إب.. مواطنون يشكون تضرر منازلهم من تفجيرات في جبل مجاور لقرية أثرية في السياني    الرئيس الزُبيدي يُعزّي العميد الركن عبدالكريم الصولاني في وفاة ابن أخيه    صنعاء: حركة تنقلات جديدة لاعضاء النيابة - اسماء    وقفة مسلحة لقبائل الزرانيق تؤكد استمرار النفير والجاهزية    خطورة القرار الاممي الذي قامت الصين وروسيا باجهاضه امس    الأمم المتحدة: إسرائيل شيدت جداراً يتخطى الحدود اللبنانية    حلف الهضبة.. مشروع إسقاط حضرموت الساحل لصالح قوى خارجية(توثيق)    موجة فصل جديدة تطال المعلمين في مناطق سيطرة الحوثي مع استمرار إحلال الموالين    سعر برميل النفط الكويتي يرتفع 1.20 دولار ليبلغ 56.53 دولار    مخاطر التهريب والفوضى في حضرموت... دعم المجرم شراكة في الجريمة    إعلان الفائزين بجائزة السلطان قابوس للفنون والآداب    اكتشاف 570 مستوطنة قديمة في شمال غرب الصين    هيئة مكافحة الفساد تتسلم إقراري رئيس الهيئة العامة للاستثمار ومحافظ محافظة صنعاء    اختتام بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد على كأس الشهيد الغماري بصنعاء    شبوة أرض الحضارات: الفراعنة من أصبعون.. وأهراماتهم في شرقها    بوادر تمرد في حضرموت على قرار الرئاسي بإغلاق ميناء الشحر    أمن العاصمة عدن يلقي القبض على 5 متهمين بحوزتهم حشيش وحبوب مخدرة    وسط فوضى عارمة.. مقتل عريس في إب بظروف غامضة    لحج تحتضن البطولة الرابعة للحساب الذهني وتصفيات التأهل للبطولة العالمية السابعة    انتشال أكبر سفينة غارقة في حوض ميناء الإصطياد السمكي بعدن    قرار مجلس الأمن 2216... مرجعية لا تخدم الجنوب وتعرقل حقه في الاستقلال    دائرة التوجيه المعنوي تكرم أسر شهدائها وتنظم زيارات لأضرحة الشهداء    يوم ترفيهي لأبناء وأسر الشهداء في البيضاء    مجلس الأمن يؤكد التزامه بوحدة اليمن ويمدد العقوبات على الحوثيين ومهمة الخبراء    خطر المهاجرين غير الشرعيين يتصاعد في شبوة    وزارة الأوقاف تعلن عن تفعيل المنصة الالكترونية لخدمة الحجاج    "الشعبية": العدو الصهيوني يستخدم الشتاء "سلاح إبادة" بغزة    الأرصاد: أجواء باردة إلى شديدة البرودة على المرتفعات    مدير مكتب الشباب والرياضة بتعز يطلع على سير مشروع تعشيب ملاعب نادي الصقر    شركة صقر الحجاز تثير الجدل حول حادثة باص العرقوب وتزعم تعرضه لإطلاق نار وتطالب بإعادة التحقيق    عمومية الجمعية اليمنية للإعلام الرياضي تناقش الإطار الاستراتيجي للبرامج وتمويل الأنشطة وخطط عام 2026    بيريز يقرر الرحيل عن ريال مدريد    تنظيم دخول الجماهير لمباراة الشعلة ووحدة عدن    فريق DR7 يُتوّج بطلاً ل Kings Cup MENA في نهائي مثير بموسم الرياض    مقتل وإصابة 34 شخصا في انفجار بمركز شرطة في كشمير الهندية    معهد أسترالي: بسبب الحرب على