في مجتمع اختلفت فيه الرؤى، وتبدلت فيه الأدوار، أصبح لزاماً على كل فرد فيه أن يتحلى بالمرونة، وأن يحاول التكيف حتى في أكثر المساحات الاجتماعية حرجاً وفوضى .سوق العمل من تلك المساحات الاجتماعية التي لا تحكمها أعراف أو قيم محددة، لأن له مقاييساً أو معاييراً محايدة تعتمد بشكل أساسي على البراعة في التبرير والقدرة على الاندماج مع طبقية السوق متفاوتة الرؤى، والمعتمدة على مبدأ القياس المادي والخبرة الوافرة.اليوم، ونتيجة للخلل الحادث في بنية الوطن الاقتصادية التحقت المرأة بسوق العمل، وأصبحت يداً عاملةً فيه وله.
فهي ليست فقط في صفوف القوى العاملة فيه، وإنما تتحول يوماً بعد يوم إلى سيدة أعمال ناجحة ، لها رؤيتها التجارية الخاصة وأسلوبها الإداري المختلف كثيراً عن أسلوب الرجل في إدارة مشاريعه الخاصة ، إلا أنه يبقى أكثر محاكاةّ للواقع المعيشي المرير الذي تعاني وطأته المرأة محدودة، أو معدومة الدخل . نتناول اليوم عينة نسائية من طبقة النساء العاملات في ميدان المجتمع ، ونقترب شيئاً فشيئاً من أسباب تدفع بنساءٍ كثيرات إلى الخروج من دائرة الخوف والعزلة الوظيفية، والالتحاق بسوق العمل المحلية الاستهلاكية لتوفير لقمة العيش المغلفة بالشرف ، وإن كانت ممزوجة بشتى أنواع الإهانة والتعب . النساء العاملات في المطاعم اليوم ظاهرة مجتمعية لم تكن موجودةً بالأمس ، نعم هن يعملن في الأقسام الخاصة بالعائلات كمباشرات، وفي خدمة نساء من بنات جنسهن، لكنهن أيضاً يعملن ضمن إدارة ذكورية 100% ، ويتعاملن مع زبونات من كل شكلٍ ولونٍ وفئة أو طبقة اجتماعية ، فما هي دوافعهن للعمل في المطاعم ، وكيف ينظر صاحب المطعم للمرأة ال(جرسون) أو المُباشرة؟ وهل هناك رضا وظيفي لدى هذه المرأة أم لا ؟ بل هل تحصل على استحقاق مادي يوازي استحقاق الرجل العامل في ذات المهنة ؟!...أسئلة كثيرة وأسباب عديدة نتعرف عليها خلال جولتنا التالية في بعض المطاعم التي تعمل فيها المرأة .
مضايقات النساء أكثر !!
" م.س. الريمي " كنت في الصف السادس الابتدائي حين انفصل والداي عن بعضهما، ولم يكن لدينا أي عائل أنا وأمي وشقيقتي الصغيرتين، وهذا ما دفع والدتي للعمل في البيوت ، لكن بعد أن مرضت أمي وساءت حالتها الصحية، اضطررت للعمل في أول كافيتريا نسائية في شارع 26، والتي تحولت فيما بعد إلى مطعم، ولازلت أعمل هناك، ولا أرى أي عيب في ذلك، لكن المضايقات التي أجدها من النساء يفوق ما أجد من الرجال، حيث تقتلني كلماتهن ونظراتهن لي وكأنني ارتكبت خطأ ، أو كأنني اخترت لنفسي هذا المصير ، لكنني أثق أنني لا أفعل ما يستحق التجريم، وعلى الأقل أنام وأنا راضية عن نفسي .
