محمد المخلافي حين وصلتني مسودة مسرحية (هي وهو) من الكاتب اليمني المقيم في فرنسا حميد عقبي، وجدت نفسي أمام نص صغير في حجمه، لكنه واسع بما يكفي ليجعلني أعيد التفكير في معنى الغربة، وفي الطريقة التي نحاول بها فهم أنفسنا حين نكون محاصرين بظروف لا نتحكم فيها. كنت أقرأ النص بالعربية وأعود إليه مرة بعد أخرى، وفي كل مرة أشعر أن جمله تشير إلى ما هو أبعد من ظاهرها، كأنها تنتظر لغة أخرى تساعدها على أن تستقر. لذلك، حين بدأت الترجمة، لم أنشغل بنقل الكلمات حرفيًا بقدر ما حاولت أن أحافظ على ذلك الهدوء الخفيف الذي يتحرك بين السطور. صدور النص في كتاب يجمع بين اللغتين عن دار متون المثقف جعل التجربة أوضح. بدا لي أن وجود العربية والإنجليزية في الكتاب الواحد يشبه وقوف مرآتين متقابلتين؛ كل لغة تعكس الأخرى، وكل قراءة تمنح النص طبقة جديدة. النسخة الإنجليزية تفتتح بمقدمة للفنان الأميركي براين كارلسون، الذي أُهدي إليه النص. في مقدمته، كتب عن علاقته الشخصية بالمسرحية، وعن شعوره بأن الغربة ليست مكانًا بعيدًا بقدر ما هي حالة تظل تطارد الإنسان أينما ذهب، وهذه الفكرة رافقتني أثناء ترجمة العمل. تجري أحداث المسرحية في غرفة غريبة: أرضية من عشب صناعي، أشجار بلاستيكية، ضوء خافت لا يكشف الكثير ولا يترك المجال للراحة. يستيقظ رجل وامرأة داخل هذا المكان دون أي تفسير، وكل منهما يحاول أن يفهم وجوده قبل أن يفهم الآخر. نصّ عقبي لا يقدم أجوبة، وربما هذا ما يجعل المسرحية قريبة من حياتنا اليومية؛ فنحن نعيش الكثير من اللحظات التي لا نفهم بداياتها ولا نهاياتها، ونكتفي بالمضي داخلها كما هما يفعلان. أثناء عملي على الترجمة، لفتني حضور الهاتف الذي يقطع صمت الشخصيتين برسائل وإعلانات لا معنى لها. بدا لي الهاتف كأنه رمز لعالم خارجي لا يصغي، عالم يضيف ضجيجًا إلى حياة الشخصين بدل أن يمنحهما مخرجًا. هذه التفاصيل الصغيرة جعلت النص أكثر واقعية، رغم غرابة المكان. مع تقدم الأحداث، يتبدل شعور الشخصيتين من التوجس إلى شيء يشبه الاعتراف. الخوف لا يختفي، لكنه يصبح أقل حدّة. وفي النهاية، حين يعثران على لوحات موقعة باسم براين كارلسون، يتحول النص بهدوء إلى كشف آخر، يلمّح إلى أن الرجل هو براين نفسه، وأن المرأة ماهي الا انعكاسًا لحلم أو ذاكرة أو خوف قديم. ما أحببته في هذا النص أنه لا يدّعي العمق، بل يصل إليه ببساطة. بالنسبة لي كمترجم، كانت التجربة أقرب إلى السير داخل مساحة هادئة أحاول فيها أن أحفظ توازن العمل بين لغتين وروحين. وربما لهذا أرى ( هي وهو) نصًا يستحق أن يُقرأ، لأنه يذكّر القارئ بأن الغربة ليست دائمًا مسافة، بل شعور قد يرافقنا حتى ونحن في المكان الذي نظنه وطنًا.