عبد الباري عطوان الاستراتيجيّة الجديدة التي تتّبعها القيادتان السياسيّة والعسكريّة في دولة الاحتلال مُنذ سنوات، تتلخّص في التّركيز على سلاح الاغتيالات اعتمادًا على أجهزةٍ استخباريّةٍ ضاربة، ومُتقدّمة جدًّا، على الصّعيدين البشريّ والتقنيّ، بهدف كسب الحرب معنويًّا، وزعزعة ثقة العدوّ بنفسه. جاء اللّجوء إلى هذه الاستراتيجيّة بعد تجاوز لأحداث نظيرتها السّابقة، أي تحقيق انتصارات عسكريّة بغاراتٍ جويّة مُكثّفة، وبطائراتٍ مُتفوّقة، على غرار ما حدث في الحُروب العربيّة الإسرائيليّة الأخيرة، وخاصّة حربيّ حزيران (يونيو) عام 1967، وتشرين أوّل (أكتوبر) عام 1973، مُضاف إلى ذلك احتلال أذرع المُقاومة مكان الجُيوش التقليديّة العربيّة في المُواجهات، وتحقيق انتِصارات مثلما حدث في حرب تمّوز عام 2006، ولعلّ ما حدث لحزب الله في لبنان أخيرًا، والاغتيالات التي استهدفت الصّف القيادي الأوّل لقوّاته، أحد الأمثلة للتّطبيقات العمليّة الدمويّة لهذه الاستراتيجيّة. *** نسوق هذه المُقدّمة بمُناسبة الاغتِيالات التي نفّذتها أجهزة المُخابرات الإسرائيليّة في إيران قبل أربعة أيّام، واستهدفت رئيسيّ هيئة أركان الجيش الإيراني ورئيس جهاز استِخبارات الحرس الثوري ونائبه، وحواليّ ستّة من عُلماء الذرّة، وتصاعُد التّهديدات من قِبَل بنيامين نتنياهو، ووزير حربه يسرائيل كاتس باغتيال المُرشد الإيراني الأعلى السيّد علي خامنئي، وأفادت تسريبات نشرتها وكالة أنباء "رويترز" العالميّة تقول إنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أحبط خطّة إسرائيليّة للإقدام على هذه الجريمة خوفًا مِن أنْ تُؤدّي إلى تصعيد الحرب الحاليّة بين إيران ودولة الاحتلال واتّساع نِطاقها. نتنياهو، البهلوان السياسيّ، هرب من هزائمه في قطاع غزة وفشله في تحقيق أهدافه، إلى شن عُدوانه الحالي على إيران، ولتحويله أنظار العالم عن المجازر وحرب الإبادة التي ترتكبها قوّات جيشه في القطاع، وإفشال المُؤتمر الذي كان من المُفترض انعقاده بقيادة فرنسا والمملكة العربيّة السعوديّة في الأُمم المتحدة في نيويورك، للدّعوة إلى تطبيق حل الدّولتين كَحَدٍّ أدنى للقضيّة الفِلسطينيّة. السّيناريو نفسه قد يتكرّر الآن على شكلِ موجةِ اغتيالاتٍ جديدة يكون هدفها الأوّل السيّد خامنئي لرفع معنويّات الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة المُنهارة من جرّاء الرّد الإيرانيّ السّريع والمُفاجئ والمُؤثّر على العُدوان، وإطلاق مِئات الصّواريخ التي وصلت إلى العُمُق الإسرائيلي، ودمّرت جنوب تل أبيب ومُعظم حيفا، وأحرقت معهد حاييم وأيزمان التّكنولوجي الأكثر تقدّمًا في العالم، وإعلان الحرس الثوري الإيراني عن وصول صواريخه إلى مقر الموساد والمركز الاستخباري العسكري الإسرائيلي المعرف ب"أمان" وتدميرهما بالكامل، وهذا إنجازٌ استخباريٌّ عظيم. هذا التّدمير للمركزين أكثر أهميّة وإيلامًا في رأينا من اغتيال قائد عسكري إيراني هُنا أو آخَر هُناك، ففي ظِل الرّقابة العسكريّة الشّرسة، ومنع بث أو نشر صُور وأعداد القتلى والجرحى وحجم الخسائر الماديّة الإسرائيليّة، تغيب الحقائق ويسامر الخداع ولكن إلى حين، وسيهدأ الغُبار ويبان ما تحته. السيّد علي خامنئي الذي يَبلُغ من العُمر 86 عامًا، ونجا أكثر من مرّةٍ من مُحاولات اغتيال لا يهاب الموت ويتمنّى الشّهادة، كإنسانٍ مُسلم مُؤمن، وأحد أحفاد الرّسول وآل بيته، تمامًا مثله مِثل شقيقه وأقرب أصدقائه السيّد حسن نصر الله سيّد الشّهداء، ولا ننْس ذراعه الأيمن الشّهيد قاسم سليماني، وكُل الشّهداء الآخَرين من جُنوده ومُستشاريه. هذه الاغتيالات الاستعراضيّة لن تنجح في إخفاء حقائق الهزيمة التي أوقعتها صواريخ الجيش الإيراني المُتقدّمة جدًّا في العُمُق الإسرائيلي المُحتل، فهذه هي المرّة الأولى في تاريخ الصّراع العربي الإسرائيلي التي لا تصل فيها الصّواريخ المُتطوّرة، والدّقيقة، إلى قلبِ حيفا وتل أبيب وشمال الجليل، وبيسان ولسان إيلات البحري شمال البحر الأحمر فقط، وإنّما تُدمّر مدن وعشرات بل مِئات العمارات، وتقتل وتُصيب المِئات من الجُنود والمُستوطنين الإسرائيليين. *** إيران لا تنتظر مُفاجآت استخباريّة إسرائيليّة تجعل من جريمة "البيجرات" في لبنان مثلًا لا يُذكر مُقارنةً بما سيحدث في الأيّام القادمة حسب تصريحات يحيئيل لايتر سفير الاحتلال في واشنطن، بل بدأت الكفّة تميل لصالحها في جبَهات القتال، ولا نستبعد، بالنّظر إلى انتِصارها الاستخباريّ الكبير في الحُصول على آلاف الوثائق السِّريّة الإسرائيليّة النوويّة، إنها هي التي ستُفاجئ العدو باختِراقاتٍ لم يتصوّرها مُطلقًا، فإيران دولةٌ إقليميّةٌ عُظمى، ولا تُقارن بحزب الله، أو حماس وفي الحُروب تُستشهَد القيادات، ويأتي من هو أكثر شبابًا وقُدرة، ليحمل الرّاية، والتّاريخ الإسلامي مليءٌ بالأمثلة التي تُؤكّد هذه الحقيقة. المصدر: رأي اليوم