في خطابه الأخير، رسم قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي ملامح قراءة استراتيجية تعيد تثبيت معادلة الإسناد اليمني للشعب الفلسطيني في أبعادها العسكرية والبحرية والسياسية كخيار متجذر في وعي الموقف، واضعاً العدوان على غزة ضمن مشروع شامل يستهدف هوية الأمة وقرارها وسيادتها، ومؤطراً صمود الفلسطينيين كميزان حيّ يقاس به حضور القيم وصلابة الإرادة في جسد الأمة من المحيط إلى الخليج. وانطلاقاً من هذا التصور، قدم القائد جريمة التجويع كأخطر صور الإبادة الجماعية، موضحاً أنها سياسة ممنهجة تُدار بآليات دقيقة وأرقام مدروسة تهدف إلى حرمان المدنيين من مقومات الحياة، لتتحول لقمة الخبز وجرعة الماء والدواء إلى أوراق ابتزاز وضغط أشد فتكاً من نيران الحرب المباشرة. وفي هذا الإطار، فند مزاعم الاحتلال عن تسهيل إدخال المساعدات، مبيّناً أن ما يسمح به لا يتعدى كميات هزيلة ومنتقاة، غالباً منتهية الصلاحية، تُوظف لتلميع صورة زائفة عن "إنسانية" غائبة، بينما الواقع الفعلي تحكمه معادلة الإغلاق والخنق الاقتصادي المشهود تحت أنظار العالم. كما كشف أن الاحتلال لم يقتصر على التحكم في حجم المساعدات ونوعيتها، بل حوّلها إلى أدوات قتل ممنهجة، عبر إسقاطها جواً بطريقة عشوائية تفتك بالمدنيين، أو باستهداف نقاط توزيعها بالرصاص الحي، في مشهد تتحول فيه الإغاثة إلى فخ دموي يفاقم معاناة المحاصرين، ويضيف فصلاً جديداً إلى سجل الجرائم التي طالت كل شبر من القطاع بفعل آلة الإبادة الصهيونية. ويرتبط ذلك، كما أوضح القائد، باعترافات دولية وأمريكية وصفت ما يجري في غزة بالإبادة الجماعية، وهي اعترافات تحمل دلالة سياسية وقانونية مضاعفة لكونها صادرة عن دوائر طالما وفرت الغطاء للعدو، الأمر الذي يعري بالكامل روايته الزائفة عن "الدفاع عن النفس"، ويمنح حركات المقاطعة والملاحقة القضائية رصيداً إضافياً يعزز من قدرتها على الضغط والمساءلة. ومن زاوية البعد الإنساني، وصف الخطاب استهداف الأطفال بأنه جريمة القرن، حيث تتقاطع الحسابات السياسية الباردة مع قسوة التجريد من الفطرة الإنسانية، لتسقط أمامها جميع الشعارات الدولية المعلنة لحماية الطفولة، ويتحول قتل الصغار إلى دليل قاطع على الانهيار الأخلاقي الكامل لمنظومة القيم العالمية. وفي السياق ذاته، وضع القائد استهداف الإعلاميين في إطاره الحقيقي باعتباره جزءا من حرب الاحتلال على الحقيقة، موضحا أن قتل الصحفيين والمصورين ليس حادثا عرضيا، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى إسكات الشهود وتجفيف منابع الأدلة الحية على الجرائم، بما يضمن بقاء رواية العدو وحدها في المشهد الدولي. ويتصل بذلك توسيع الخطاب لتوصيف الجريمة من كونها أحداثا متفرقة إلى كونها منظومة متكاملة، تتداخل فيها أدوات القتل المباشر مع الحصار الصحي وتدمير البنية التحتية والتهجير القسري، في إطار هندسة سياسية ممنهجة تستهدف إعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني على أسس الإذلال والإخضاع طويل المدى. وبالانتقال إلى العمق الثقافي، أوضح قائد الثورة أن هذه الجرائم لا تمثل انحرافات فردية معزولة، بل هي نتاج بنية فكرية وعقائدية راسخة في المجتمع الصهيوني، حيث يُنشَّأ الجيل على الكراهية ويُقدَّم القتل كمنجز شخصي يبعث على الفخر، الأمر الذي يحوّل التوحش إلى ثقافة جمعية متجذرة في الوعي والسلوك. ومن هذا المنطلق، ربط خطاب القائد بين الجريمة اليومية في غزة ومعركة الوعي المرتبطة بقدسية المسجد الأقصى، مؤكداً أن الاقتحامات ومشاريع التهويد لا تمثل مجرد استعراضات قوة، بل هي خطوات مدروسة تستهدف قطع الصلة الروحية والتاريخية بين الأمة ومقدساتها، بما يمهّد الأرضية للتفريط بها على المدى البعيد. وفي ذروة التحذير القيمي، شبه الخضوع الكامل للاحتلال بعبودية أشد سوءاً من عبادة الأصنام، مبيناً أن هذه العبودية تحطم جوهر