وسط تزايد المؤشرات على تغيير بارز في سياسة تركيا الخاصة بعلاقاتها مع دول الجوار، وتعاملها مع قضايا منطقة الشرق الأوسط، كشفت مصادر في أنقرة لصحيفة الحياة اللندنية، أن التغيير يرتبط بقرار مجلس الأمن التركي خلال اجتماعه الدوري الشهر الماضي، الذي منح أولوية للعب البلاد دور "الممر الآمن للطاقة" من المنطقة إلى الاتحاد الأوروبي وأوروبا الشرقية، والذي اختارته بعد انتهاء الحرب الباردة في التسعينات من القرن العشرين، قبل أن تتراجع عنه للتركيز على العلاقات مع الشرق الأوسط، في إطار ما سمي ب "العثمانية الجديدة"، والتحالف مع التنظيمات الإسلامية. ويفرض ذلك تغييرات جذرية في السياسة الخارجية لتركيا للتقارب مع دول الجوار، من أجل ضمان مرور خطوط الغاز المستكشف حديثاً شرق البحر المتوسط وشمال العراق عبر أراضيها إلى أوروبا، علماً أن هيئة المسح الجيولوجية الأميركية قدّرت عام 2010 وجود 3455 بليون متر مكعب من الغاز و1.7 بليون برميل من النفط قبالة سواحل إسرائيل وقطاع غزة وقبرص وسورية ولبنان. وتشمل التغييرات وضع أنقرة خططاً جديدة لمد الجسور مجدداً مع مصر، وبناء علاقات جيدة مع سورية "الجديدة" في مرحلة ما بعد مؤتمر "جنيف– 2"، إضافة إلى استعجال المصالحة مع إسرائيل وتحريك الملف القبرصي. كما يجب أن توطد علاقاتها مع إقليم كردستان العراق وبغداد، وان تفسح في المجال مجدداً أمام مشاريع الغاز الإيراني التي بقيت، رغم الضغوط الغربية السابقة على تركيا تنفيذاً للعقوبات الدولية التي فرضت على طهران بسبب برنامجها النووي.
مصر تفشل مشروع أردوغان وطردت مصر السفير التركي، وخفضّت مستوى التمثيل الدبلوماسي مع أنقرة على خلفية الانتقادات المستمرة من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان المتعلقة بالحكومة المصرية الانتقالية التي تتولى تسيير شؤون البلاد بعد إطاحة محمد مرسي المدعوم من قبل الإخوان المسلمين. ويعكس القرار التداعيات المنجرة عن محاولة أردوغان لعب دور قيادي في الشرق الأوسط. ولطالما شكّلت عقيدته الداعمة لتنظيم الإخوان المسلمين، دافعا إضافيا له للتأثير في قرارات الأحزاب الإسلامية عبر دول العالم العربي، من أجل إعادة إطلاق التأثير الإقليمي القوي السابق لبلاده. لكن ذلك المخطط سقط في الماء. وعلى غرار مصر، تبدو تركيا الآن في سجال، إن لم يكن خلافا، مع غالبية دول مجلس التعاون الخليجي والجزائر وإسرائيل والأردن والمغرب وجارتيها إيرانوالعراق. كما أنها لا تحظى بثقة روسيا فضلا عن كون الولاياتالمتحدة باتت تتجاوزها في سياساتها ومواقفها. أما أوروبا فتشعر بخيبة أمل إزاء تنامي انعزال الدولة التي تعدّ جسرا بين الشرق والغرب. ولفكّ عزلتها الاختيارية، بدأت تركيا في الآونة الأخيرة، تحاول تعزيز علاقاتها مع الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني وكذلك مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وزار وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بغداد حيث التقى شخصيات سنية وشيعية كما أنه يحاول ربط واستثمار العلاقات مع إيران. وترغب أنقرة في أن تساعدها كل من طهران وبغداد على احتواء تداعيات سياستها بشأن سوريا وأقلها تخفيض نسبة اللاجئين السوريين على حدودها التي تبلغ 910 كلم. وليس من المرجح أن ينجح تغيير الوجهة الجديدة في إصلاح التوترات، على نحو مستمر لاسيما أن دول المنطقة تشتبه في أن تركيا تتعامل مع تطورات الأوضاع وليس على أساس سياسة خارجية صلبة ومتوازنة. كما أنّ اتخاذ أنقرة لمواقف في السابق بكيفية سريعة، إن لم نقل متسرعة، ومن ضمنها موقفاها العدائيان إزاء نوري المالكي وبشار الأسد، سيعزز على الأرجح قناعة تلك الدول. وقبل سنتين فقط، في عزّ الربيع العربي، كان رجب طيب أردوغان يحظى بشعبية جارفة بين العرب، حيث أظهرت نتائج استطلاع قامت به "مؤسسة زعبي" أن شعبية رئيس الوزراء التركي تصل إلى 80 بالمائة في المغرب وما لا يقل عن 90 بالمائة في كل من المملكة العربية السعودية ولبنان. لكن تلك النسب تضاءلت وتظهر الاستطلاعات الحديثة انحسار شعبية أردوغان وبلاده. ولم يعد العالم ينظر لتركيا على أنها مثال للديمقراطية التعددية والحقوق المدنية والتنمية الاقتصادية إثر الاستخدام غير المتوازن للأمن ضد تظاهرات ساحة تقسيم السلمية منتصف العام. أما منظمة "مراسلون بلا حدود" فيضعون تركيا في المركز 154 من حيث حرية الصحافة مقارنة بالمركز 98 قبل أعوام. وإضافة إلى ذلك، تصل مرحلة الرفاه الاستهلاكي والطفرة الاقتصادية إلى جزئها الأخير، وهو ما يترجمه "النسق متسارع البطء" في مؤشرات التنمية والذي بات عادة جديدة في البلاد، مثلما تشير إلى ذلك أرقام صندوق النقد الدولي، بحيث يتعين عليها اتخاذ إصلاحات هيكلية عاجلة لا تبدو ممكنة على المدى المنظور. ورغم الوضع الجديد الذي تجد تركيا نفسها فيه، إلا أنّ موقعها الجغرافي وعضويتها في "الناتو" يعنيان أنه من غير الممكن تجاهلها في الشرق الأوسط. ولكن الحقيقة الجديدة تبدو بعيدة تماما عن "اليوفوريا" والآمال التي علقها العالم على تركيا خلال العقد السابق والتي كانت تؤشر على ميلاد قوة إقليمية وكونية.