اليمن.. جيل كامل لا يستطيع القراءة والكتابة    ضبط وكشف 293 جريمة سرقة و78 جريمة مجهولة    مليشيا الحوثي تستحدث أنفاقا جديدة في مديرية السياني بمحافظة إب    مؤسسة الكهرباء تذبح الحديدة    وديا: السعودية تهزم كوت ديفوار    توخيل: نجوم انكلترا يضعون الفريق فوق الأسماء    محافظ عدن يكرّم الأديب محمد ناصر شراء بدرع الوفاء والإبداع    المقالح: من يحكم باسم الله لا يولي الشعب أي اعتبار    الصين تعلن اكتشاف أكبر منجم ذهب في تاريخها    نمو إنتاج المصانع ومبيعات التجزئة في الصين بأضعف وتيرة منذ أكثر من عام    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    حكام العرب وأقنعة السلطة    مي عز الدين تعلن عقد قرانها وتفاجئ جمهورها    الحديدة.. مليشيا الحوثي تقطع الكهرباء عن السكان وتطالبهم بدفع متأخرات 10 أعوام    وداعاً للتسوس.. علماء يكتشفون طريقة لإعادة نمو مينا الأسنان    عدن.. انقطاعات الكهرباء تتجاوز 15 ساعة وصهاريج الوقود محتجزة في أبين    جراح مصري يدهش العالم بأول عملية من نوعها في تاريخ الطب الحديث    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعز ... يوميات الرعب العادي
نشر في يمن برس يوم 01 - 01 - 1970

هل نستطيع أن نمر على يوم ال29 مايو دون أن نبكي.؟ هل نستطيع ونحن متجردين من الانفعال أن نوثق كل ما حدث، وكل ما لم تستطع أجهزة البث والفلاش والكاميرا من عرضه !! هل نستطيع أن نقول فعلاً حدث ما حدث؟ وكنا كغيرنا متورطين بالسذاجة بحيث لم ننتبه لفصول الخيانة التي كانت تصاغ على بعد خطوتين منا؟ هل نستطيع حينما نكتب تاريخ الثورة اليمنية الحالية. أن نمر على هذا اليوم دون أن نتورط قليلاً بالبكاء ودون أن تلاحقنا صدى صرخات الجرحى والمحرقين، والجثث المتفحمة، ورائحة الحرائق والرماد الذي حجب سماء المدينة ؟؟ هل نستطيع بعد ذلك اليوم أن نكون طبيعيين تماما، وننظر لكل مسارات الثورة اليمنية بعين مراقب محايد، لنعتبر أن ما حدث في هذه المدينة كان ضريبة تاريخية لإشعال هذه المدينة شرارة الثورة.
شخصياً لن استطيع ربما لما تبقى من حياتي أن أنسى هول ما جرى، هول الجرائم.. والصمت وهول السكوت عنه، هول ما سمعنا عنه ورأيناه.. وهول ما لم ندونه حتى الآن.
البرابرة أتوا... وفي انتظار البرابرة لم نفعل شيء لندفع الأذى عنا، كنا متسلحين بسلمية مضحكة لا تؤمن بها شرعية الغاب، كنا محتمين بصدورنا العارية، بحناجر باسلة، بكلام كثير كنا نقوله لأنفسنا لندفع الخوف بعيداً، لكن البرابرة حينما أتوا كانوا مدركين أن هذه المدينة، لا تعرف السلاح ولا الرصاص ولا الثأر، وأن أبنائها الطيبين ليس لديهم إله حامي لا الفرقة الخامسة مدرع، ولا بيت الأحمر، وأن القبيلة فيها قلمت أظافرها منذ زمن، وأن القيادات الباسلة فيها ليس لديها كأبنائها سوى الولولة والنواح.
