يمرّ على المنطقة العربية من قبل، عصر شبيه بهذا العصر. كانت هناك عصور انحطاط وانهيارات. لكن عصراً شبيهاً بعصر الإنهيار هذا، لم يمرّ بكل يقين. دول وكيانات وشعوب تنهار أو تتلاشى خلال بضع سنوات من القتال. لم يبق من الصومال سوى الأسمال البالية. السودان غارق في مستنقع الدم منذ سنوات. العراق يحتضر تحت شجرة ديمقراطيته الفريدة في نوعها . مصر تترنح، تنهض وتتعثر. ولم يبق من ليبيا سوى إماراتها الإسلامية المتوحشة. قد تكون سورية المثخنة الجراح استثناءاً في القاعدة. وفي ما يشبع عصر انهيار عظيم آخر، يبدو أن اليمن يقاوم حتى النهاية من أجل أن لا تضمحل دولته وتتلاشى، كما تلاشت مراراً. ولئن كانت هناك وجوه كثيرة للصراع الدائر في اليمن، بعضها يبدو نوعاً من تكرار لتاريخ قديم؛فإن أهمها على الإطلاق وأكثرها دلالة على نوع وطبيعة التكرار، ذلك التوتر العنيف الذي ينشب بين القبائل بعضها ضد بعض. حتى الصراع الدائر بين داعش وأنصار الله، يجب أن يُنظر إليه على أنه نوع من تكرار للصراع القديم نفسه ولكن بأدوات ووسائل أخرى. ليس ثمة صراع قبلي في تاريخ المنطقة بأسرها، يمكن أن يتخذ طابعاً إقليمياً- دولياً سوى الصراع الدائر في اليمن؟ وبسبب ذلك، فقد كفّ عن كونه مجرد صراع قبلي، واتخذ طابعه كصراع شامل، متراكب ومعقد ويتقررّ فيه لا مصير اليمن؛ بل ومصير جاراته أيضاً. لقد اتخذ هذا الصراع باستمرار، شكل صراع مزدوج، تارة بين حمير وسبأ، وتارة بين الشمال والجنوب، ومرات كثيرة في صورة حروب وصدامات بين فارس وروما ( ثم بيزنطة). وفي هذا التاريخ، ليس ثمة وجه ديني- مذهبي. إن ما يثار اليوم عن توتر أو تجاذب مذهبي بين الزيدية والشافعية، هو من مُخْتَلقات بعض السياسيين اليمنيين- الذين يفتشون دون جدوى عن ذرائع تغطي نزعاتهم المذهبية-. كانت ذريعة وجود بُعد مذهبي في الأحداث، ملائمة لهؤلاء لتصوير كل ما يجري، وكأنه ناجم عن تدخل فارسي أو مطامع إيرانية أو شيعية. وأن اليمن لو لا تدخل ( الفرس) وأطماعهم، لكانوا في أهنأ وأرغد عيش؟ وهذه أكذوبة لا تصمد أمام حقيقة أن المنطقة كلها تعيش لحظة تداعٍ وانهيار للدول المركزية، وأن اليمن- بوجود نفوذ إيراني أو من عدمه- هو في قلب الزلزال ويتهددّه الخطر نفسه الذي يتهدد الدول الأخرى. في الصومال لم تكن هناك إيران ولم يكن هناك شيعة. لكن الصومال تلاشى. في السودان لم يكن هناك نفوذ إيراني ولا وجود للشيعة، ومع ذلك تشظى السودان. الأمر ذاته في ليبيا ومصر؟ وبطبيعة الحال، فقد أدّت أكذوبة الصراع الطائفي في اليمن إلى اضفاء بُعد زائف لا وجود له على الخلافات والتناقضات السياسية المحتدمة. إن فهماً عميقاً لما يجري، يجب أن يلاحظ وجود ثلاثة محاور كبرى ( هي الوجوه التي تجلى فيها الصراع ) لاتزال تتكررّ في هذا التاريخ منذ ما يزيد عن ألفي عام؟ في هذه السلسلة من المقالات، سوف أقدّم مقاربة جديدة للأحداث الجارية في اليمن من منظور تاريخي- فكري يسمح بتحليل سياسي هادئ وموضوعي. وسأبدأ الحلقة الأولى برسم إطار شديد العمومية- لمساعدة القرّاء غير المتخصصيّن على استيعاب أبعاد ما يجري- لا أكثر. أولاً : صراع الشمال والجنوب ( سبأ وحمير) ثانياَ : العامل الإيراني في الصراع الداخلي : فارس- وروما ( أو بيزنطة) ثالثاً : الزيدية والشافعية 1 : الشمال والجنوب، سبأ وحمير إن فهماً عميقاً لجذور وأسباب وبواعث التوتر التاريخي بين الشمال والجنوب في اليمن، يتطلب التعرّف على نوع وطبيعة الإخفاق والفشل في بناء دولة مركزية. لقد تحطم طموح اليمنيين مرات كثيرة عبر التاريخ في بناء دولة مركزية موّحدة، ولم يكن ذلك قدراً اسطورياً محتوماً، أدّى- ويؤدي – إلى تكبيل إرادتهم أو شلها عن التقدم؛ بل كان نتيجة منطقية لسلسلة من التفاعلات الداخلية والخارجية. ولعل تصوير ما قامت به حركة ( أنصار الله- ما يعرف خطأ بالحوثيين) وكأنه حدث مفاجئ مقطوع أو منفصل عن سياقه التاريخي، وأنه وقع فقط بفعل وجود عامل إقليمي (النفوذ الإيراني) وأنه يمثل نوعاً من اجتياح خارجي بأدوات محلية، قامت به جماعة من محافظة صعدة لفرض امر واقع جديد على محافظاتاليمن الأخرى، يتضمن كل ما يلزم من التشويه المتعمّد للحقائق. ما حدث ليس أمراً استثنائياً ولا مفاجئاً؛ بل هو تكرار لصراع قديم. كان اليمن التاريخي الممُزق، والباحث عن وحدته ودولته المركزية، يفتش باستمرار عن سبيل للخروج من دائرة قدره، واليمنيون يدركون أن بلدهم الذي لم يكن في أي يوم من التاريخ بلداً موحدّاً بالصورة التقليدية التي نعرفها، لا يزال يواصل حلمه بدولة واحدة. لقد كانت هناك أشكال متنوعة من الوحدة ضمنت وجود دولة قوية، ولكن الدولة ظلت أقل ( مركزية). ولو أننا ذهبنا إلى أبعد نقطة في التاريخ القديم وفتشنا عن لحظة مشابهة لما يجري اليوم، فسوف نكون أمام الحقائق التالية : في حدود 850 ق.م قامت قبائل من حضرموت بالاستيلاء على صعدة وكامل منطقة الجوفاليمنيوعمران ومأرب وصنعاء، وأسسّت أول دولة كبرى سوف تعرف باسم ( مملكة معين الجوف). فرض المعينّيون الذين يعودون بأصولهم إلى آخر الأسر الملوكية في حضرموت، سيطرتهم المطلقة على كامل أراضي الشمال، كما فرضوا على قبائل اليمن عبادة الإله المركزي ( ود). وهذا هو اسم الإله الوارد ذكره في القرآن ( آية : وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا- سورة نوح – الآية 23 ). ثم اتسعت سيطرتها حتى شملت سواحل حجة والحديدة. إن استيلاء جماعة أنصار الله -ما يسمى الحوثيون- على الجوف ثم وصولهم إلى حجة والحديدة بعد عمران وصنعاء، هو نوع من تكرار للصراع القديم نفسه. إنه حدث قديم يتكرر اليوم مرة اخرى وحسب . لقد قامت قبائل حضرموت من قبل بعمل شبيه. اندفعت من حضرموت فصعدة فالجوففعمران حتى الساحل. وبذلك اسستّ مملكتها ( المعينية). لقد مكنّها الاستيلاء على الساحل من قيادة تجارة العالم القديم مع بابل وأثينا لا عبر الطرق البرية، وإنما أيضاً عبر البحر، ولتصبح المملكة المعينية في غضون وقت قصير مملكة ثرية بفضل توسع تجارة البخور واللبان والأحجار الكريمة والعسل والزيوت والجلود. ومع ذلك، ظلت مناطق كثيرة في الشمال خارج سيطرة المعينيين، وكانت فعلياً تحت نفوذ خصومهم من القبائل السبأية. أما في الجنوب ( تعز وأبين وعدن) فقد كانت حمير تنتظر الفرصة التاريخية للعب دورها في الصراع. وفي حدود عام 650ق.