شوقي نعمان وأنا طفل، كنت بريئًا، بريئًا جدًا، لدرجة أن أقصى طموحي في الحياة كان: سروال داخلي طويل أبيض يلبس تحت الثوب. نعم، مجرد سروال! لا دولة مدنية، لا دستور، لا انتخابات مبكرة ولا متأخرة... فقط سروال يا ناس… وقفنا ذات يوم في "باب موسى" بتعز، وسط الزحمة وروائح البهارات والقات والغربة، وأنا عمري عشر سنوات تقريبا وإذا بعيني تلتصق على ذاك السروال الأبيض الطويل المعلق كأنما يناديني: "اشترني.. اشترني يا فتى النقاء والتقشف!" استجمعتُ طفولتي، وسألت أبي: أبي… اشتري لي هذا السروال" فرد بكل وطنية حزبية: "يا بُني، هذا حق المطاوعة، وإحنا مش مطاوعة!" أُصبت بالخذلان العقائدي، هل يمكن للسروال أن يكون مذهبًا؟ هل أصبح اللباس الآن بيعة وولاء ومرجعية شرعية؟ وهل هذا السروال من إنتاج جماعة الإخوا.ن المسلمين أم حزب الإصلاح أم الحو.ثيين؟ أم مجرد سروال أبيض نظيف...؟! كنت أظن أن "المطوع" هو شخص ذو لحية، لكن الآن اكتشفت أنه من يتحكم بالسراويل في البلاد. حاولت أن أكون مطوعًا يومها بسذاجتي: أبيه، خلاص... أنا مطوع! اشتري لي السروال." رد: ما معك ثوب، والسروال يلبس تحت الثوب. وبعدين حتى لو معك، إحنا مش من حزبهم!" يا جماعة... في أي دولة "محترمة" يتم تصنيف السروال حسب الانتماء السياسي؟ أنا طفل لم يعرف السياسية ولا الحزبية كل ما أعرفة بأن جيفارا نبي وجارالله عمر ملاك نزل من السماء هذا حسب تلقين شقيقي جيفارا مرت السنوات، كبرت، لم أحصل على السروال. كبرت وأنا أحمل خيبة سروال طويل وأدركت متأخرًا أن ما منعتُ منه كان أول درس حزبي في حياتي. اليوم صار عمري 27 قصيدة،و 14 خيبة، 3 حبيبات، وخزانة بلا سروال طويل. اكتشفت لاحقًا أن صورة الحصان في غرفة أبي ليست صورة حصان... بل شعار لحزب المؤتمر وأن عبد الفتاح إسماعيل لم يكن مغني راب، وأن جيفارا ليس لاعب كورة، بل شعار أخي الاشتراكي وصورة جار الله صورة هي الحق والحقيقة التي تؤمن بها أمي. وأن كل من يرتدي سروالًا طويلًا يُحسب على جماعة ما، بينما من لا يملك سروالًا أصلً يُحسب على الوطن! أقسمت أنني إن أنجبت ولدًا، وطلب مني سروالًا طويلًا... سأشتري له طقمًا كاملًا، وسأقول له: "البس يا بني... فالحب لا يعرف أيديولوجيا. والسروال ليس عقيدة." وأقسمت أنني سأتصالح مع أمي التي تحب يسوع وعيسى ومحمد في آن واحد، وسأعقد مصالحة تاريخية مع الشيطان نفسه، إن قرر أن يعتذر ويعتنق الديمقراطية! فنحن جيل لم نطلب ثورة... طلبنا سروالًا فقط. فأعطونا حزبًا ومجزرةً وعقيدةً سياسية طويلة... أطول حتى من السروال ذاته.