البرابرة أتوا.. زحفوا على أشلاء الجثث ووقع الموت والرصاص والحرائق التي التهمت المخيمات،كان الشباب عزل، بريئين لم يشاهدوا يهوذا وهو يدل عليهم واحداً واحداً، لم يفكروا أن تلك الساحة حيث إمكانات الحياة أكبر مما كنا نعتقد، وحيث إن خلافاتنا الصغيرة على تفاصيل تلك الحياة، وأن الخيانة ستأتي من الظهر، وأن نداء المنصة كان إشارة البدء ليزحف البرابرة. لم ننتبه أننا كنا مخترقين تماما من الداخل، وأن ظهورنا كانت عارية في انتظار النصل ..كنا أغبياء، طيبين، متسامحين مع كل شيء، ولم نقل لهم .. فقط أمهلونا لنلملم الجثث، لنحصي خسائر الحرب، من بقى ومن رحل، لم يتركونا لنلتقط أنفاسنا، حاصروا الجرحى في المستشفيات، وسحلوا الجثث في الساحة.. كانوا أقوياء لأننا مسالمين جدا، لأننا تعزيين جداً، لأن أخلاقنا التي تربينا عليها، لم تجعلنا نؤمن بعقيدة الثأر والقتل والغاب، لأن أبائنا وأمهاتنا ربونا على الحب والتسامح.. لكن كل هذه الأخلاق الحميدة لم تشفع لنا في قاموس همجية النظام وبشاعته، كان يدرك أن هذه المدينة التي اصطفاها الله للرعب الحلقة الأضعف في التسلسل الهرموني لمجد القبيلة والرصاص والثأر.
في ال29 من مايو هرب الجميع ولم يبق سوى أولئك الذين نشاهدهم دائماً في الصفوف الأولى في المظاهرات وفي المسيرات، أولئك الذين هبطوا من كتاب الحياة ليسطروا في تعز أروع ملحمة تاريخية عاشتها هذه المدينة..
كنت وصديقاتي نطل من النافذة على مشهد البربرية اليمنية الجديدة التي دشن مجدها ذلك اليوم لمجموعة من البرابرة من مرتزقة الحرس الجمهوري والأمن المركزي وبلاطجة نواب المحافظة ومدراء العموم، أولئك الذين يعتقدون أن ظل الصنم سيحميهم، وهم لا يؤمن أن لا عاصم لهم اليوم من الثورة، كانت الحرائق تلتهم الشجر والحجر والناس. وكنا نراهم يستبيحون الحياة، يقتلون الأبرياء، ويطاردونهم في الأزقة، ويحاصرونهم في المركز الإعلامي في المدرسة، حبسنا أنفاسنا ونحن نراهم يدورون حول المكان، وكلابهم البشرية تتشمم رائحة الرعب، يتعقبون خط الضوء الفاصل ما بين الليل والفجر.. كان مشهدا مروعا ربما لم يتفق عنها مخيلة هتشكوك ولم نقرأها سوى في معسكرات النازية..
البرابرة لم يتركوا حتى المستشفيات التي تهب الحياة، داهموا مستشفى الصفوة، واعتدوا على الأطباء وملائكة الرحمة، اعتقلوا الجرحى في العناية المركزة ، ثم نهبوا كل محتويات المستشفى وتفيدوا الأجهزة الطبية والأدوية ثم احرقوا المستشفى ، كنا نرى ثقافة الفيد التي تربى عليها أمثال هؤلاء الجند المرتزقة وقد تجلت في أبشع صورها، كانوا ينهبون كل ما عمرناه على مدى أشهر طويلة، كل أشياءنا الجميلة كنا نراها تحمل في سيارات جيب، الثياب، الكمبيوترات، الكاميرات، الفرش، الأغطية، أدوات اللجنة الطبية، أسرة المرضى، المراوح، الثلاجات، التلفزيونات، الهواتف النقالة، والطعام، حتى الجدران الخشبية التي كانت تستخدم كدعائم للخيام رأيناها في معروضات غنام الحرب في بسطات في شوارع المدينة.. يا ألله أي همج هؤلاء البرابرة.. أي عقيدة تربوا عليها.. أي وطن كانوا يعيشون فيه..
