حتى الآن، لا يمكن معرفة ما الذي سوف يتركه قرار مجلس الأمن بفرض عقوباتٍ على كل من علي عبدالله صالح، الرئيس السابق، وأبو علي الحاكم، الرجل الثاني في جماعة الحوثي، وعبدالخالق الحوثي، شقيق زعيم الجماعة، لكن من الواضح أن القرار بدأ يلقي بظلاله على واقع المشهد السياسي منذ ما قبل دخوله حيز التنفيذ الجمعة الماضية؛ إذ نتج عنه ما يشبه حالة من الفرز والاصطفاف، وهذا ما يمكن أن يجعل الصراع بين قوى سياسية أكثر وضوحاً ومواجهةً. فالقرار الذي وقف خلفه الرئيس عبد ربه منصور هادي، كما تقول المعلومات، أظهر موقفه الواضح من جماعة الحوثيين، بعد أن ظل موقفه موارباً، ويكشف هذا إلى أي مدى كان هادي ضعيفاً ومغلوباً على أمره، لكن الأهم من ذلك هو أنه حسم الجدل حول مسألة التحالف بين صالح والحوثيين، كاشفاً عن فجوةٍ كبيرةٍ بين الرئيس عبد ربه منصور هادي، ورئيس حزبه، بدت أكثر اتساعاً بعد تصعيد المؤتمر الشعبي العام من خطابه ضد هادي، رئيس الجمهورية، والأمين العام للحزب. انتهى هذا التصعيد عملياً بإقالة رئيس الجمهورية من منصبه الحزبي. هادي الذي بدا رئيس توازنات، وجد نفسه طرفاً لدى كل الأطراف؛ فموقف المؤتمر الذي صعد من خطابه ضده، وفتح النار عليه، جاء بعد أن كان الإصلاح وقواه العسكرية والتقليدية حمّلت هادي كل اللوم على خلفية موقفه من الحوثيين، حين فسرت صمته بالرضا والتواطؤ، أما المواقف التي لم تتهمه بذلك، فقد اتهمته بالضعف. توسع الحوثيين الذي استهدف قوى الإصلاح القبلية والعسكرية، ونجح في إقصائها تماماً، ما لبث أن حل محل الدولة في كل شيء. وفي حين أضعف الإصلاح عملياً، أظهر الرئيس هادي ضعيفاً، بل وسلب الدولة كل حضورها على الأرض. الغموض الذي اتسمت به علاقة هادي وصالح، أو الهدوء الحذر بالأصح عقب "إغلاق قناة اليمن اليوم، وإشكالية جامع الصالح"، تحول إلى مواجهة مفتوحةٍ وتصاعد في الخطاب الإعلامي، بعد الكشف عن ملابسات قرار مجلس الأمن حول أسماء المعرقلين، وعلاقة هادي بتحديدها. تفاقمت الأزمة بشكل متسارع، انتهى إلى تصعيد مؤتمري لا يعرف آخره بعد، لكن أوله رفع الغطاء الحزبي عن هادي، وأظهره وحيداً، بعد أن كان الرجل سلفاً، قد خسر الإصلاح. وهذا الأخير لو فكر أن يلتف حول هادي مجدداً، فإنه لم يعد بالتأكيد ما كان عليه قبل أن يشذب الحوثي وصالح قوته التي كان يمكن أن تكون قوة موازيةً لصالح والحوثيين. من الناحية العملية، لم يعد لدى هادي أية قوة "مادية يستند إليها" سوى المجتمع الدولي و"الفصل السابع"، لكن ما الذي يمكن لذلك أن يفعله، بعد أن أصبح الرجل وحيداً، في الداخل، ولعل قراراً كالذي صدر مؤخراً استغرق من الوقت ما كان كافياً بالنسبة للحوثيين (وصالح كحليف لنشاط الجماعة)، أن يسلبوا رجل الرئاسة كل سلطته، ويتركوا له السلطة الرمزية. غير المجتمع الدولي والأمم المتحدة تحديداً، لدى الرئيس هادي الجنوب. ومنذ التحضير لمؤتمر الحوار الوطني، بدأ هادي في استقطاب قيادات الحراك الجنوبي في الداخل والخارج، للمشاركة في المؤتمر. وفي حين تمكن هادي من كسب موقف الرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد، ورئيس الحكومة الأسبق أيضاً حيدر أبو بكر العطاس، لتأييد أو عدم الاعتراض على تمثيل الجنوب في مؤتمر الحوار، كان أول الواصلين من قيادات الخارج البارزة، محمد علي أحمد، الذي أنشأ "المؤتمر الوطني لشعب الجنوب"، وترأس فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار. غير أن التباينات في وجهات النظر، والمواقف من سير نقاشات الحوار حول القضية الجنوبية وبناء الدولة، سرعان ما أبعدت محمد علي أحمد، عن هادي، فبدأ الأخير بشق ممثلي الجنوب ال85 في مؤتمر الحوار، وتمكن من إبقاء 44 عضواً كممثلين للجنوب. ومنذئذ زاد نشاط هادي، بشكل واضح، في تأليب المزيد من قيادات الحراك في الداخل إلى صفه، ولعل أبرز تأييد حصل عليه من قيادات الداخل، كان موقف العميد ناصر النوبة، الذي يعتبر مؤسس الحراك الجنوبي، تشاركاً مع حسن باعوم. مؤخراً، لم يعد ناصر النوبة يظهر كثيراً، فيما عاد عدد من