بدلاً من التسول والسرقة
"مفيدة.. " : كان زوجي يعمل في هذا المطعم، ولكنه توفى، وأصبحت غير قادرة على توفير متطلبات الأولاد ، فطلبت من صاحب المطعم أن يسمح لولدي الذي لا يتجاوز العاشرة بالعمل مكان والده ، لكن الرجل رأى أن هذه المهنة أكبر من سن الولد وقدرته، فعرض عليّ أن أعمل في جناح العائلات، وقد كان قراراً صعباً بالنسبة لي، فأنا لم أعمل في أي مكان من قبل، لكن ظروف الحياة تجبر لإنسان أحيانا على القبول بأشياء لم يكن يتوقعها .. وتضيف: أجد بعض التحرشات من الزبائن، سواءً كانوا رجالاً أم نساء، لكن تمسكي بالعمل من أجل أطفالي يمنعني من الدفاع عن نفسي ، أو حتى إشعار صاحب المطعم بذلك، ولهذا أغض الطرف عن أي جرح أو إهانة أو تحرش، وأعيش كأني خالي' من المشاعر حفاظاً على وظيفتي، حتى أستطيع تربية أولادي ، فالحياة صعبة ، ولا أريدهم أن يتركوا مقاعد الدراسة ، حتى لا يخسروا مستقبلهم .والحمد لله صاحب المطعم متعاون معي جداً، ولا يقصِّر في مساعدتي عندما أحتاج لأي شيء، وأعتز بنفسي لأني أعمل بدلا من أن أتسول أو أسرق ، أو أفعل ما يغضب الله ، هذا قدري وأنا راضية به .
أجر زهيد !
" س.ا.ع ":بما أن صاحب المطعم امرأة فقد قررتْ أن يكون الطاقم الذي يعمل في المطعم من النساء ، ففي الخلف هناك ثلاث نساء ماهرات في الطهي، وأنا وزميلتي الأخرى هنا للمباشرة ، وأنا أستمتع بعملي هنا ، ولا يوجد لدي مشكلة تخص عملي كمباشرة ، لكن الأجر الزهيد الذي نحصل عليه والذي لا يتجاوز 8 ألف ريال يشعرنا بالإحباط ، خاصة وأن لكل واحدة منا عائلة ودور الرجل فيها معدوم تماماً ، بل إن إحدانا وبعد يوم عمل شاق قد تجد في البيت من الضرب والإهانة والمعاملة السيئة ما لا يتصوره أحد .. وتؤكد:ظروف الحياة صعبة جداً، ولانملك أن نغير واقعنا ، غير أننا نبذل كل جهد لنستطيع الوقوف أمام الآخرين، وإن كانت قلوبنا تحترق من الداخل.زميلتي مصابة بمرض خطير، ولا تملك والدتها أن تداويها ، وهي تحكم على نفسها بالموت البطيئ ، كما قال لها الطبيب ، حيث كان ينبغي أن تخلد للراحة، وأن لا ترهق نفسها، لكن كما قالت الحياة صعبة جداً.
لا يوجد أمان !!
الخالة " أم عادل ":كنت أعمل في منزل أحد رجال الأعمال، وقد عرض عليَّ يوماً أن أخفف من الحمل الثقيل عن كاهلي وأزوج ابنتي على رجل مغترب ، وقد حصل على جنسية أخرى، فقبلت بتزويجها من ذلك الرجل الذي أبقاها في السعودية لمدة عام، ثم قام بضربها وإخراجها لليمن وليس لديها إلا ما يسترها من الثياب وطفل صغير لا ينفق عليه والده ريالاً واحداً .. وتواصل اضطررت لترك بيت الرجل الذي كنت أعمل عنده لكثرة ما أجده من المعايرة والعتب، وعملت في عيادة طبيبة نسائية ، ثم انتقلت إلى هذا المطعم لأعمل مباشرة . لدي ثلاث بنات وولدان شابان ، وجميعهم لم يتلقوا تعليماً كافياً، لهذا يعمل أحد الولدين على دراجة صديقه، والآخر ذهب إلى السعودية عن طريق التهريب، ولا أعلم عنه أي شيء منذ ستة أشهر.ما يزعجني أنني لا أشعر بالأمان كما كنت في السابق، فالناس أصبحوا متوحشين وأضطر للذهاب إلى المنزل مبكراً خوفاً على بناتي وعلى نفسي.
أحصل على البقشيش
عشت سنوات طويلة من المرارة والألم مع زوجة أبي التي جعلتني أبدو أكبر من عمري الحقيقي بكثير، وعندما سمحت لي الظروف -بعد موت والدي- بالدخول إلى المدينة، وقبل ثلاث سنوات تحديداً فكرت بالبحث عن عمل بدلاً من العيش عالة على " عمة والدي" التي احتضنتني لديها قبل أن تتوفى هي الأخرى قبل عام واحد فقط .أنا الآن وحيدة، وأعيش مع بنات عمة والدي في بيت قديم جداً ، وكل واحدة منا تتكفل بطعامها وشرابها، فكلنا تقريباً في نفس مستوى الحاجة للعمل .صاحب الكافيتريا يمنحني وجبتي طعام فقط، بالإضافة إلى 8 ألاف ريال كراتب، لكنني أحصل على البقشيش من زبونات البوفية اللاتي يرأفن بي ، ويحاولن التخفيف عني أحيانا ببعض الكلمات مما يشعرنني أن الدنيا بخير ، لكنها تبقى مجرد كلمات لا تُطعم من جوع ، ولا تروي ظمأ .