حتى الآن لم نستطع حصر عدد الشهداء ،والجثث المتفحمة، والجثث التي لا أهل لها ولا صاحب، والجثث المخفية، والمعتقلين، والناس المخفيين، حتى الآن لم نستطع قياس حجم الدمار الذي تعرضنا له، حجم الخديعة وحجم الموات، حتى الآن يبدو كل شيء مخجلاً كحصيلة أولية للفشل، لم يستطع الإعلاميون والمصورون والمحامون أن يرصدوا ما حدث، حتى الأصداء الإعلامية الداخلية والخارجية للمجزرة، كانت مخجلة، ومحبطة ومثيرة للشفقة، ما حدث في تعز يفوق صدمة جمعة الكرامة التي سببت انهيار النظام، واستقالات أعضاء الحزب الحاكم، لكن تعز الحبيبة، المحاصرة ما بين الجبل والجبل، المدينة التي لا تحدها بحر، ولا قبائل، ولا جيش يحمي، كانت كعادتها مدينة مستباحة، منهكة من الحروب، مدينة خجولة حتى في عرض جراحها، مدينة سلمية حتى في حزنها، حتى وهي تلملم أشلاء أبنائها، وتدفنهم على استحياء في ليل البرابرة..
في تقرير هيومن رايتش عن المجزرة ، بدأت الأرقام محبطة لي، كان تقريرا مستعجلاً، من خضم التقارير التي ستذهب يوما ما إلى المزبلة، وتبقى فقط ذاكرة الرعب حية .. من شاهدها ومن عاشها، ومن استطاع رصد حجم الخراب..
هل مشكلة تعز في سلميتها وتحضرها ومدنيتها.؟؟ هل السلمية والمدنية أصبحت وصمة عار تلحق بأبناء هذه المدينة؟. هل عنفوانها وثقافة أبناءها جريرة في هذا الزمن الحامض، كنت أتساءل مع بعض الزملاء الثوريين الفيس بوكيين الذين لم يدشنوا مجدهم إلا في التندر على سلمية هذه المدينة، وأن عليها أن تذوق مرارة السلم والمدنية وأن عليها الآن أن تخلع رداء المدنية وتكون كغيرها من المدن..
شخصياً سأظل أؤمن أن ما يميز هذه المدينة هي قدرتها على ضبط النفس، والصبر، وعلى المدنية، حتى لو تداعى أبناءها لحمل السلاح، فإنها لاتخرج عن حق الدفاع عن النفس والذي هو حق في الحياة أولاً.
في جمعة الوفاء لأبناء تعز، أثبت أبناء هذه المدينة قدرتهم على الصمود، وأن هذه المدينة عنقاء خرجت من الليل رمادها لتولد من جديد، أقوى من الحياة، أبهى من الحياة، فاستطاع أبناءها إيجاد مساحة أخرى للاعتصام، مساحة كبيرة للكرامة ..
كان يوماً للنصر، وعلى الرغم من انشغال الجميع بحادث اغتيال رأس الأفعى، رأس هذا النظام، وما قيل في هذا الحادث، شخصياً لم يكن يعنيني نبأ اغتياله، أو قتله، وإن كنت اعتقد ولأسباب تخص تاريخ الرئيس الذي قام على الاغتيالات فإن نهايته ستكون بذات الطريقة، لكني كنت أتمنى أن يكون له خروجاً أكثر كابوسية،ً أكثر دمويةً، كنت أتمنى أن أراه يحرق كما أحرقت جثث أبناء تعز، وأن يتم جرف جثته بجرافات، كنت أتمنى أن اسمع عويل أبناءه وبناته في ذلك الليل، حتى يدركوا طعم الفجيعة التي ذاقتها أمهات شهداء مجزرة تعز، أتمنى أن يعيشوا قليلاً من رعبنا الذي عشناه، أن يذوقوا قليل من طعم المهانة والذل والرعب، أن يشعروا بما فعله أبيهم بحق شعب بأكمله ، أن يتفهموا حقد الذين قتل أبناءهم واختفى آباءهم ولم يصلوا إليهم، أن يفهموا معنى أن تكون مطارداً ومهاناً في وطنك فقط لأنك تؤمن أن الوطن ليس حكراً على أحد، وأن الوطن لايختزل بشخص.
