محمد المخلافي بعد إكمال المرحلة الثانوية، استُدعينا لأداء خدمة الدفاع الوطني الإلزامية عام 1998. كان الحماس يملأ قلوبنا، أنا وزملائي، فتوجهنا مباشرةً إلى مكتب التجنيد في مدينة تعز، حيث سُجِّلت أسماؤنا في كشوف الملتحقين، وبدأت ملامح الجدية تظهر على وجوه الجميع. وبعد انتهاء إجراءات التسجيل، حُدِّد موعد التوجه إلى معسكر الاستقبال في الحوبان، شرق مدينة تعز، لتبدأ بذلك أولى خطواتنا في تجربة الحياة الجديدة التي كانت بانتظارنا. كنا تسعة شبّان تتراوح أعمارنا بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، من قرى متجاورة يجمعنا سوق الحُصين. هناك، وسط حركة الناس وضجيج الباعة، كنا نجلس نحلم ونتخيل شكل الحياة في المعسكر: كيف سيكون التدريب؟ وكيف سنبدو بالزيّ العسكري؟ كنا نسأل كل من سبقنا إلى خدمة الدفاع الوطني، نصغي إلى حكاياتهم بشغف، نحاول أن نرسم في أذهاننا صورةً لما ينتظرنا. الطريق الى المعسكر بعد نحو أسبوعين، غادرنا القرية. ما زلت أتذكر لحظة الوداع جيدًا، حين وقفت عند أسفل الطريق المؤدي إلى قريتنا ألوّح بيدي نحو جدّاتي وإخوتي. كانوا يقفون أمام بيتنا، يلوّحون لي وقلوبهم تلهج بالدعاء. ركبنا السيارة متجهين نحو تعز، ووصلنا قرابة الثامنة والنصف صباحًا. عند بوابة معسكر الاستقبال في الحوبان، فوجئنا بحشود كبيرة من الطلاب القادمين من مختلف مناطق المحافظة. بين الزحام، كان بعض الطلاب يتمازحون ويضحكون، وفي لحظة غير متوقعة، انحرف أحد الشبان إلى وسط الطريق، ولم تمضِ ثوانٍ حتى جاءت سيارة مسرعة وصدمته، فارتفع جسده في الهواء قبل أن يهوي أرضًا مضرجًا بالدم. هرع البعض لإسعافه، بينما خيّم الصمت والذهول علينا جميعًا. كان المشهد صادمًا ومرعبًا، وشعور بالخوف والرعب اجتاحنا جميعًا. عند دخولنا البوابة، طُلب منا إبراز الأوراق التي حصلنا عليها من مكتب التجنيد الإلزامي. فحصها أحد الجنود على عجل، ثم أشار لنا بالدخول. تابعنا السير حتى وصلنا إلى ساحة واسعة تعج بالمجندين الجدد مثلنا، يحمل كلٌّ منهم حقيبته الصغيرة، وينتظر دوره بصمت يملؤه الترقب. بقينا هناك قرابة الساعة تحت شمس حارّة وغبار خفيف يعلو المكان. فجأة، سمعنا نداء عبر مكبّر الصوت يأمرنا بالصعود إلى الشاحنات. كانت ست شاحنات كبيرة من النوع المخصص لنقل المعدات الثقيلة مصطفّة على طرف الساحة بانتظام. تزاحمنا عند الصعود، وكلٌّ منا يبحث عن موضع يجلس فيه أو شيئًا يتمسك به لتثبيت نفسه. جلستُ على الأرضية المعدنية الباردة، بينما تعلق البعض بالشبك والحواف. تحركت الشاحنات حوالي التاسعة والنصف صباحًا متجهة نحو معسكر الاستقبال بالعاصمة صنعاء. ارتفع صوت المحركات وامتزج بالغبار من حولنا، وشعرت باهتزاز الشاحنة ينتقل إلى جسدي. أول تجربة في المعسكر قطعنا قرابة تسع ساعات على ظهر الشاحنات حتى وصلنا معسكر الاستقبال في ضلاع همدان، شمال غرب صنعاء، قبيل صلاة المغرب. كانت الساحة مكتظة بالمجندين، مصطفين في طوابير طويلة تمتد على مساحة المعسكر. ما إن نزلنا من الشاحنات حتى أخذونا إلى هنجر كبير، ومع أنه واسع، لم يكفِ الجميع، فنُقل بعضنا إلى المسجد القريب. وزعوا علينا الزي العسكري