علي علي العيزري* في العصر الرقمي، أصبحت الترجمة السياسية أداة محورية في نقل الخطابات، وتشكيل الرأي العام، وبناء التصورات بين الشعوب. ومع ظهور الذكاء الاصطناعي وتطور أدوات الترجمة الآلية مثل Google Translate وDeepL وChatGPT وDeepsesk وGemini وغيرها، زاد الاعتماد على الآلة في الترجمة بشكل غير مسبوق. لكن يبقى السؤال: هل الآلة محايدة؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون منحازًا في ترجمة الخطاب السياسي؟ التحيز في الترجمة: هل هو وارد؟ يُفترض أن تكون الآلة موضوعية، لكنها في الواقع تتعلم من البيانات التي تزود بها، وهذه البيانات تأتي من البشر، الذين يحملون آراءهم وسياقاتهم الأيديولوجية. على سبيل المثال، عند ترجمة عبارة مثل: "المقاومة الفلسطينية" إلى الإنجليزية، قد تُترجم في بعض أدوات الذكاء الإصطناعي إلى "Palestinian Resistance"، بينما في أخرى تتحول إلى "Palestinian Terrorism"، وهو تحوّل لغوي كبير ومحمّل بدلالات سياسية خطيرة وأيضا ترجمة كلمة "شهيد" والتي تترجم إلى "قتيل". واليكم أمثلة واقعية على التحيز في الترجمة من قبل المترجمين البشر والتي أصبحت الآن منتشرة حتى عند استخدام الآلة في الترجمة: الترجمة الإخبارية للخطابات الرسمية ففي عام 2021، عند ترجمة خطاب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن القضية الفلسطينية، تم تحريف ترجمة العبارة التي قال فيها: "القدس خط أحمر بالنسبة لنا" إلى "Jerusalem is important to us" بدلاً من الترجمة الدقيقة: "Jerusalem is a red line for us" هذا التحوير قلل من حدة الموقف التركي. ومن أبرز الأمثلة على هذا التحيز اللغوي ما يُعرف "بالعمليات الاستشهادية"، وهي مفهوم يختلف جذريًا في تفسيره من طرف إلى آخر. فبينما يستخدم مصطلح "martyrdom operations" للتأكيد على البعد الوطني أو الديني لهذه العمليات، يتم ترجمة نفس المصطلح إلى "suicide bombings" "تفجيرات إنتحارية" في سياقات أخرى، مما يجرّده من أي طابع أيديولوجي ويضعه ضمن خطاب يعكس إرهابًا وعنفًا غير مبرر. هنا تصبح الترجمة أداة قوية للتأثير على الرأي العام، حيث يؤدي استخدام أحد المصطلحين إلى تأطير العملية في سياق المقاومة، بينما يضعها الآخر في إطار العنف والتطرف. المصطلحات المتعلقة بالصراعات الدولية تبرز أيضًا في كيفية ترجمتها، كما هو الحال مع "جدار الفصل العنصري"، "Apartheid Wall" الذي يطلقه الفلسطينيون على الجدار الذي بنته إسرائيل. في مقابل ذلك، نجد مصادر إسرائيلية تسميه Security Barrier""، أي الحاجز الأمني، مما يغيّر دلالاته بشكل كبير. فبينما يشير المصطلح الفلسطيني إلى مفهوم الفصل العرقي ويتضمن إدانة أخلاقية، يقدّم المصطلح الإسرائيلي الجدار كإجراء أمني لحماية السكان، مما يجعل الترجمة هنا أداة لإعادة تشكيل الواقع بما يخدم رؤية سياسية معينة. أما مصطلح "انتفاضة" "Intifada"، فهو مثال آخر على التفسيرات المتباينة في الترجمة السياسية. في الأدبيات الغربية، يُترجم هذا المصطلح بطرق متنوعة مثل "uprising"، التي تشير إلى ثورة شعبية، أو "revolt"، التي تحمل دلالة العصيان، أو حتى "violent riots"، والتي تصب في إطار تصور الانتفاضة كحركة فوضوية عنيفة. هذه الفروقات