رغم سخرية النساء سأظل أعمل
دعاء الشرعبي : درست إلى الصف السادس، ثم انفصلت والدتي عن والدي، وتزوج والدي بامرأة أخرى، ولم يعد يُنفق علينا . عمل أخي الأصغر على عربة صغيرة لبيع الحلوى، وعملت أنا في منزل أستاذة جامعية، وحين انتقلت الأستاذة للسكن في صنعاء، لم أجد مكاناً أعمل فيه إلا هذه الكافيتريا بعد توصية من الأستاذة لصاحبها بأن يقبلني للعمل عنده في جناح العائلات .لكنني غير مرتاحة من نظرات بعض الزبونات، بالإضافة إلى أن بعضهن يطلقن أحيانا كلمات السخرية والاستهزاء التي تهين كرامتي وكأنني أنا من اختار أن يعمل ، أو حتى يخرج من البيت . أتمنى أن أعود للدراسة، فقد كنت متفوقة، وكانت الأستاذة التي عملت لديها قد ساعدتني في تعلم القراءة والكتابة بشكل جيد، كما أنها ساعدتني في حفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم ، لكنها رحلت وتركتني لهذه السخرية التي أعاني منها. والمهم هو أني لا أمد يدي لأحد، وأن أمي راضية عني وتحيطني بدعائها ، وخوفها عليّ لايتوقف.
نتعرض للتحرش
" ف.أ.س " : توفى والدي أيام الثورة، وكان يعمل في فُرن، فاضطررت وأختي للبحث عن عمل، لأن لدينا أربعة إخوة صغار ، ووالدتنا ليست متعلمة ،أنا عملت مباشرة في هذا المطعم، وأختي تعمل فراشة في مكتب لكننا نحب التعليم، ونحاول أن ننتسب العام القادم، لأن العمل يعرضنا للكثير من السخرية والتحرش، بالإضافة إلى أن أجره زهيد جداً أمام ما نبذل من جهد منذ الثامنة صباحاً وحتى السادسة مساءً، إضافة إلى إمكانية الطرد والاستغناء في أي لحظة .. وتضيف: نحاول أن نتعلم وندرس أثناء دقائق الراحة التي نجدها على مدار اليوم ، وإن كانت بعض الزبونات يسخرن منا ، وينظرن إلينا نظرة ارتياب ، إلا أن لدينا "أنا وأختي" أمل كبير في أن نتعلم ونحسّن من مستوانا، ونكسر نظرة الازدراء في عيون الناس.
لا عدالة ولاقانون !
" أم يوسف ": كنت أعمل في مطعم آخر، وكان صاحب المطعم يقدم وجبات بائتة، بالإضافة إلى أنه يغش الزبائن في بعض الأشياء، كالسلطة غير المغسولة مثلاً ، والسحاوق المخفف بالماء ..كثير من الزبونات كن يُلفتن نظري إلى بعض تلك الأصناف، وحين كنت أخبره يغضب، ويتهمني بالتقصير، وفي يوم وبشكل مفاجئ قال لي :هذا باقي حسابك، ومع السلامة أنتِ تطيّري علينا الزبائن ! وبقيت فترة في المنزل إلى أن وجدت هذا العمل، صاحب المطعم هنا طيب جداً، ولكن مهما كانت طيبة أصحاب العمل، فهم لا يتقبلون الانتقاد، ولا يُثمنون الجهد المبذول، والرواتب لا تكفي حتى لتغطية المواصلات من المنزل إلى المطعم يومياً.. وأضافت: استغرب كثيراً على هذا الحال، الكل ينادي بالديمقراطية ونسمع الكثير ممن يتحدث عن حقوق المرأة، فأين حقوق المرأة ؟!ما موقف القانون منّا ؟!هل يرضى القانون عن أم في مثل سني تعمل بهذا الأجر الزهيد لإطعام شباب وشابات لاعمل لديهم ولا شهادة، ووالدهم حُر، ويعيش مع امرأة أخرى، وينفق على أبنائها ؟!أين هي العدالة ؟ وأين هو القانون؟!