م، أي بعد نحو قرنين فقط، تمكنت قبائل سبأ من انتزاع أراضيها في الشمال، حين بدأت مملكة معين الجوف تتداعى. وبذلك ظهرت في المسرح التاريخي دولة قوية جديدة هي دولة ( سبأ وريدان). في هذا الوقت كان الملك اليمني العظيم كرب إيل وتر بن ذمر علي، يوجه آخر الضربات لمملكة معين الجوف ( الحضرمية ) ويطرد رجالها من الساحل ، ثم يعلن تأسيس أول مملكة باسم ( مملكة سبأ وريدان) ويبادر إلى نسج أفضل العلاقات مع ملوك بابل ( والنقوش الآشورية- البابلية تذكر اسم كرب إيل- كربيلو هذا في اخبار موثقة عن ارساله الهدايا من الأحجار الكريمة والبخور).في هذا الوقت تخلت اليمن عن الإله ودّ إله المعينيين، واستبدلته بإله سبأ الجديد الإله ( المقه ). لقد آمن السبأيون الشماليون بالإله ( المقه ) وفرضوه إلهاً مركزياً، فآمنت به قبائل الجنوب دون مقاومة. لكن هذه المملكة السبأية- الشمالية العظيمة سرعان انهارت في النهاية تحت ضربات القبائل الحميرية في الجنوب، ولتنشأ دولة قوية جديدة باسم الدولة الحميرية نحو عام 120 م. إنه صراع قديم ومتكررّ في التاريخ. وفي كل مراحل هذا الصراع، لم يكن هناك أي موضوع دينيّ. لقد كان صراعاً حول الدولة لا حول الدين، أي أن التوتر التاريخي بين الشمال والجنوب،سبأ وحمير،لم يكن يتمركز في أيّ وقت داخل حيزّ الآلهة والمعتقدات. وبالرغم من التناقضات والتجاذبات بين القبائل، فقد كانت تتعبّد للآلهة نفسها، حتى وهي تتصارع حول الدولة المركزية. كان قدر اليمن أن دولته المركزية غالباً ما كانت تنهار، تجربة أثر أخرى تحت وقع ضربات القبائل المتخاصمة، فإذا ما قامت دولة مركزية في الشمال ثارت ضدها قبائل الجنوب، والعكس صحيح. نخلص من ذلك إلى تقرير الحقيقة التالية : إن المضمون الحقيقي للصراع الذي دار ذات يوم في التاريخ القديم، ويدور اليوم في المسرح الجغرافي نفسه، يكشف عن جوهر مايحدث. إنه صراع من أجل الدولة وحولها. إن أي محاولة لإضفاء طابع ديني- مذهبي على الصراع اليوم، هو من قبيل التلاعب بالحقائق. 2: العامل الإيراني في الصراع : فارس وروما أمّا الوجه الإشكالي في الصراع الدائر، فهو يكاد يتلخص في الفكرة الزائفة التالية التي يروّج لها كثرة من المحللين السطحيين والسياسيين الطائفيين: إن ما يجري هو نتيجة طبيعية للتدخل الإيراني؟ مشكلة هذه الفكرة أنها لا تقدم أي جواب صحيح عن السؤال المضاد التالي: وهل كان العامل الإيراني- الفارسي في تاريخ اليمن القديم سبباً في انهيار الدولة اليمنية القديمة؟ إن العامل الإيراني الراهن، ليس وليد حركة ( الحوثيين) ولا ناجماً عن ظهور حركة ( أنصار الله) ؟ إنه وليد المصالح الاستراتيجية القديمة والجديدة التي فرضتها الجغرافيا. ولأن العامل الإيراني عامل قديم قدم الصراع القبائلي نفسه ، فمن الإنصاف رؤية هذا الجانب من المسألة بتعقل وموضوعية دون انسياق وراء العواطف السياسية والولاءات المذهبية. إن التاريخ اليمني هو الذي يخبرنا بالحقائق التالية عن الدور الفارسي: كانت روما ( ثم بيزنطة) في صراعها مع فارس تدرك أن الحرب بين الطرفين، لن تتوقف حتى مع إبرام سلسلة من معاهدات الصلح ، وهي معاهدات ظلت مستمرة حتى العصر البيزنطي ، والسبب في مثل هذا الاعتقاد عند الرومان – آنذاك- أن الصدام بين الطرفين كان يتسع ليشمل بلاد الشام لا اليمن وحدها. كانت لروما مصالح كبرى في اليمن، ليس أقلها أن الاستيلاء على ثروتها من البخور ( وهو ما يضاهي ثروة النفط