اللغوية تُسهم بشكل مباشر في تشكيل صورة معينة عن الشعب المنتفض، إما كشعب يناضل من أجل حقوقه أو كمجموعة تقوم بأعمال شغب، وفقًا للسياق الذي يتم فيه استخدام هذه المصطلحات. التأثير السياسي للترجمة يظهر أيضًا في كيفية التعامل مع المصطلحات التاريخية مثل "النكبة"، "Nakba" وهو المصطلح المستخدم لوصف التهجير القسري للفلسطينيين عام 1948. في بعض الترجمات، يتم تقديم هذا المصطلح على أنه "the 1948 Palestinian Exodus"، مما يقلل من طابعه المأساوي والتاريخي. بدلاً من الإشارة إلى وقوع كارثة إنسانية، كما يتم تصويره كحركة نزوح طبيعية، وهو أمر يؤثر بشكل كبير على كيفية إدراك الجمهور الدولي لهذه الفترة التاريخية. كذلك، مصطلح "حق العودة" "Right of Ruturn" يُعد من المحاور المهمة في الخطاب السياسي الفلسطيني، حيث يُترجم أحيانًا بطرق تجعل منه مطلبًا سياسيًا وليس حقًا شرعيًا، مما يقلل من قوته القانونية. فهذه الترجمة تؤثر في كيفية تعامل المجتمع الدولي مع القضية، حيث تتحول من حق أساسي إلى مجرد طلب يمكن التفاوض حوله. التحيز اللغوي يظهر أيضًا عند التعامل مع مصطلح "المستوطنات"، "Settlements" يُترجم أحيانًا إلى "Neighborhood" في بعض المصادر، مما يضفي طابعًا مدنيًا على هذه المناطق ويخفي واقعها السياسي القائم على الاحتلال والتوسع الاستيطاني. هذه الترجمة تجميلية بطبيعتها وتؤدي إلى تقليل حساسية القضية، حيث يراها الجمهور العالمي كأحياء سكنية بدلاً من مناطق تشكل جزءًا من النزاع الجيوسياسي. من أكثر المصطلحات التي يمكن أن تتعرض للتحييد اللغوي هو "التطهير العرقي"، "Ethnic Cleansing" يُستبدل أحيانًا بمصطلح "displacement"، أي التهجير، مما يزيل الدلالة القانونية والإنسانية للجريمة. فالتطهير العرقي يشير إلى عملية منظمة تهدف إلى إزالة مجموعة عرقية بالكامل، بينما يشير التهجير إلى مجرد انتقال السكان من مكان إلى آخر دون تحميل أي جهة مسؤولية واضحة عن الفعل. ومما ذكر آعلاه يمكن القول أن الآلة هي مرآة للعقل البشري فالذكاء الاصطناعي لا يخلق المعاني من فراغ، بل يعكس ما تعلمه. إن كان مدخل البيانات منحازًا، فالنتائج ستكون كذلك. وبما أن السياسة مشبعة بالجدل والتفسير، تصبح الترجمة أكثر حساسية، ويصعب الاعتماد على أدوات لا تفهم السياق التاريخي والثقافي والحل هو التوازن بين الإنسان والآلة فلا يمكن إلغاء دور الترجمة الآلية، لكنها بحاجة إلى رقابة بشرية واعية، خاصة في القضايا السياسية. المترجم السياسي البشري يستطيع أن يقرأ بين السطور، ويدرك الإيحاءات والسياقات، بعكس الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على النصوص الظاهرة فقط. وفي الختام يمكن القول أن في عصر الذكاء الاصطناعي، لا تزال الترجمة السياسية بحاجة إلى وعي أخلاقي وإنساني. فالآلة ليست بمنأى عن التحيز، خاصة عندما تُستخدم في ترجمة قضايا معقدة ومتداخلة مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو الحرب الروسية الأوكرانية. لذلك، فإن الدمج بين دقة الآلة وبصيرة الإنسان هو السبيل لضمان ترجمة عادلة وغير منحازة. *مدرس مساعد بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة صنعاء، وطالب دكتوراه في الترجمة والذكاء الاصطناعي