جميل أن يبدأ الشاعر كتابة نصه الإبداعي من الفراغ وليس في ذهنه شيء سوى الشعر، فقد سئمنا التناص والإحالات، كما سئمنا أكثر حديث «وقع الحافر على الحافر» وكأن الشعراء صنف من الحيوانات لا أشخاص من البشر، واشتقنا إلى شعر لا يصغي سوى إلى ذاته. وهذا بعض ما يحاوله عدد من الشعراء الشبان في «اليمن السعيد»، وفتحي أبو النصر واحد منهم، نعم، واحد من هؤلاء الغواة الذين حملوا على عواتقهم عبء الكتابة المختلفة، ليس في الشعر وحسب وإنما في النثر أيضاً. والفراغ الذي يصدرون عنه ليس فراغاً في الثقافة والاطلاع والبحث عن الأجدّ، وإنما هو فراغ في المثال، وفي نموذج المحاكاة، ولهذا فقد نجحوا في كتابة شعر طري طازج يشبه تلك الأرغفة الساخنة التي تخرج من "تنانير" الأمهات، ليأتي - لذيذاً شهياً تشتاق إليه الأرواح قبل الأفواه. كأني بهذا الجيل الشعري - ومنه فتحي أبو النصر - يصغي باحترام إلى مقولة فولتير المأثورة: «كن رجلاً ولا تتبع خطواتي» وهي مقولة يظل الشعراء أحوج ما يكونون إلى تمثلها والعمل بها، لكي يتحرروا وفي شكل نهائي من التأثيرات الأبوية ودعاة الوقوف عند شكل من الأشكال اليابسة سلفية كانت أو معاصرة . وعلى كل ما يمكن رصده من سلبيات هذا الجيل من الشعراء الشبان في اليمن والوطن العربي، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر عليه مواهبه وابتكاراته وإصراره على أن يكون ما يكتبه تعبيراً عن لحظته التاريخية، لحظته هو، لا لحظات الآخرين الذين سبقوه إلى هذا العالم الذي تتجدد معه اللغة، بعد أن تتخلى عن أناقة اللفظ وجزالته، لتحتفي بأناقة العبارة وبكل ما يتجاوز المعنى السائد لكي يصل إلى ما هو أرقى منه وأكثر صفاء وفرادة: «في قرارة الحب يمكث ملائكة مريضون/ ويوماً سأطلق سراحي وسأتحداني/ سأشتهي أن أموت منتحراً/ وسأكون قبراً لفراشتين ووردة» ص 69. هكذا بقدر كبير من العفوية والبراءة ينطلق فتحي أبو النصر في التعبير عن حبه وارتعاش عواطفه، لغة جديدة وصور ومعان غير مسبوقة، وبساطة تبحث عن العمق في أقصى حالاته عفوية ومباشرة. وهكذا هو الشاعر الحقيقي يأتي من المستقبل لا من الماضي، ولهذا يلفت الاهتمام ويغدو ما يقدمه إضافة لا تكراراً، وهناك مبدعون كبار أضاعوا قدراتهم الإبداعية في محاكاة غيرهم، وفي الوقوف على أطلال الآخرين بدلاً من الوقوف عند ذواتهم وما تمتلكه من قدرات على الاغتراف مما تحمله الأحلام والهواجس والرؤى المشحونة بالخوف والقلق، والرحيل الدائم والدائب إلى حيث الأسئلة الحارقة: "لم أنتبه للموسيقى/ كيف لم أنتبه للموسيقى؟/ لمن هذه الرأفة القاسية؟. لماذا أتجرأ على نفسي؟/ ما هو مفهوم استعادة الروح؟/ بدون شك أنا جزء من الذي لا أنتبه له» ص 229. كل محاولة للرد على الأسئلة الحارقة تبدأ من طرحها على الورق، حتى إذا لم يتم العثور على إجابة فيكفي ما تكون قد صنعته من دوائر تظل عالقة بالذاكرة إلى ما يشاء الله من الوقت، وهذا عين ما صنعته أسئلة الشاعر فتحي أبو النصر في هذا المقطع من نص طويل مثير ينتهي بأسئلة لا تقل احتراقاً ومنها: «ما الذي تريد أن تدركه على وجه التحديد؟/ تواضع إذن في بحثك المتكبر/ انبثق في الأشياء/ حدد ضوءاً أنيقاً واخرج منه/ أضحيت تنتظرك هكذا... إلى متى؟