مع البيادات وملحقاتها، ثم بعد ساعة تقريبًا قدّموا لنا العشاء. تناولناه على عجل، قبل أن نفترش الأرض داخل الهنجر، منهكين بعد يوم طويل من السفر والإرهاق. نمنا متلاصقين، بلا فرش أو بطانيات، نشعر بثقل التعب يغمر أجسادنا. مع بزوغ الفجر، جمعونا في ساحة المعسكر. وزعونا على كتائب، وقسمونا إلى هناجر مجهزة بالأسرة والفرش والبطانيات. وضعنا أمتعتنا فوق السرر، ثم جمعونا مرة أخرى في الساحة في طوابير منتظمة. استلم كل ضابط متخصص كتيبته، بينما كنا أربعة آلاف مجند نصطف في ساحة واسعة وسط المعسكر، محاط بالجبال من كل جانب، نشعر بعظمة المكان وانضباطه. كان للمشهد رهبة، وخاصة حين نؤدي البحة العسكرية "عوه" بأصوات عالية، فيتردد صدى أصواتنا بين الجبال المحيطة بالمعسكر. بقينا هناك لمدة أسبوع نتلقى تدريبات أولية خفيفة، إلا أننا واجهنا الكثير من المشاكل بسبب ازدحام المجندين. أتذكر أن كل واحد من بين ستة أفراد كان يقف في طابور طويل تحت حرارة الشمس، يحمل صحنه منتظرًا دوره للحصول على وجبة الغداء. كانت هناك طوابير أخرى أيضًا، لكن الوضع في وجبتي الفطور والعشاء كان أخف بكثير. مع نهاية الأسبوع، وتحديدًا بعد صلاة المغرب، وصلت باصات كبيرة إلى ساحة المعسكر قادمة من الكلية الحربية. طلب أحد الضباط عبر مكبر الصوت أن نتجمع في الساحة، وأخذوا منا سبعين مجندًا فقط ممن يزيد طولهم عن متر وسبعين. كنت أنا وأصدقائي الثمانية من ريف شرعب ضمن هؤلاء الذين تم اختيارهم. داخل أسوار الكلية الحربية صعدنا إلى الباصات، وانطلقت بنا مباشرة نحو الكلية الحربية. كانت الساعة تقترب من الثامنة مساءً حين وصلنا. وما إن توقفت العجلات حتى نزلنا واحدًا تلو الآخر، يتسلل إلينا شعور غامض يجمع بين الحماس والرهبة. جمعونا في ساحة المبنى القديم، ذلك الذي احتوانا خلال فترة التدريبات التي استمرت أربعين يومًا. استقبلونا ورحبوا بنا، ثم ألقى علينا قائد الكتيبة محاضرة قصيرة تحدّث فيها عن حب الوطن، وعن الحياة العسكرية بما تحمله من التزامٍ وانضباطٍ ومسؤولية. بعد ذلك أدخلونا إلى المبنى ووزّعونا على الغرف في الطابق الثاني. وضع كلٌّ منا أمتعته في مكانه المخصص، ثم اتجهنا إلى "الميز" حيث تناولنا عشاءنا الأول هناك، على طاولاتٍ طويلةٍ وسط جوٍّ يسوده الهدوء والتوجّس. عدنا إلى السكن، وكان البرد قارس، يتسلّل إلى العظام رغم ما نرتديه من ملابس ثقيلة. جلسنا قليلًا نتبادل الحديث، وكلٌّ منا يشعر في داخله بمزيجٍ من الفخر والارتياح، إذ كنا نرى أنفسنا محظوظين بتوزيعنا إلى الكلية الحربية، ذلك المكان الذي يُعدّ من أرفع المؤسسات العسكرية، بخلاف زملائنا الذين تم إرسالهم إلى معسكرات نائية على الحدود اليمنية السعودية، وعلى مناطق معزولة تخلو من السكان. وبعد حديثٍ قصير خيّم علينا التعب، استسلمنا للنوم حتى صلاة الفجر. ما إن انتهينا من صلاة الفجر حتى جمعونا في ساحة التدريب، مصطفّين في طوابير تنتظر الأوامر. ساد المكان صمتٌ، قطعه صوت الضابط الجهوري وهو ينادي: استعد… استريح!