عندما حلّ مشروع "قطر الحديد" مكان مشروع السكّة الحديد، عرف اليمنيّون لأوّل مرّة في حياتهم قيمة الطاقة، وأصبحت عبارة "اهربوا من تحت الطاقة" أهمّ عبارة تقولها للي تحبهم، وتخاف عليهم. والحكاية بسيطة. بعد أسبوع واحد فقط من بدء عمليّات عاصفة الحزم، عشية الخامس والعشرين من مارس سنة 2015، كانت أمّي، البالغة من العمر ستّين سنة، ممدّدة على فراشها تشوف السهرة ولا الأميرة "نورا" زيها، وفجأة شفتها وهي تنبع سع "الربل" لما يطير تفتح الطاقة، خوفاً من ضغط الانفجارات، لكن الذي حدث كان ظريفاً، لم يكن هناك طائرة تضرب ولا هم يحزنون، بل كان صوت هبوب الريح يرج "الطاقة" النافذة التي تنام تحتها، لكن قد هي "ناكزة" من أصله. الأمر ذاته تكرّر معي في السوق، كنت أشتري بعض المقاضي من مكان مزحوم في السوق، وفجأة سمعنا أصوات رعيد، ومادريت إلّا والناس تهرب ساع السيل، وهربت من جيز الهاربين. كنت أجري معهم وأنا أسأل أيش في؟ وكلهم يهربوا ولا احد داري أيش في. وفيما كنا مواصلين الهرب من شدّة الصوت الذي سمعناه، خرجنا إلى شارع فرعي مقابل السوق، وشفت غبار يتصاعد من خلف شاحنة كبيرة، كانت تنفل حمولتها من الصخور، وسائق الشاحنة الظريف يسألنا: ليش تهربوا؟ افتجعتم؟ رديت عليه كمن يدافع عن مشاعر الهاربين: لا ما افتجناش، "نكزنا" بس. طبعا اللي فاكدني صحيح ومجنن خاطري، هو أن السيّد "مارك"، رغم احترامي الشديد له، يعتقد أن "النكز" خصوصية يتمتّع بها الفيس بوك حقّه، وهذا طبعاً مش صحيح أبداً. النكز موجود عندنا في اليمن من قبل أيّام الرسول ياحبوب. تقولي كيف؟ أقولك الحكاية باختصار. كنّا من قبل شعبا مرفّها، ومعانا جنّة عن شمال، وجنّة عن يمين، ومافيناش طافة للضجة. نبع لنا في أوّل الأمر الغزو الحبشي الأوّل و" نكز أبتنا"، وقمنا على أثرها نجري ونحن نصيح ما هو ما وقع؟ قالوا "الفيلة" حقّ أبرهة الحبشي هرولت لاعندنا. وكانت تلك أوّل نكزة لنا في التاريخ، وعُرفت بمرحلة "النكز بالفيلة"، واعتُبر سيف بن ذي يزن أوّل ملك "ناكز" استدعى الفرس ليساعدوه على طرد الأحباش والفرس ماقصّروش معانا أبداً، أخرجوا من سجونهم عددا مهولا من المجرمين واللصوص، وأرسلوهم يحرّروا اليمن ويقاوموا الغزاة، وهي ماعرفت، آنذاك، بمرحلة النكز بالمقاومة. وفي هذه المرحلة من التاريخ، كلّ رئيس كان يحكم البلاد وهو "ناكز" من المقاومة، والمقاومة "ناكزة" من السلطة، والشعب "ناكز" منهم الاثنين. ثم انتقلت اليمن، من بعد ذلك، إلى النكز "بالعكفة"، وكان الأئمّة يرسلون عكفتهم إلى بيوت المواطنين اللي أوّل مايشوفوا العكفي حقّ الإمام يدقّ باب أحدهم، "ينكزوا"، حتّى قامت الجمهوريّات مطلع الستينيّات من القرن الفائت، وانتقلنا من مرحلة النكز بالفيلة وبالمقاومة وبالعكفة إلى مرحلة النكز ب"العسكر". ثمّ تطوّر النكز بالعسكر إلى النكز ب"الطقم"، وأصبح من الشائع إنّك لما تقول لأيّ مواطن "الطقم جاء" ينكز ويهرب. وخلال مرحلة الجمهوريّات، تطوّرت أشكال النكز كثيراً عندنا، لكنها لم تتعدّ قوارح البنادق وقاذفات 12/7. ومع اقتحام الحوثيّين للعاصمة صنعاء، بدأ عهد الرخاء الحقيقي، وانتقلنا بسلاسة من مرحلة النكز بالرصاص إلى النكز بالآربيجي، ومن مرحلة النكز بالطقم إلى مرحلة النكز ب"الشاص". وتنوّعت، في هذا العهد، مصادر "النكوزة"، حتّى جاءت طائرات عاصفة الحزم، وانتقلنا بسرعة من الرخاء إلى "الأرخى". واليوم، والحمد لله، مافيش في المنطقة كلّها شعب يمشي في الشارع، وهو "ناكز" من الأرض ومن السماء، مثلنا أبو يمن. وذلحين نشتي لنا كم لمّا نتباخر من فجيعة طائرات الحزم. قد حتّى الريح لاهفهفت بالليل "ننكز"، ونقول: أهه، حلقت يوم الجن. وأنا بصراحة زعلان على أمّي اللي كملوها "نكوزة"، وماخلّوهاش تشوف السهرة وهي آمنة، وأفكّر أعمل حملة فيسبوكية تحت اسم "نكزوا أم محمّد بن سلمان"، باعتبارها فاقت كلّ عمليّات النكز اللي عرفها اليمنيّين في التاريخ القديم والحديث. تخيّل يا محمّد بن سلمان لو واحد ينكز أمّك قدّامك، ومايخليهاش تشوف السهرة؟ إيش باتفعل معاه؟ سم وأنا بوك. * موقع العربي الجديد