جادلت عالماً فغلبته وجادلت جاهلا فغلبني ، مع أهمية التأكيد على أن تصنيف اﻵخر كعالم أو كجاهل لا صلة له بالدرجة العلمية التي يحملها ذلك العالم ، أوحصول الموصوف بالجهالة على أي قدر من التعليم ، فأحياناً يكون الحاصل على أعلى الدرجات العلمية من أرقى الجامعات في كوكب الأرض غارقاً حتى أُذنيه في الجهالة والتخلف والعصبية والمناطقية ، مما يبعث الشك لدى من يخوض معه نقاشاً في أي مسألة جدلية في أنه قد نال تلك الدرجة العلمية بطرق سوية ، فجهالة أولئك أكثر وجعاً وإيلاماً من بعض أولئك البسطاء الذين لم يأذن لهم الله بنيل أي قدر من التعليم ، لكنهم يذهلونك بمرونتهم وقابلية عقولهم للجدل الموضوعي الإيجابي دون تعنت أو ذرة من التكَبُّر أو الازدراء والتحقير لما يطرحه اﻵخر ، مرحبين إلى أقصى مدى بتقبل أي آراء حتى لو كانت تتناقض جذريا مع قناعاتهم التي تجذرت لديهم بفعل الخبرات التي اكتسبوها بمرور وتراكم الأيام والأشهر والأعوام التي مضت من حياتهم ، فكانت الحياة أكبر وأروع مدرسة وأكاديمية تتلمذوا ونبغوا فيها بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى . من جانبٍ آخر نجد – للأسف الشديد – البعض ممن أنعم الله عليهم بتيسير كل أسباب الارتواء والتشبع من مناهل العلم والمعرفة من منابعها ، متبخترين متعالين بما صار مكتنزا في عقولهم ، فلا يرون أحداً نِداً لهم ، ويرون أنهم هم وحدهم القادرون على الفهم والاستيعاب والتحليل ، وما دونهم ﻻ يفقهون من أمرهم شيئاً ، ويرون أنهم هم وحدهم من يمتلكون عقولاً في جماجمهم ، وما دونهم يحيون بزعمهم كسائر مخلوقات الله من غير البشر ، لذا نجد أولئك ينظرون لما سواهم وما حولهم من بروج عاجية بنوها لذواتهم وتربعوا عليها .
وكما ينطبق ذلك على الأفراد ، فإنه ينطبق أيضا على الجماعات ، فنجد أبناء محافظات معينة يتباهون بأنهم للثقافة والمعرفة والعلم والتحضر والمدنية عنوان، وما دونهم للجهالة والهمجية والتخلف أبلغ عنوان ، في حين أن سلوكيات أولئك وردود أفعالهم تجاه مختلف القضايا وعلى كافة المستويات الشخصية والوطنية صادمة جداً ومخيبة جداً للتوقعات المأمولة منهم بقدر ما يزعمون أنهم يمتلكونه من وعي وإدراك فردي أو جمعي .
ومهما حاول أولئك فلسفة وتبرير مواقفهم الشاذة المستهجنة المثيرة للدهشة والتعجب ، وسلبيتهم وتقاعسهم عن تنوير غيرهم بما يعتمل في عقولهم مما يتفق مع الفطرة والمنطق والبديهة السوية ، فإنهم بعنادهم وتكبرهم وتطويعهم لكل ما أودعه الله في عقولهم من علم ومعرفة لخدمة توجهات سياسية معينة ومصالح شخصية أو حزبية ضيقة ، يكونوا قد خانوا الأمانة الملقاة على عاتق كلاً منهم ، وضيعوا أوطانهم ومواطنيهم في جدل بيزنطي عقيم ﻻ يسمن وﻻ يغني من جوع .
وحين ﻻ يتبسط (المُثَقَّف) ، وينسف غروره وتعاليه ، ويمحو كل ما يمكن أن يحول بينه وبين ملامسة أفكار وهموم وأوجاع وآلام وأحلام وتطلعات وأمنيات المحيطين به من كل الفئات الفكرية ، فإن دور ذلك (المُثَقَّف) يصبح كارثياً ، وتصير ثقافته وبالاً عليه وعلى وطنه وعلى مواطنيه ، ويصير الأمي الجاهل الذي لم ينل مطلقا أي قسط من التعليم أفضل منه .
ولست مع من يقول بأن (المُثَقَّف) ينبغي أن يكون مُحايداً فلا ينتمي لأي تنظيم سياسي ، فلا يجوز له ولا يصح أن يميل لهذا التنظيم أو ذاك إلا بمقدار ما يرى فيه مصلحة وطنه وأمته ، فإن نحن استسلمنا لمثل هذا الطرح ، وصار الانخراط بالعمل السياسي محرماً ومجرماً على المثقفين والقضاة والعسكريين ورجال الأمن ، فمن سيكون إذاً منضوياً في الأحزاب والكيانات السياسية الوطنية ، وإن كنا نتفق على ضرورة وحتمية تجريم وتحريم العمل الحزبي والانتماء السياسي في الأجهزة القضائية والعسكرية والأمنية ، فإن النأي بالمثقفين عن الخوض في غمار العمل السياسي هو الخطأ بعينه ، وعلى النقيض من ذلك ينبغي أن يكون دور (المُثَقَّف) إيجابيا لأقصى درجة ممكنة ، وفي تقديري أن الأمانة الموضوعة في عنقه تقتضي بالضرورة أن يكون هو شوكة الميزان والبوصلة التي تعمل على تعديل وتصويب أي انحرافات قد تحدث في التنظيم السياسي الذي ينتمي إليه ، بل ويجب أن يكون صوته هادراً مجلجلاً ومزلزلاً إن حاد تنظيمه السياسي عن الثوابت الدينية والوطنية والأخلاقية .