كان مضحكاً احتفال البرابرة بخروج رأس الأفعى من المستشفى.. الرصاص والألعاب النارية، والبازوكا، ولأول مرة في حياتي أدرك أي قبح يعيشه هذا الوطن، وأي همجية في نفوس هؤلاء المرضى الذين يحتفلون على أشلاء الجثث المحروقة بنصر وهمي، نصر غبي ستلعنهم كل الأجيال القادمة، لماذا هذا الاحتفال المجاني بعدوانية ستدشن اليوم، وأن بذرة الكراهية لكل ما يمت لهذا النظام من صلة ستظل لصيقة بجلودنا، كل من قتلنا، وكل من شردنا، وأحرق خيامنا من عسكر كل من اصدر الأوامر، كل من تآمر من قيادات هذا النظام في هذه المدينة، كل من هدد أبناءنا ولاحقهم، كل من شرد واعتقل خيرة شبابنا، كل من برر مجزرة تعز من عبده الجندي لطارق الشامي لياسر اليماني للردمي، كل من أطلق وسيطلق الرصاص لترويع الآمنين في هذه المدينة.
ربما يوميات الرعب الذي تعيشه المدينة لا يختلف عن ما تعيشه أبين، هذه المدينة التي هجر أهلها، وشبابها، وأنا أشاهد بالفيديو مشاهد النازحين منها إلا عدن، مشهد مرعب ومخيف، ومخجل، لأن الوسائل الإعلامية الدولية والمحلية، والأقلام والصحف، كانت متواطئة هي أيضاً، ولم تتعامل بإنسانية لما حدث في أبين، وتبنت سيناريو الإعلام الرسمي عن ما يحدث في أبين الحبيبة، أبين التي شرد أبناءها، وسلمت بكاملها لمسلحين القاعدة الذين ربتهم هذه السلطة منذ زمن لهذه اللحظة، حتى تشيع فوضى منظمة، وحتى تنهك الوطن بالمجازر والقتل والاقتتال.
رأيت رعب أهل أبين في عيون الأطباء والمثقفين والمحاميين الذين لجئوا إلى عدن، جحافل حزينة ستصل إلى سقف السماء.. لكن عيوننا للأسف لا ترى سوى جراحنا، وآلامنا، عيوننا مغلقة عن أبين الحبيبة.
في تعز لا أحد ينام، في تعز الرعب له نكهة الحزن والخيبة، والانتظار الطويل.
في تعز البرابرة الآن يجيئون ببياداتهم وأعقاب بنادقهم، بلهجتهم الصنعانية الجافة، بعيونهم الحمراء التي لا ترى سوى مشهد الدم والنار، يمشون في شوارع المدينة، تسبقهم الدبابات والمصفحات، والهراوات، وشرعية القتل والخطف والإكراه، شرعية الهمج اللادستورية أراهم الآن من نافذتي وابتهل إليك " إلهي.. لماذا تركتنا ؟؟
تعز : يوميات الرعب العادي بقلم/ بشرى المقطري
هل نستطيع أن نمر على يوم ال29 مايو دون أن نبكي.؟ هل نستطيع ونحن متجردين من الانفعال أن نوثق كل ما حدث، وكل ما لم تستطع أجهزة البث والفلاش والكاميرا من عرضه !! هل نستطيع أن نقول فعلاً حدث ما حدث؟ وكنا كغيرنا متورطين بالسذاجة بحيث لم ننتبه لفصول الخيانة التي كانت تصاغ على بعد خطوتين منا؟ هل نستطيع حينما نكتب تاريخ الثورة اليمنية الحالية. أن نمر على هذا اليوم دون أن نتورط قليلاً بالبكاء ودون أن تلاحقنا صدى صرخات الجرحى والمحرقين، والجثث المتفحمة، ورائحة الحرائق والرماد الذي حجب سماء المدينة ؟؟ هل نستطيع بعد ذلك اليوم أن نكون طبيعيين تماما، وننظر لكل مسارات الثورة اليمنية بعين مراقب محايد، لنعتبر أن ما حدث في هذه المدينة كان ضريبة تاريخية لإشعال هذه المدينة شرارة الثورة.
شخصياً لن استطيع ربما لما تبقى من حياتي أن أنسى هول ما جرى، هول الجرائم.. والصمت وهول السكوت عنه، هول ما سمعنا عنه ورأيناه.. وهول ما لم ندونه حتى الآن.
