مات ونصف اولاد حارة (سدست كيلوا) أولاده الذين لم يعترف بهم.