الإنسان وتقتلع كرامته من جذورها، وتحوّله إلى أداة طيعة في يد المعتدي لتنفيذ إرادته وخدمة مشاريعه، وأكد أن الحرية تمثل شرطاً أصيلاً للإيمان، وركيزة متينة لبناء الهوية الحضارية للأمة وصيانة كرامتها جيلاً بعد جيل. ويمتد التحليل إلى إعلان الاحتلال عزمه السيطرة على مدينة غزة، موضحاً أن هذه الخطوة تمثل تصعيداً خطيراً يتجاوز البعد العسكري المباشر إلى عملية تهجير منظمة لمليوني إنسان، مقرونة بتدمير ممنهج لما تبقى من البنية العمرانية والخدمات الأساسية، بما يحول المدينة إلى فراغ سكاني ومسرح أطلال، الأمر الذي يفرض تحركاً عملياً عاجلاً على المستويات السياسية والقانونية والميدانية لوقف الجريمة ومنع استكمال فصولها. وفي المقابل، عرض القائد أثر الفعل المقاوم وتعاون الفصائل الفلسطينية في تثبيت كلفة الاحتلال وإرباك مساراته، موضحاً أن مستوى التنسيق الميداني بين هذه الفصائل يعيد صياغة ميزان الوقت ليكون في صالح الصامدين، ويحول عامل الزمن إلى أداة استنزاف لإمكانات العدو، الأمر الذي يقيّد قدرته على المناورة العسكرية والسياسية، ويضاعف من الضغوط التي تواجهه في ميادين القتال وفي ساحات القرار على حد سواء. كما وسع قائد الثورة المشهد إلى الساحة الإقليمية، كاشفاً استمرار الاعتداءات الإسرائيلية في سوريا رغم ترتيبات "خفض التصعيد"، ومبيناً أن هذه الخروقات تمثل دليلاً واضحاً على أن هدف الاحتلال يتمحور حول فرض الاستسلام بدلاً من تحقيق السلام، وأنه ينظر إلى الجنوب السوري بوصفه منطقة نفوذ مفتوحة يتحرك فيها عسكرياً وأمنياً وفق أجندته التوسعية، في تجاوز صريح لكل الاتفاقيات والالتزامات الدولية. وعند التوقف أمام الملف اللبناني، قدم القائد قراءة نقدية لموقف الحكومة إزاء الورقة الأمريكية المحملة بالإملاءات الإسرائيلية، موضحاً أن مسار العقود الماضية أثبت بالوقائع أن معادلة الردع تبلورت بفعل المقاومة وصمودها، بينما ظل الجيش الرسمي، المقيد بالقرار السياسي، بعيداً عن خوض المواجهة مع الاحتلال، الأمر الذي يجعل الاحتفاظ بسلاح المقاومة واستمرارية دعمه خياراً استراتيجياً لحماية لبنان وصون سيادته. ويتقاطع ذلك مع تحذير القائد من مشروع أشمل يهدف إلى تجريد شعوب المنطقة من عناصر قوتها، عبر حصر السلاح في أيدي الأنظمة الموالية وتوظيفه في إذكاء الفتن والصراعات الداخلية، بما يحول منظومة الأمن من أداة لحماية الأوطان وصون السيادة إلى وسيلة للقمع وتصفية الحسابات، ويُبقي المجال مفتوحاً أمام العدو للتوسع وفرض أجنداته دون مقاومة حقيقية. وعلى صعيد السلطة الفلسطينية، أوضح القائد أن التنسيق الأمني مع الاحتلال يمثل امتداداً مباشراً لوظائف الاستعمار بالوكالة، حيث يتحول الجهاز المفترض لحماية الشعب إلى أداة تخدم أجندة المحتل، الأمر الذي يقوّض الشرعية الوطنية من أساسها، ويبرز الفارق الجوهري بين من يحمي شعبه ويدافع عن حقوقه، وبين من يكتفي بإدارة ملفه تحت سلطة العدو وأوامره. كما لفت قائد الثورة إلى مفارقات المشهد الدولي، حيث تتبنى بعض الدول الغربية إجراءات لمقاطعة الاحتلال، في الوقت الذي تنخرط فيه أنظمة عربية في دعمه عبر الصفقات والتعاون العسكري، في تناقض صارخ يفضح طبيعة السياسات الرسمية ويكشف عمق أزمتها الأخلاقية، ويؤكد أن معايير المواقف لم تعد تُقاس بالشعارات المعلنة بل بالممارسات الفعلية على الأرض. وخلص خطاب قائد الثورة، إلى ربط الإسناد اليمني العملي بنتائجه الملموسة، بدءاً من تعطيل خطوط الإمداد وإرباك الحركة اللوجستية للعدو، وصولاً إلى انعكاسات اقتصادية وأمنية واضحة مثل تأجيل رحلات شركات الطيران إلى مطار اللد، مؤكداً أن هذا الضغط يتعاضد مع الزخم الشعبي المليوني والحراك الجامعي والطلابي، ليمنح الموقف الرسمي عمقه الأخلاقي ورصيده الرمزي، ويثبت نصرة فلسطين كجوهر في هوية اليمن وخياره الاستراتيجي، حتى اكتمال النصر وتحرير الأرض والمقدسات.