البرابرة أتوا... وفي انتظار البرابرة لم نفعل شيء لندفع الأذى عنا، كنا متسلحين بسلمية مضحكة لا تؤمن بها شرعية الغاب، كنا محتمين بصدورنا العارية، بحناجر باسلة، بكلام كثير كنا نقوله لأنفسنا لندفع الخوف بعيداً، لكن البرابرة حينما أتوا كانوا مدركين أن هذه المدينة، لا تعرف السلاح ولا الرصاص ولا الثأر، وأن أبنائها الطيبين ليس لديهم إله حامي لا الفرقة الخامسة مدرع، ولا بيت الأحمر، وأن القبيلة فيها قلمت أظافرها منذ زمن، وأن القيادات الباسلة فيها ليس لديها كأبنائها سوى الولولة والنواح.
البرابرة أتوا.. زحفوا على أشلاء الجثث ووقع الموت والرصاص والحرائق التي التهمت المخيمات،كان الشباب عزل، بريئين لم يشاهدوا يهوذا وهو يدل عليهم واحداً واحداً، لم يفكروا أن تلك الساحة حيث إمكانات الحياة أكبر مما كنا نعتقد، وحيث إن خلافاتنا الصغيرة على تفاصيل تلك الحياة، وأن الخيانة ستأتي من الظهر، وأن نداء المنصة كان إشارة البدء ليزحف البرابرة. لم ننتبه أننا كنا مخترقين تماما من الداخل، وأن ظهورنا كانت عارية في انتظار النصل ..كنا أغبياء، طيبين، متسامحين مع كل شيء، ولم نقل لهم .. فقط أمهلونا لنلملم الجثث، لنحصي خسائر الحرب، من بقى ومن رحل، لم يتركونا لنلتقط أنفاسنا، حاصروا الجرحى في المستشفيات، وسحلوا الجثث في الساحة.. كانوا أقوياء لأننا مسالمين جدا، لأننا تعزيين جداً، لأن أخلاقنا التي تربينا عليها، لم تجعلنا نؤمن بعقيدة الثأر والقتل والغاب، لأن أبائنا وأمهاتنا ربونا على الحب والتسامح.. لكن كل هذه الأخلاق الحميدة لم تشفع لنا في قاموس همجية النظام وبشاعته، كان يدرك أن هذه المدينة التي اصطفاها الله للرعب الحلقة الأضعف في التسلسل الهرموني لمجد القبيلة والرصاص والثأر.
في ال29 من مايو هرب الجميع ولم يبق سوى أولئك الذين نشاهدهم دائماً في الصفوف الأولى في المظاهرات وفي المسيرات، أولئك الذين هبطوا من كتاب الحياة ليسطروا في تعز أروع ملحمة تاريخية عاشتها هذه المدينة..
كنت وصديقاتي نطل من النافذة على مشهد البربرية اليمنية الجديدة التي دشن مجدها ذلك اليوم لمجموعة من البرابرة من مرتزقة الحرس الجمهوري والأمن المركزي وبلاطجة نواب المحافظة ومدراء العموم، أولئك الذين يعتقدون أن ظل الصنم سيحميهم، وهم لا يؤمن أن لا عاصم لهم اليوم من الثورة، كانت الحرائق تلتهم الشجر والحجر والناس. وكنا نراهم يستبيحون الحياة، يقتلون الأبرياء، ويطاردونهم في الأزقة، ويحاصرونهم في المركز الإعلامي في المدرسة، حبسنا أنفاسنا ونحن نراهم يدورون حول المكان، وكلابهم البشرية تتشمم رائحة الرعب، يتعقبون خط الضوء الفاصل ما بين الليل والفجر.. كان مشهدا مروعا ربما لم يتفق عنها مخيلة هتشكوك ولم نقرأها سوى في معسكرات النازية..
