يراودني اعتقادٌ مزمنٌ بأنني على الكوكب الخطأ.. لا أزال أبحث عن ذاتي التي ضاعت على غفلة منّي في زحمة المدينة وصخب الأسمنت وأنهار الإسفلت التي تفرش طريقي بالسواد. المدينة التي تفصل الغبار عن الزنجبيل..المدينة التي يذوي فيها كل شيء طازج وطري.. حتى الماء يموت واقفاً بحسب التاريخ المدوّن على صدر القنينة الآسنة!! كلُّ شيء في المدينة معلَّب: الضوء.. الهواء.. الحرارة.. الخبز.. النشاط والطاقة. حتى الرجولة أصبحت مُعلَّبة في أقراص رُسِمَتْ على أغفلتها صورٌ لحيوانات الغابة- الضخمة والمفترسة - كتعبيرٍ أخرق عن القوة والرجولة!! لا أزال معلَّقاً ك "حجر أساس" بين أن أكون أو لا أكون... في المدينة:الأشجار لا تعرف أحداً.. الليل مُصفد بالقناديل.. المستشفيات مقابر مُؤثَّثة .. الحزن كبسولات تُوزَّع في المآتم.. النساء يُكافحن أمومتهنَّ بحبوب المنع!! وأخريات استبدلن أثداءهنَّ بعُلبٍ معدنية يُرضعن أطفالهنَّ منها حليباً جافّاً يحتوي على جميع الفيتامينات عدا عاطفة الأُمّ ودفء صدرها!! ها أنذا أتفقَّد وجهي في المرآة كُلَّ صباح..تراودني الظنون بأنني لستُ أنا..فأتوسَّلُ إلى المرآة أن تحفظ ملامحي في ذاكرتها بعد أن فشِلَتْ ذاكرتي في استيعابي!! أبحثُ عن نفسي كما تبحث النساء عن الدمعة في عروق البصل.. أسألُ عنّي مرايا الحلاَّقين، ومقاعد الحافلات، وإشارات المرور التي لا تُرينا إلاَّ العين الحمراء.. وأُقبِّلُ كُلَّ أعقاب السجائر- التي أجمعها من الشوارع- علِّي أجدُ شفتيَّ في واحدٍ منها. ينتابني الفزع كُلَّما وجدتُ شعرةً طويلةً في الرغيف- مع أن الخبَّاز رجلٌ- وكُلَّما هممتُ بإخراجها أحسُّ بشعرةٍ أطول منها تتلوَّى في عجينة الروح.. فأضعُ الرغيف بيدٍ مفجوعةٍ خشية أن يكون بينهما اتفاقٌ غير مُعلن.