فمن منا كان يحلم أو يصدق إمكانية وجود مثقفين في أحزاب كالناصري (وعبدالناصر منهم براء) والاشتراكي (والاشتراكية منهم براء) أو حتى في التجمع اليمني للإصلاح يمكنهم أن يسوغوا أو يبرروا استجلاب غزاة محتلين طامعين من أي دولة كانت شقيقة أو صديقة تحت أي ذريعة مهما بلغت وجاهتها للاعتداء على وطنهم ومواطنيهم ، وانتهاك أعراض نسائهم من أُمهات وشقيقات وبنات ، وقتل وسفك دماء آبائهم وأشقائهم وأبنائهم ، وتصدر صحفهم الحزبية التي يقف وراءها ما يُفترض أنهم النخبة من مثقفيهم ، مرحبةً مهللةً لاستمرار العدوان ، والاحتلال العسكري لبضعة أمتار في أي بقعة في وطننا الحبيب ، تحت مبرر تطهير الوطن بزعمهم من بعض أبناءه .
من منا كان يحلم أو يصدق إمكانية وجود مثقفين يستجيبون وينقادون انقياداً أعمى للجهلة العملاء الخونة من قيادات تنظيماتهم السياسية ، وهم يدركون أن كلا من تلك القيادات الملفوظة خارج الوطن يقبض مايعادل 28مليون ريال يمني ثمنا لخيانته وعمالته وتحوله لنعل في أقدام ساداته ، فيصورون لمواطنيهم أن تلك القوات الغازية بعدما أجهزت على كل مقدرات الوطن والمواطنين ، جاءت لتحريرهم من بعض بني وطنهم ، وأن خيراً عميماً يمكن أن ينعم به الوطن من عدوٍ تاريخي غازٍ محتل طامع بالهيمنة على عقول وأجساد وأرواح 25 مليون يمني .
من منا كان يحلم أو يصدق إمكانية وجود مثقفين يدسون رؤوسهم في الرمال كالنعام – مع الاعتذار للنعام – وهم يباركون انتشار وتمدد التنظيمات الانفصالية والإرهابية من حراكيش وقواعيش ودواعيش في بعض محافظات الوطن الحبيب ، ويعمى أولئك عن رؤية الخطر الماحق والهاوية السحيقة التي يوشك أن ينزلق إليها الوطن إن انتصر أولئك وواصلوا تمددهم ليصل قُبحهم لكل أرجاء الوطن ، بل إن بعض أولئك المثقفين يُنكرون وجود تلك الجماعات ويُنكرون قُبح أفعالهم ، ويصورون ما يُنسب إليهم من ذبح ونحر لرقاب مواطنيهم أو إحراقهم لأجساد البعض والتنكيل بها على أنها خيالات مريضة وابتكارات (فوتوشوب) ، وليست أكثر من أعمال درامية مُمنتجة في استوديوهات ولا أساس لها من الصحة .
من منا كان يحلم أو يصدق إمكانية وجود مثقفين يلغون عقولهم أو يجمدونها ولو إلى حين في ثلاجات الموتى ، وتعمى أبصارهم وبصائرهم عن فهم واستيعاب وتفسير تواجد عناصر (القاعدة) في (المُكلا) بحضرموت وفي غيرها ، تسرح وتمرح وترفع راياتها السوداء في وضح النهار دون أن تتعقبهم وتنال منهم الطائرات الأمريكية بدون طيار ، وحينما كنا ولازلنا وسنظل نشير إلى أن أمريكا ومن خلفها الكيان الصهيوني ضالعة في إنشائهم واحتوائهم وتمويلهم وإدارتهم وتدريبهم وتوجيههم نحو ما يخدم مصالحهم ، نكون متهمين بالمبالغة وتضخيم الأمور .
إن كانت هذه هي الثقافة ، وكان هؤلاء هم المثقفون ، وإن كان أولئك المثقفون هم عماد ومرتكز الأحزاب والتنظيمات السياسية التي ينتمون إليها ، وهم من يقع على عاتقهم التنظير لقادتها وفقاً لما تقتضيه مصالحهم الشخصية ، بعيدين عن كل خُلقٍ كريم ، فلا زاجر لهم ، ولا محرم لديهم ، ولا مُقدس يحكم ثقافتهم ، فلا بارك الله فيهم هم وتنظيماتهم السياسية .
يا كُل هؤلاء الوطن في مفترق طرق فاهبطوا من بروجكم العاجية ، وحكِّموا ضمائركم ، واقذفوا بكل خيلائكم ونرجسيتكم وراء ظهوركم ، ولا يكُن كُلاً منكم خنجراً مسموماً مغروساً في خاصرة هذا الوطن ، فلولا هذا الوطن ما صرتم بزعمكم مثقفين ، ولولا أولئك البُسطاء من عامة الشعب الذين تشيرون بأصابعكم إليهم على أنهم الجهلة الذين لا يفقهون شيئاً مما تفقهونه أنتم ما صرتم أنتم مثقفين ، فمن قُوتِهم ولُقمة عيشهم وحقهم في الحياة الكريمة اقتطعتم تكلفة تحولكم لمثقفين ، فلا تتحولوا للعنة وابتلاء كتبه الله عليهم وعلى وطنكم ، اللهم هل بلغت اللهم فأشهد .