البرابرة لم يتركوا حتى المستشفيات التي تهب الحياة، داهموا مستشفى الصفوة، واعتدوا على الأطباء وملائكة الرحمة، اعتقلوا الجرحى في العناية المركزة ، ثم نهبوا كل محتويات المستشفى وتفيدوا الأجهزة الطبية والأدوية ثم احرقوا المستشفى ، كنا نرى ثقافة الفيد التي تربى عليها أمثال هؤلاء الجند المرتزقة وقد تجلت في أبشع صورها، كانوا ينهبون كل ما عمرناه على مدى أشهر طويلة، كل أشياءنا الجميلة كنا نراها تحمل في سيارات جيب، الثياب، الكمبيوترات، الكاميرات، الفرش، الأغطية، أدوات اللجنة الطبية، أسرة المرضى، المراوح، الثلاجات، التلفزيونات، الهواتف النقالة، والطعام، حتى الجدران الخشبية التي كانت تستخدم كدعائم للخيام رأيناها في معروضات غنام الحرب في بسطات في شوارع المدينة.. يا ألله أي همج هؤلاء البرابرة.. أي عقيدة تربوا عليها.. أي وطن كانوا يعيشون فيه..
حتى الآن لم نستطع حصر عدد الشهداء ،والجثث المتفحمة، والجثث التي لا أهل لها ولا صاحب، والجثث المخفية، والمعتقلين، والناس المخفيين، حتى الآن لم نستطع قياس حجم الدمار الذي تعرضنا له، حجم الخديعة وحجم الموات، حتى الآن يبدو كل شيء مخجلاً كحصيلة أولية للفشل، لم يستطع الإعلاميون والمصورون والمحامون أن يرصدوا ما حدث، حتى الأصداء الإعلامية الداخلية والخارجية للمجزرة، كانت مخجلة، ومحبطة ومثيرة للشفقة، ما حدث في تعز يفوق صدمة جمعة الكرامة التي سببت انهيار النظام، واستقالات أعضاء الحزب الحاكم، لكن تعز الحبيبة، المحاصرة ما بين الجبل والجبل، المدينة التي لا تحدها بحر، ولا قبائل، ولا جيش يحمي، كانت كعادتها مدينة مستباحة، منهكة من الحروب، مدينة خجولة حتى في عرض جراحها، مدينة سلمية حتى في حزنها، حتى وهي تلملم أشلاء أبنائها، وتدفنهم على استحياء في ليل البرابرة..
في تقرير هيومن رايتش عن المجزرة ، بدأت الأرقام محبطة لي، كان تقريرا مستعجلاً، من خضم التقارير التي ستذهب يوما ما إلى المزبلة، وتبقى فقط ذاكرة الرعب حية .. من شاهدها ومن عاشها، ومن استطاع رصد حجم الخراب..
هل مشكلة تعز في سلميتها وتحضرها ومدنيتها.؟؟ هل السلمية والمدنية أصبحت وصمة عار تلحق بأبناء هذه المدينة؟. هل عنفوانها وثقافة أبناءها جريرة في هذا الزمن الحامض، كنت أتساءل مع بعض الزملاء الثوريين الفيس بوكيين الذين لم يدشنوا مجدهم إلا في التندر على سلمية هذه المدينة، وأن عليها أن تذوق مرارة السلم والمدنية وأن عليها الآن أن تخلع رداء المدنية وتكون كغيرها من المدن..
شخصياً سأظل أؤمن أن ما يميز هذه المدينة هي قدرتها على ضبط النفس، والصبر، وعلى المدنية، حتى لو تداعى أبناءها لحمل السلاح، فإنها لاتخرج عن حق الدفاع عن النفس والذي هو حق في الحياة أولاً.
في جمعة الوفاء لأبناء تعز، أثبت أبناء هذه المدينة قدرتهم على الصمود، وأن هذه المدينة عنقاء خرجت من الليل رمادها لتولد من جديد، أقوى من الحياة، أبهى من الحياة، فاستطاع أبناءها إيجاد مساحة أخرى للاعتصام، مساحة كبيرة للكرامة ..