، ونرد جميعًا الله! تقدّم الضابط المشرف على تدريبنا، وأمرنا بالتحرك خلفه بخطواتٍ سريعة ومنتظمة، نردّد وراءه أناشيد وطنية تملأ الجو حماسًا. خرجنا من بوابة الكلية الحربية في حي الروضة متجهين نحو منطقة دارس، وكانت خطواتنا المتناسقة تُحدث صوتًا قويًا يتردّد في الشوارع، يمتزج بأصوات الأناشيد مانحًا المشهد رهبة وهيبة. عند دخولنا الكلية، اجتاحتنا الدهشة أمام المباني المرتصة والهناجر الواسعة، وميدان العروض العسكرية، وساحة الكلية الشاسعة التي بدت وكأنها تمتد بلا نهاية. فجأة، أمرنا قائد الكتيبة بالجري حول قاعة المؤتمرات. اندفعنا بحماس، نركض بعشوائية، دون أن ننتبه لما حولنا. ولم ننتبه إلا ونحن على وشك السقوط في فتحتين كبيرتين مخصصتين لدخول السيارات إلى البدروم أسفل القاعة عند البوابة الرئيسية. تمالكنا أنفسنا في اللحظة الأخيرة، لكن الاندفاع القوي تسبب في إصابة عددٍ منا بتشنجات عضلية مؤلمة، لتكون أول درس نتعلمه عن الانتباه والانضباط في الحياة العسكرية. هكذا استمرينا لأربعين يومًا نتدرب من أذان الفجر وحتى قبيل المغرب، في أوقات متفرقة. وفي المساء، كانوا يجمعونا في ساحة المبنى، ويلقون المحاظرات عن حب الوطن، والدفاع عن الثورة، والجمهورية، والوحدة، لمدة تقارب الساعة. كنا أيضًا، في مساء كل يوم اثنين، يُعرض لنا أفلام عن الحروب العالمية، وأخرى عن دور المؤسسات العسكرية في الدفاع عن أوطانها، وعن حب الوطن والانتماء، على شاشة كبيرة في قاعة المؤتمرات، لمدة ساعتين. كنا نلتقي مع طلاب الكلية في الجامع، وكانوا يطلبون منا شراء بعض الأشياء لهم، لأنه كان ممنوعًا عليهم الخروج. أتذكر أن أحد الطلاب من فلسطين طلب مني فازلين ليضعه على قدميه المتشققتين من أثر البرد. تجارب وحكايات لا تنسى أتذكّر في إحدى المرات، بعد انتهاء المحاضرة حوالي الثامنة والنصف مساءً، أن مساعد الكتيبة أرسلني للحراسة عند البوابة الجنوبية. اتجهت مباشرةً وسط الظلام، ولم يكن في الطريق سوى صمتٍ يقطعه وقع خطواتي على الأرض. وفي منتصف الطريق، سمعت صوتًا يناديني من بعيد: الكلمة... الكلمة! توقف! تسمرت في مكاني للحظة وقد تملكني التوتر. اقترب الصوت أكثر، وإذا بشخصٍ يوجّه الكشاف نحوي، وأمرني أن أضع يدي خلف ظهري وأن أرقد على بطني، ثم وجّه سلاحه نحوي وسألني بصرامة: من أنت؟ أجبته أنني أحد أفراد كتيبة أمن الكلية، وأن مساعد الكتيبة هو من أرسلني إلى البوابة الجنوبية، لكنه لم يبلغني بكلمة السر. نظر إليّ بحدة، ثم وبّخني قائلاً: انتبه، لا تكرر ذلك مرة أخرى. وبعد لحظة صمت، أخبرني بكلمة السر وسمح لي بالمرور. بعد أن أنهينا فترة التدريب، تم توزيعنا على نوبات الحراسة المنتشرة على طول سور الكلية، وكنا أيضًا نخضع للتدريبات من وقت لآخر. تم تكليفي أنا وبعض زملائي بالحراسة في نوبة اصطبل الخيول. كنا نستيقظ في الصباح الباكر، لنشاهد السايس وهو يدرب الخيول بمهارة واعتناءٍ بالغ. كان لكل حصانٍ اسمه ومكانه الخاص، وكنّا نستمتع بمراقبتها وهي تركض بخفة وأناقة. في إحدى الليالي الباردة، كنت في نوبة الحراسة على السطح. عاد زملائي بعد مشاهدتهم لفيلم في القاعة عند العاشرة مساء، نزلتُ إليهم لأسألهم عن تفاصيله. في تلك اللحظة، وصل الضابط المستلم واكتشف أنني تركت موقعي. أخرجنا من النوبة، ورشّ علينا الماء