اليوم) سوف يوفر على خزينتها المنهكة الكثير من الأموال التي تصرف لشراء البخور للمعابد. وكان الاستيلاء على جبال الذهب والفضة في مدن اليمن، حلماً رومانياً لحل مشكلة خواء الخزينة ومواجهة أعباء الحروب التي كانت روما تخوضها في كل مكان. ولم يكن هناك – في العالم القديم- أي قوة كبرى يمكن لها ان تواجه طموحات روما في المنطقة سوى فارس. وهكذا، اتخذ الصراع داخل اليمن طابع صراع بين روما وفارس ثم بين بيزنطة وفارس، وكان آخر انزال بحري بيزنطي في سواحل عدن نحو العام 50 ق.م ، وكان إنزلاً فاشلاً، مكرّساً لتنظيم هجوم بحري كاسح ضد الفرس. لقد تواصل هذا الصراع حتى اتخذ في حدود العام 579 م طابع مواجهة واسعة بين فارس وبيزنطة انتهت باقتلاع النفوذ البيزنطي. كان الملك نوشروان في أواخر أيام حكمه، عندما طلب منه أحد ولاته في مملكة الحيرة بالعراق ( النعمان بن المنذر أبو قابوس) التدخل لنجدة أمير يمني صغير خلعته قبائل موالية لبيزنطة يدعى معد كرب. وهذا الأمير هو الذي سوف يُعرف في السير الشعبية باسم الملك سيف بن ذي يزن. وحسب رواية المؤرخ العربي المسعودي- وهي رواية دقيقة وموثقة نسبياً- فقد كان نوشروان يشعر بالحرج من الصدام مع البيزنطيين دون سبب حقيقي، يسمح له بالتخلي عن معاهدة الصلح. ولذا أمر بإطلاق سراح المجرمين في سجن خانقين ( العراق) وتحميلهم في اسطول بحري صغير مؤلف من ثماني سفن، قائلاً : إذا ما قتلوا فقد تخلصنا منهم. أما إذا انتصروا، فسوف يكون هذا نصراً مجانياً لفارس. في هذا الوقت، تم الاتفاق على تنسيق هجوم بري تقوده قبائل موالية لسيف بن ذي يزن. وحسب التاريخ الرسمي، فقد تلاقت الجماعتان : القادمة من سواحل عدن مع القبائل المندفعة من لحج. لكن الفرس، حتى وهم يحتفلون بتنصيب سيف بن يزن ملكاً من ملوك اليمن، لم يتركوا أي قوات عسكرية. لقد شجعوا الجماعات الموالية لهم على تولي إدارة المدن بشكل مباشر، كما شجعوا زواج الفرس بنساء يمنيات ( وهذا ما نجم عنه ظهور ما يعرف بظاهرة الأبناء وهم اليمنيون من آباء فرس وأمهات يمنيات). لقد ظلت فارس في الوجدان اليمني حاضرة لوقت طويل، كبلد جار هبّ لنصرتهم. ولذا تغنى الشعراء القدامى بما يعرف بذكرى التحرير الفارسي لليمن. قبل هذه الأحداث بنحو نصف قرن ( نحو 525 م) حين وقع الاحتلال الجبشي لليمن، وهو احتلال قامت به الحبشة نيابة عن البيزنطيين، ساعدت فارس اليمنيين بشكل مباشر على تنظيم حملة لطرد الأحباش وتحرير اليمن من قبضة بيزنطة. في هذا الوقت كانت فارس مجوسية وكانت اليمن يهودية ؟ نخلص من ذلك إلى تقرير الحقيقة التالية : ليس الدور الإيراني في اليمن وليد (حركة الحوثيين). أي ليس ناجماً عن طموح إيران ( فارس القديمة) لفرض مذهبها أو دينها. إنه وليد المصالح الاستراتيجية الكبرى والقديمة في باب المندب. وكما أن إيران قاومت اقتراب روما ثم بيزنطة من باب المندب، تقوم إيران اليوم بالدور نفسه سعياً وراء منع روما الجديدة، أو بيزنطة أخرى من الاقتراب. وبكل تأكيد لم يكن سيف بن يزن حوثياً، ولم يكن شيعياً، وفارس نفسها لم تكن إسلامية او شيعية؟ كما أن اليمنيين لم يكونوا مجوساً حين طلب سيف بن يزن مساعدة المجوسي نوشروان؟ هذا يعني ببساطة، أن العامل الديني لا أثر له في هذا الصراع .