كان يوماً للنصر، وعلى الرغم من انشغال الجميع بحادث اغتيال رأس الأفعى، رأس هذا النظام، وما قيل في هذا الحادث، شخصياً لم يكن يعنيني نبأ اغتياله، أو قتله، وإن كنت اعتقد ولأسباب تخص تاريخ الرئيس الذي قام على الاغتيالات فإن نهايته ستكون بذات الطريقة، لكني كنت أتمنى أن يكون له خروجاً أكثر كابوسية،ً أكثر دمويةً، كنت أتمنى أن أراه يحرق كما أحرقت جثث أبناء تعز، وأن يتم جرف جثته بجرافات، كنت أتمنى أن اسمع عويل أبناءه وبناته في ذلك الليل، حتى يدركوا طعم الفجيعة التي ذاقتها أمهات شهداء مجزرة تعز، أتمنى أن يعيشوا قليلاً من رعبنا الذي عشناه، أن يذوقوا قليل من طعم المهانة والذل والرعب، أن يشعروا بما فعله أبيهم بحق شعب بأكمله ، أن يتفهموا حقد الذين قتل أبناءهم واختفى آباءهم ولم يصلوا إليهم، أن يفهموا معنى أن تكون مطارداً ومهاناً في وطنك فقط لأنك تؤمن أن الوطن ليس حكراً على أحد، وأن الوطن لايختزل بشخص.
كان مضحكاً احتفال البرابرة بخروج رأس الأفعى من المستشفى.. الرصاص والألعاب النارية، والبازوكا، ولأول مرة في حياتي أدرك أي قبح يعيشه هذا الوطن، وأي همجية في نفوس هؤلاء المرضى الذين يحتفلون على أشلاء الجثث المحروقة بنصر وهمي، نصر غبي ستلعنهم كل الأجيال القادمة، لماذا هذا الاحتفال المجاني بعدوانية ستدشن اليوم، وأن بذرة الكراهية لكل ما يمت لهذا النظام من صلة ستظل لصيقة بجلودنا، كل من قتلنا، وكل من شردنا، وأحرق خيامنا من عسكر كل من اصدر الأوامر، كل من تآمر من قيادات هذا النظام في هذه المدينة، كل من هدد أبناءنا ولاحقهم، كل من شرد واعتقل خيرة شبابنا، كل من برر مجزرة تعز من عبده الجندي لطارق الشامي لياسر اليماني للردمي، كل من أطلق وسيطلق الرصاص لترويع الآمنين في هذه المدينة.
ربما يوميات الرعب الذي تعيشه المدينة لا يختلف عن ما تعيشه أبين، هذه المدينة التي هجر أهلها، وشبابها، وأنا أشاهد بالفيديو مشاهد النازحين منها إلا عدن، مشهد مرعب ومخيف، ومخجل، لأن الوسائل الإعلامية الدولية والمحلية، والأقلام والصحف، كانت متواطئة هي أيضاً، ولم تتعامل بإنسانية لما حدث في أبين، وتبنت سيناريو الإعلام الرسمي عن ما يحدث في أبين الحبيبة، أبين التي شرد أبناءها، وسلمت بكاملها لمسلحين القاعدة الذين ربتهم هذه السلطة منذ زمن لهذه اللحظة، حتى تشيع فوضى منظمة، وحتى تنهك الوطن بالمجازر والقتل والاقتتال.
رأيت رعب أهل أبين في عيون الأطباء والمثقفين والمحاميين الذين لجئوا إلى عدن، جحافل حزينة ستصل إلى سقف السماء.. لكن عيوننا للأسف لا ترى سوى جراحنا، وآلامنا، عيوننا مغلقة عن أبين الحبيبة.
في تعز لا أحد ينام، في تعز الرعب له نكهة الحزن والخيبة، والانتظار الطويل.
في تعز البرابرة الآن يجيئون ببياداتهم وأعقاب بنادقهم، بلهجتهم الصنعانية الجافة، بعيونهم الحمراء التي لا ترى سوى مشهد الدم والنار، يمشون في شوارع المدينة، تسبقهم الدبابات والمصفحات، والهراوات، وشرعية القتل والخطف والإكراه، شرعية الهمج اللادستورية أراهم الآن من نافذتي وابتهل إليك " إلهي.. لماذا تركتنا ؟؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.