البارد، وأمرنا بالوقوف في العراء لمدة ساعة كاملة عقابًا لي على مغادرة مكاني أثناء الحراسة. كانت تلك التجربة قاسية، لكنها أصبحت درسًا لن أنساه. ومنذ تلك الليلة، أصبحت شديد الانتباه والتركيز، حتى أن زميلي عندما كان ينزل لإيقاظي لتسلم الحراسة، لم يكن بحاجة إلى مناداتي، يكفي أن يلمسني بخفة حتى أستيقظ فورًا وأمد يدي لتسلّم السلاح. كنا بالقرب من مدرسة البنات، وكان زميلي خليل العمدة شابًا طويل القامة، قوي البنية، مرحًا وذا روحٍ خفيفة، يعشق النكات والمزاح. كان يلقبني مازحًا ب"شكسبير"، ويضفي على أوقات الحراسة جوًا من البهجة والضحك. وعندما كانت الطالبات يخرجن من المدرسة، كنا نقف عند نوافذ النوبة ونلوّح لهن بأيدينا. كان خليل يرفع صوته ضاحكًا ويقول: اثبتوا... اثبتوا مكانكم كما نفعل في التدريبات!. حتى وقت الغداء، كانوا يوزعون علينا صحن فيه رز ولحم بقري وأحيانًا دجاج أو سمك مع سلته وسلطة وكدم. كان خليل هو المسؤول عن تقسيم اللحم. يطلب منا أن ندير ظهورنا، ثم يبدأ بتقسيمه بعناية، وبعدها يدير الصحن، فيأخذ كل واحد حصته من أمامه، دون اعتراض. لم نكن نستطيع رفض طلبه. كان معنا أحد الأفراد العاملين في الاصطبل. في إحدى المرات، راودته فكرة سرقة أحد الخيول الصغيرة، وطلب منا مساعدته. ترددنا في البداية، لكننا وافقنا في النهاية. انتظر حتى تأكد من خلو المكان، ثم أخرج الحصان واقتاده إلينا. حاولنا رفعه فوق السور لنخرجه، لكن السور كان مرتفعًا جدًا، ولم يكن هناك من يساعدنا من الخارج. وبعد عدة محاولات فاشلة، استسلمنا واعتذرنا له، فترك الحصان وعاد إلى مكانه. هكذا استمرينا قرابة السنة، وكانت علاقتي جيدة مع كل الزملاء وحتى مع الضباط. كنت أجلس معهم، وأحيانًا كنا نمضغ القات معًا في الطيرامانة، وهي غرفة تقع في أعلى المبنى. لكن في إحدى المرات، وأثناء أدائي للحراسة في اصطبل الخيول وقت صلاة الفجر، اقبل أحد الزملاء وهو يحمل مجموعة من البطانيات التي سرقها من سكن زملائنا أثناء ذهابهم إلى الصلاة. حاولت منعه، لكنه رفض واستمر، ثم قفز من السور وهو يحمل البطانيات. بعد ذلك، اكتشفوا الأمر وعرفوا أنه هرب من اصطبل الخيول. أصدر ضابط كتيبة أمن الكلية أوامره بإحضاري. عند الساعة السادسة صباحًا، جاء مساعد الكتيبة وأخذني إلى ضابط الكتيبة الذي حقق معي. أخبرته أنني حاولت منعه، لكنه رفض، فتم نقلي مباشرة إلى سجن تحت الأرض، حيث بقيت هناك لمدة ثلاثة أيام. عندما علم مدير الكلية بالأمر، حضر بنفسه، وجمع الكتيبة باكملها ضباطٍ وأفرادٍ ومجندين، ثم أمرهم بالدخول إلى المسبح وهم يرتدون الزي العسكري. وبعد خروجهم، أجبرهم على الزحف فوق شجرةٍ القطبة الملئة بالشوك عقابًا للجميع. خرجت من السجن مباشرة إلى مكان حراستي في إسطبل الخيول، جمعت أشيائي بهدوء، وقفزت من فوق السور، مغادرًا الكلية الحربية دون عودة. كنت محبطًا حينها، وعدت إلى القرية وأنا منكسر. كان الناس يلومونني ويزعجوني بنظراتهم، متسائلين: لماذا تركت المعسكر؟ لكن بعد أيام، كانت الأقدار تُعدّ لي طريقًا جديدًا... طريقًا قادني إلى عدن، حيث بدأت مرحلة مختلفة من حياتي. وذلك ما سأبوح به بالتفصيل في مقالي القادم.