نايف المشرع من طبيعتي أن أتجنب الكتابة خارج المألوف. أن أقاوم أن يجرّني قلمي إلى مناطق الصدام. ليس هذا ضعفًا، بل احترامًا غريبًا لأولئك الذين، رغم كل شيء، ظللت أكن لهم بعض التقدير. كنت أختار الصمت. أحتفظ بما يمور في داخلي بيني وبين ذاتي. ترفعًا عن أن أجرحهم أو أكشف هشاشتهم. واليوم أكتب. ليس رغبة في المواجهة. بل ضرورة. لأرى الحقيقة عارية. بلا أقنعة، بلا رتوش، بلا مساحيق أخلاقية. أكتب صراحة للإنسان الحر. نشأت في مجتمع بليد. يعبد أوهام الخوف وأساطيره كما لو كانت حقائق أبدية. وفي أسرة انخدعت بخرافة "النسل الطاهر". فاتخذتها سوطًا ليجلد كل مختلف عن قطيعها. أسرة خلعت ثوبها الأبيض واستبدلته بالأخضر. لم تُحسن سوى تحطيم الخارجين عن قطيعها. ومجتمع تأثر بها وأصبح يرى صوت العقل تهديدًا، ويرى الحرية جريمة. ومع ذلك، ظل في داخلي احترام لأولئك الذين اكتفوا بالصمت. استثناء صغير في مجتمع وأسرة مظلمة. حين اخترت هذا الطريق، لم أبحث عن من يشاركونني المصالح. بحثت عن وجوه تشبهني دمًا أو روحًا. كمن يتشبث بخيط قرابة واهن يظن أنه سند. اليوم، أفقد الأمل في الجميع. أحذف وأبتعد عن من خانوا الطريق أو حاولوا تشويه صورتي. بلا ندم. كأنني أحرر روحي من قيود وهمية، وغبار الخوف الذي يخنق الهواء.
مع الوقت، تكشفت الحقيقة: عقولهم لم تعرف كتابًا. قلوبهم تحكمها الحسد والريبة. يتوجسون من كل من يسلك طريقًا مخالفًا لطريقهم، الملغم بالمجاملات، بالمحاباة، بالركوع أمام المال والسلطة، وبالتقلب حسب المصالح. ورغم ذلك، ما زالوا يتوهمون أن من لا يسلك طريقهم سيصبح سيدًا عليهم. لم يفهموا أن المعارضة في اليمن ليست طريقًا للسلطة. إلا من منحه القدر معجزة. دون معجزة، هي طريق نحو السجون والمنافي. من يختارها لا يعود قائدًا، بل ضحية مثخنة بالجراح. أنا أعرف ذلك يقينًا، وهم كذلك. دفعت ثمن هذا الطريق سنوات من حياتي. حروق في جسدي وروحي وصورتي في أقبية التعذيب وحظيرتهم. في آخر اعتقال لي، لم يكتفوا بالصمت. شاركوا الجلاد في إلصاق التهم. تحوّلوا إلى أبواق تشويه. حاولوا تذييل تواقيع البسطاء، وفشلوا. نسجوا الأكاذيب الرخيصة: قالوا إنني أشرب النبيذ واشتم السماء مع رفاقي المتهمين بالشراب بجوار المعبد. قالوا إنني أحتفظ بالممنوعات. دفعوا سجاني لاجباري على ترديد الأذان لإثبات إسلامي، غافلين أن هذه الأقاويل والافعال لم تكسرني، رغم أنها منحت الجلاد رخصة للتنكيل بي. ردّدوها بفرح. كأنهم وجدوا فيها غطاءً لمواقفهم المتقلبة، لخوفهم وخيانتهم لأنفسهم. يعرفون استحالة تغيير موقف كل حر. لا يبحث عن مصالح شخصية. يقف حيث خافوا أن يقفوا. يصرخ حيث صمتوا. يحمل ما تخلّوا عنه. هم في حضرة كهنة المعبد. يرتدون أقنعة الطاعة. ويوشون حتى اللحظة بمن لا يطيع كأنهم يؤدون طقسًا مقدسًا في محراب زائف. وما أشد الخناجر التي غُرست في الظهر. حين أتت من أولئك الذين كان يُفترض أن يكونوا سندًا. ومع ذلك، لم أختر هذا الطريق متكئًا عليهم أو على أحد. اخترته مسنودًا بمبادئي وحدها. بإيماني بالإنسان الحر. ما أكتبه ليس نرجسية. بل صراحة ضرورية. لكي يفهموا لماذا حررت نفسي من القيود. ولماذا نزعت غبار الذل عن روحي كما يُنزع الوحل عن ثوب نظيف. أقولها بسخرية مُرّة: ربما أحسد أولئك الذين يسندهم حزب، قبيلة، أو جماعة. أو من أحرق المعبد وخرج من عالم الروحانيات بجرأة مطلقة. أما أنا، فأقف عاري الظهر. لا درع لي سوى صوتي وقلمي. ومع ذلك، أؤمن: كل أسرة عمياء. كل مجتمع بليد. كل معبد زائف... مصيره الزوال. كما كشفت زوال أوهام "الحزب" في رواية أورويل. حين اكتشف الإنسان أن الحرية هي أن تقول: "لا". ولو كنت وحيدًا في وجه القطيع.