قيادات الجنوب إلى عدن، أبرزهم رئيس حزب الرابطة عبدالرحمن الجفري، وأمينه العام بن فريد، كما أعلن في عدن، أمس الأول، عن وصول القيادي يحيى غالب الشعيبي، مستشار الرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض. هذه العودات تزامنت مع استمرار اعتصام نشطاء الحراك في ساحة العروض، للمطالبة ب"الاستقلال" وإنهاء الوحدة بين الشمال. وسواء تمكن هادي من استصدار موافقة دولية بمنح الجنوبيين حق تقرير المصير، أو إقناع الجنوبيين بنظام اتحادي على أساس مخرجات الحوار، أو القبول بتعديله، فما يحدث الآن بين القوى السياسية ال3 (حزب المؤتمر، وجماعة الحوثي، والرئيس هادي)، يشير إلى أن واقعاً جديداً في اليمن على وشك التخلق. لكن نتائج أي اصطفاف مع هذا الفرز، تقتضي أن الحوثي وصالح سيقفان في طرفٍ منه، فيما سيقف هادي والجنوبيون، في الطرف الآخر. مع أن لدى كل طرف مجموعة اصطفافات قيادية محسوبة على الطرف الآخر؛ كوقوف أحمد عبيد بن دغر، وفائقة السيد، وعارف الزوكا، في صف صالح، ووقوف عبدالكريم الإرياني، ورشاد العليمي، في صف هادي. هذا على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما يزيد من تعقيد الصراع. تسارعت وتيرة الأحداث الأخيرة بصورة مربكة طغت على المشهد السياسي، وأحالت تصورات اليمنيين إلى تخمينات ومخاوف متفاوتة في درجات التشاؤم، سيما أن هذه الأحداث تخضع في تسارعها، وبصورة غير متوقعة، للتزمين الذي تقتضيه مصالح الأطراف المحلية المتصارعة، والإقليمية (السعودية وإيران)، وقبل ذلك مصالح اللاعبين الدوليين في المنطقة: أمريكا وبعض دول الاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا. وحتى يتخلق الواقع الذي ينتظره اليمنيون بقلق ورهبة بالغين من تداعيات التشظي الوطني، ومزالق الاقتتال الجهوي، يبقى السؤال: ما الذي على الشعب اليمني أن يمر به حتى يتجاوز "عنق الزجاجة" الأصعب في تاريخه؟ ربما لا يمكن الإجابة على سؤالٍ كهذا بسهولةٍ، لكن قراراً بتشكيل حكومة كفاءاتٍ اتخذه هادي، في وسط هذا الضجيج، لم يكن ليشغل الناس مثلما شغلهم رد فعل صالح على قرار مجلس الأمن، وتصاعد حدة الصراع بين هادي من جهة، وصالح والمؤتمر الشعبي العام من جهةٍ أخرى، الأمر الذي أكد أن "حكومة كفاءات" التي جاءت كطوق نجاةٍ من "المحاصصة" بين القوى، لن تكون بمعزلٍ عن واقعٍ سياسي، طابعه الرئيسي "صراع بين القوى" خارج إطار الدولة؛ الدولة التي لا وجود لها إلا في "الإطار الصوري"، أما الواقع، فللأقوى. الرئيس بسلطته الرمزية كرئيس للجمهورية، محفوف بجوقة مستشارين لا ينتمون إلى إدارته رؤية وتفكيراً، بقدر ما يمثلون قوى الصراع تلك، ويديرون البلاد بالتوافق، وما على هادي سوى إضفاء الشرعية على كثير من القرارات التي لم يقررها وحده، وإذا كان تشكيل الحكومة قراراً انفرد به هادي هو ورئيس الحكومة (المجمع عليه من قبل تلك القوى)، فإن ذلك لم يكن إلا بعد أن خولتهما القوى السياسية بتشكيل حكومة كفاءات، ومع ذلك فقد بدت التشكيلة مراعيةً جداً للانتماءات والحصص السياسية، وإن بشكل غير علني. ومع أن القوى التي خولت هادي بذلك، كانت التزمت بعدم الاعتراض على ما سيقرره هو ورئيس الحكومة المكلف، إلا أن المؤتمر الشعبي العام، بعد قرار مجلس الأمن بفرض عقوباتٍ على رئيسه، خرج يدعو أنصاره من الأسماء التي ضمتها تشكيلة هادي وبحاح، إلى الانسحاب من الحكومة، بينما أصدر الحوثيون بياناً دعوا فيه إلى تعديل حكومي، بعد قرار مجلس الأمن ذاته، الذي فرض عقوباتٍ على اثنين من قيادات الجماعة. والسؤال الآخر: ما الذي سوف تفعله حكومة مثل هذه، بالكاد يقف خلفها هادي المتردد والمرتبك والغامض، الذي أصبح طرفاً من أطراف الصراع، بعد أن كان حلاً توافقياً؟ وما الذي يمكن لهذه الحكومة أن تقدمه من حلولٍ في ظل واقع تسيطر عليه قوى خارج الدولة؟ خصوصاً مع بوادر أزمة مشتقات، وانطفاءات في الكهرباء، وحالة معيشية بائسة، واختلالات تعم مؤسسات الدولة، ووضع أمني مهترئ، وصراعٍ محتدمٍ بين القوى المتنفذة والقابضة بإحكامٍ على عنق البلاد.