/ الشيء الوحيد الذي يستفزك هو أنت/ منذ البدء كنت تدرك جيداً أنك قتيلك/ أنا لن أحزن عليك» ص 248 الشاعر هنا، يبحث عن نفسه في نفسه، وهو بحث لا يتطلب المعرفة التي تؤدي إلى الهدوء والسكينة، وهما العدوان اللدودان للشعر والشاعر معاً، وإنما يبحث عن مزيد من الانفلات والأسئلة المعلقة على نحو مذهل بين مزيج من التمرد والشعور بالقدرة على مواجهة الفخاخ المنصوبة في طريقه أولاً وفي طريق القصيدة ثانياً. - 2 - على غلاف هذه المجموعة للشاعر فتحي أبو النصر عنوان جانبي يقع تحت اللوحة من اليسار هو «قصائد ونصوص» وكأن الشاعر يحرص على التعريف بمحتويات مجموعته هذه مفرقاً فيها بين ما هو قصائد وما هو نصوص في حين أن كل ما تتضمنه المجموعة نصوص إبداعية تدخل بقوة في إطار حداثي ينتمي إلى ما يسمى بقصيدة النثر من ناحية، ومن نص خارج على قواعد الكتابة المألوفة من ناحية ثانية، وما يحسبه الشاعر نصوصاً هي تلك التي تتميز بطولها وتستوعب المزيد من التجربة الذاتية مع احتفاظها بسمة الكتابة الشعرية التي لا تقلل التفاصيل المباشرة. من حضورها ومن أهميتها الفائقة كعمل شعري بالغ الرهافة والخيال: «قولوا للماء إنني في بهو السحابة لم أجده... للمجهول إنني تآخيت ونشوة حزينة... لترنحي انني بلا بلاد... للصباح انني انتشرت في المساء وأكاد أتلاشى... للوجد العائم في صدري انني لست ملاكاً ولست شيطاناً... لأمي أن تحاول أن تنساني... لبساتين قريتي التي احترقت انني سأموت وأنا أتمشى فيها» ص 217 هذا شعر، وشعر جميل وجزء من فضاء شعري بديع، ليسمه الشاعر نصاً أو ليطلق عليه ما يشاء من الأسماء والنعوت لكنه يبقى تعبيراً مفعماً بالشعر حافلاً بالشفافية والبعد التأملي العميق. وليس في المجموعة ما لا ينتمي الى الشعر. ويمكن القول إن المجموعة تنقسم من حيث الشكل الى قصائد قصيرة وأخرى طويلة، والى قصائد «سطرية» وأخرى تأخذ نموذج النثر في طريقة كتابته المألوفة. ومن هذه النصوص المملوءة بالاختلاجات والرؤى الشعرية الفائقة، نص طويل يحمل عنوان الديوان نفسه وهو «موسيقى... طعنتني من الخلف» ومنه اجتزئ عشوائياً هذا المقطع البديع: «وهكذا../ نحن كوميديا الخرائط والتراجيديا التي تشخر الآن/ فلتخترقنا أكثر أيها الملح وأنت أيتها السماء لا تتقلصي تحت جلودنا الدبقة/ هنا وهناك قامة للفقد لا تقبع بالأشلاء.../ وكلما قلنا سيحلو للماء أن يخدش صورنا الطفولية بادرتنا النار/ بغفرانها المرير الناعم!» ص 173. في المجموعة رسائل أو برقيات شعرية مكثفة كثيرة وإشارات أكثر الى شعراء من اليمن والوطن العربي، وإحدى هذه الرسائل يتماهى فيها الشاعر إبداعياً مع شاعرنا الصديق الراحل سركون بولص وعنوانها الطويل «أنا سركون وأرجوكم ممنوع الإزعاج الآن» وفيها يتقمص فتحي شخصية سركون، أو إنه يتخذ من تلك الشخصية النبيلة التي أضاعها المنفى والقلق والحرمان والمرض قناعاً لرصد أوجاعه واستنطاق معاناته: «أنا سركون بولص محفز صرخات المواليد ومبعث ألعابهم. ما أجمل أنفاسي حين توقفت وأنا ببسمة تستعد ودونما حساب في البنك. كانت الريح تسامرني واليتامى نجواي ونادلة الحانة ذئبتي الوفية. لكنني مت وأنا أنتظر حوالة الدولارات القليلة من لا أحد الى لا أدري أين وكل فجر كنت أتذكر «الحبانية» وأبكي بينما كان القمر أخي يغمرني بالحكايات كل مساء وعن حنيني يدافع (ص 134 الشعر هنا محمول على ناصية النثر وفي قصيدة هي الأقصر، من سطر واحد فقط، يرسم الشاعر فتحي أبو النصر صورة للشاعر كما يراه أو كما عايشه في داخله هو وفي الآخرين تقول القصيدة الأقصر: «الشعراء الضالون وحدهم الذين باستطاعتهم النجاة من الاسطبل»، وفي هذه القصيدة/ السطر يبدو الشاعر (الضال) وقد تحرر من كل الاصطبلات المادية والمعنوية وأصبح حراً لا في منهجه التعبيري فحسب، وإنما في طريقة حياته وتعامله مع المسلّمات والقواعد الثابتة التي تقف حجر عثرة في بناء الأعمال الجميلة والتلقائية وتدفع به الى الانغماس في التكوينات الجماعية التي تفقد ذاته حس الصفاء والفرادة. * عن الحياة اللندنية