محمد علي اللوزي كانت بريطانيا في القرنين 18/19 هي الدولة العظمى، وهي التي رأت في الإسلام منعة وقوة تعيقها من بسط نفوذها. كما كانت ترى في المذاهب الإسلامية التي تعمل العقل وتفتح باب الاجتهاد وتغلب المعقول على المنقول وفق مرجعيات إسلامية، كانت ترى هذا خطراً ماحقاً يثنيها عن بسط نفوذها، ويشعل حركات مقاومة ضد الاستعمار البريطاني، لذلك عملت جاهدة على زرع المخابرات البريطانية في أوساط المسلمين لخلخلة نسيجهم الاجتماعي وزرع التفرقة بينهم عبر الخصومات المذهبية، وإيجاد القوى المتطرفة بما ينجم عنها من قوى إرهابية تغلق باب الاجتهاد، وتطمس الهوية الإسلامية كحضارة، بما فيها الآثار الإسلامية وقبور الصحابة ومنازلهم والمواقع التي جرت فيها الأحداث التاريخية، ولعل بريطانيا قد وجدت في (محمد عبد الوهاب) ضالتها التي تنشدها، فقد رأت فيه الحماس والعناد والتصلب في الرأي والتشدد، فوجدت في الدعوة الوهابية التي تحالفت بقوة مع آل سعود فرصة لتفتيت وحدة المسلمين. هنا نشير إلى أن بعض المؤرخين أكدوا وجود مراسلات بين محمد بن عبد الوهاب وآل سعود مع البريطانيين لاحقاً. يقول مستر (همفر): إنه بعد أن عاد من العراق التقى شاباً اسمه (محمد عبد الوهاب)، حاد الطبع كثير النقد لعلماء زمانه، فوجد فيه مبتغاه وشجعه على فكرة الإصلاح الديني والغلو، وعلى مواجهة خصومه ووعده بالدعم، كما جاء في مذكرات همفر. ولقد اعتمدت خطة همفر على التالي: إذكاء الصراع والنزاعات بين السنة والشيعة خلق الفتن على مسائل هامشية مثل زيارة القبور والتوسل بالصالحين التشدد على بعض المسائل الفقهية وجعل الإسلام يتمحور في الخلافات الفقهية وبالذات الجوانب الشكلية بعيداً عن مضمون العبادات غلق باب الاجتهاد بحجة البدع وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار تقديس ولي الأمر واعتبار الخروج عنه كفر وزندقة وضلالة لا بعدها ضلالة بهدف إيجاد أنظمة دكتاتورية متسلطة وقامعة إضعاف العلماء المجتهدين وإيجاد علماء يواجهونهم بالخصومة والتشدد والغلو وضمن هذا السياق فإن بريطانيا قد لعبت دوراً محورياً مهماً في إضعاف المسلمين وشل قدراتهم على الإبداع، ووجدت في الوهابية التي تضافرت مع آل سعود ما يشكل دولة موالية لبريطانيا بنزوعها الاستعماري، ولتكن ذراعها في الشرق الأوسط لتحقيق أهدافها، متخذة من الوهابية عصاً تتوكأ عليها وتمدها بفتاوى ومرويات تعزز السلطة السياسية لآل سعود، تحت إشراف بريطانيا التي عملت على تقديم النصح والتوجيه للسلطتين السياسية والدينية، وتعزيز نفوذهما بالمال الذي كان الوسيلة الأهم في نشر التطرف والإرهاب، وصبغ الدين بفتاوى تستلب العقل وتجعل النقل هو المرجعية الأولى والأخيرة في شؤون الحياة. لعلنا لا ننسى أنه في القرن ال19 عقدت بريطانيا عدة اتفاقيات مع زعماء الخليج لضمان السيطرة على السواحل والملاحة (مثل معاهدات 1820، 1835، 1853). عام 1915 وقعت بريطانيا مع عبد العزيز آل سعود "معاهدة دارين" التي جعلت نجد محمية بريطانية عملياً، مقابل اعتراف لندن بسلطته ودعمه بالمال والسلاح. لعل بريطانيا ضمن هذا المنحى قد استطاعت أن تعزز من نفوذ السلطة السياسية لآل سعود، الذين كانوا أكثر وفاءً لها في إعاقة المشروع التقدمي التحرري، وهنا نفهم كيف استطاعت السعودية أن تتآمر على الأنظمة الجمهورية وتسهم في عرقلة التوجهات المدنية، والعمل الديمقراطي الذي حاصرته الوهابية في نطاق نصوص دينية ومرويات كاذبة، ولكنها فاعلة ومؤثرة، الأمر الذي أدى إلى إسقاط أنظمة تحررية، في المقابل تعزز نفوذ الأنظمة الملكية بسلطتها المطلقة التي جعلت من الدين سوطاً لجلد القوى الناهضة أو التي كانت تتلمس النهوض ولديها تطلعاتها في تحرير فلسطين كل فلسطين. نذكر هنا دعم السعودية للإخوان المسلمين في مواجهة الناصرية مثلاً. ما يجري اليوم بعد أحداث طوفان الأقصى أن الأنظمة الجمهورية ترهلت وانطوت تحت العباءة والدشداشة الخليجية، ولم تعد هذه الأنظمة تحرك ساكناً باتجاه القضية الفلسطينية، فيما الأنظمة الملكية بعد أن شوهت الدين عبر الوهابية، نراها وقد انتقلت إلى النقيض من التشدد، انفتاح مخزٍ ومخجل لا يراعي قيماً ولا أعرافاً ولا يخضع لمبادئ الدين الإسلامي، هذا الانفلات المخطط له، كان له الأثر الكبير في الانتقال من الصمت عن القضية الفلسطينية، إلى التآمر عليها بوضوح شديد بعد خلع الدين جلبابه وتحوله إلى مؤازر لأنظمة التطبيع، وإلى النيل من المقاومة واعتبارها على ضلال وخارجة عن إجماع الأمة، والإجماع هنا هو ما تريده وتشتغل عليه السعودية. لقد هيمن البترودولار على القرار القومي، وتمكن من النيل من القوى التحررية بدعم ومساندة وتخطيط بريطانيا مع حليفها الأبرز السعودية بمراجعها الدينية، لنجد اليوم قضية فلسطين مقصية لا وجود لها، إلا لدى اليمن المقاوم المساند والداعم للحق الفلسطيني. في كل الأحوال ثمة غليان جماهيري عربي ومقاومة تدرك أبعاد المخطط الاستعماري وتشتغل بوعي وإيمان عميق نصرة للأقصى وإسناداً للمقاومة في غزة، وبين الأمرين ثمة قوى قابلة لأن تكون ثورة في وجه طغاة الأمة من دول البترودولار، ولعل القادم يكشف خبايا المؤامرات، ويمنح المقاومة شرف الانتصار التاريخي على من ارتهنوا للأجنبي البريطاني واشتغلوا على تدمير المشروع النهضوي التحرري زمناً ليس بالقصير، وهم اليوم في مواجهة مع الشعوب ومع الحق ومع الإيمان ومع المقاومة.