قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    رواية حوثية مريبة حول ''مجزرة البئر'' في تعز (أسماء الضحايا)    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    جامعي تعزّي: استقلال الجنوب مشروع صغير وثروة الجنوب لكل اليمنيين    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    ما الذي يتذكره الجنوبيون عن تاريخ المجرم الهالك "حميد القشيبي"    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    الزندان أحرق أرشيف "شرطة كريتر" لأن ملفاتها تحوي مخازيه ومجونه    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    تشيلسي ينجو من الهزيمة بتعادل ثمين امام استون فيلا    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    الشيخ الأحمر: أكرمه الأمير سلطان فجازى المملكة بتخريب التعليم السعودي    إصابة شخصين برصاص مليشيا الحوثي في محافظة إب    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    اختطاف خطيب مسجد في إب بسبب دعوته لإقامة صلاة الغائب على الشيخ الزنداني    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    أسفر عن مقتل وإصابة 6 يمنيين.. اليمن يدين قصف حقل للغاز في كردستان العراق    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفرار إلى الموت.. قصة نزوح أمواج البشر من الجنوب للشمال
نشر في يمن فويس يوم 28 - 08 - 2023

كالمستجير من الرمضاء بالنار. هذا هو حال الساعين إلى الهجرة أو اللجوء أو النزوح أو أياً كان المسمى التقني، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
وإذا كانت صورة الطفل السوري الذي قضى غرقاً مع عائلته في رحلة الهروب من جحيم الحرب إلى أوروبا، قد أطلقت موجة عالمية من التعاطف أدت إلى أن تفتح أوروبا أبوابها لموجة مليونية من اللاجئين السوريين عام 2015، فإن الموقف الآن مختلف تماماً.
فموجات الهجرة من الجنوب تزداد بشكل لافت، لكن أبواب أوروبا موصدة في وجه المهاجرين، شرعيين كانوا أو غير شرعيين، فقد أصبح ملف الهجرة، أو لأغراض الدقة "ملف تنظيم الهجرة"، أصبح القضية الرئيسية في أي انتخابات أوروبية، محلية كانت أو عامة، خلال السنوات الأخيرة.
لكن عالم 2015 ليس هو عالم 2023، والمؤكد أن الأخير أكثر قسوة على هؤلاء المستجيرين من الرمضاء بالنار! فالحرب فقط لم تعد السبب الوحيد للهروب من أوطان ضاقت بأهلها وقست عليهم، إذ زاد التغير المناخي الطين بلة، وتعددت أسباب محاولات الهجرة، حتى وإن كانت فرص النجاة ضئيلة.
لكن موقف أوروبا نفسه تغير أيضاً، فالهم الأكبر لسياسييها أصبح كيفية سد الأبواب في وجه الساعين إلى الهجرة إليها، فأين الملاذ؟ ومن الجاني؟ أسئلة كثيرة من الصعب القفز بحثاً عن إجابات لها دون أن نقف على أصل القصة وجذورها، فمعرفة الأسباب لا غنى لها في رحلة البحث عن إجابات أو حلول.
البداية.. أسباب الهجرة إلى أوروبا
الهجرة عبارة عن نشاط بشري طبيعي ممتد على امتداد التاريخ الإنساني. وأسباب الهجرة مرتبطة بالبحث عن الأمن أولاً، أي الانتقال من بيئة غير آمنة لحياة البشر إلى بيئة أكثر أمناً، والسبب الثاني مرتبط بلقمة العيش وسبل الحياة، فقد يترك الإنسان وطنه إذا ما ضاقت به سبل الحياة ويبحث عن مكان آخَر أكثر وفرة في الموارد وفرص العمل.
فالهجرة موجودة منذ فجر التاريخ الإنساني، وفي قديم الزمان كان الإنسان البدائي ينتقل من مكان لآخر باستمرار بحثاً عن الغذاء أو للصيد البحري والبرّي. ومع تطور الإنسان وحياته، تغيّرت أسباب هجرته، فأصبح ينتقل من مكان لآخر باحثاً عن الأراضي الخصبة للزراعة ولكي يبني حضارات جديدة.
وانطلاقاً من هذه الثوابت، مر التاريخ البشري بموجات من الهجرة شملت جميع أركان الكرة الأرضية، سواء العالم القديم –إفريقيا وآسيا وأوروبا– أو العالم الجديد: الأمريكتين وقارة أستراليا. وتختلف موجات الهجرة باختلاف الدوافع المسببة لها، ومن ثم تختلف اتجاهاتها.
وقد شهد العالم حركات هجرة كثيرة في أرجاء مختلفة من الكرة الأرضية خلال قرون طويلة، لكن دعونا نركز على العصر الحديث، عندما كانت أوروبا تشهد موجات من الهجرة في جميع الاتجاهات، حيث هاجر الأوروبيون إلى العالم الجديد لاكتشافه وتعميره عبر إبادة سكانه الأصليين، وإلى العالم القديم "المتخلف والبربري" كما كانوا يسمونه "تبريراً لاستعماره" بهدف الاستيلاء على موارده، الطبيعية والبشرية.
وهناك إجماع بين المؤرخين الغربيين أنفسهم على أنه من غير المنطقي أبداً التعامل مع أزمة الهجرة المعاصرة بعيداً عن جذورها الأولى وأسبابها الممتدة، وكلاهما مرتبط بالاستعمار الأوروبي (الشمال) لنصف الكرة الجنوبي. ففي بحث أكاديمي عنوانه "دراسات الهجرة والاستعمار"، منشور على موقع جامعة أوكسفورد، يناقش الكاتبان لوسي ميبلين وجو تيرنر قضية الهجرة من خلال عدسة حقبة الاستعمار "وآثارها التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا".
والفكرة نفسها أكدتها مئات الدراسات وآلاف المقالات، إذ دعا مقال نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية عام 2016، بعنوان "الاستعمار الأوروبي سبب أزمة اللاجئين والهجرة"، رصد كيف أن استعمار القوى الأوروبية للقارتين الآسيوية والإفريقية، ثم المشاركة الفعالة في إشعال الحروب الأهلية بعد الاستقلال هما السبب الرئيسي وراء الموجات المتلاحقة من اللاجئين والمهاجرين.
وربما يتبادر إلى الذهن سؤال قد يبدو منطقياً للبعض: إذا كان الاستعمار قد انتهى منذ أكثر من 70 عاماً، فكيف يكون السببَ في الأزمات التي تضرب نصف الكرة الجنوبي حتى اليوم وتنتج موجات متلاحقة من اللجوء والهجرة، شرعية كانت أو غير شرعية؟
لكن حقيقة الأمر هي أن التدخل الغربي في شؤون تلك الدول، واستمرار النفوذ في المستعمرات السابقة هما السبب الرئيسي والمحرك الأول للاضطرابات والحروب الأهلية والانقلابات التي تعاني منها المستعمرات السابقة، وهي حقيقة ثابتة لا جدال فيها.
لكن قبل الخوض في تفاصيل موجات الهجرة الكبرى نحو الشمال، دعونا نوضح ما تعنيه الهجرة، شرعية كانت أو غير شرعية، واللجوء بأنواعه والنزوح بأنواعه.
ما هو تعريف الهجرة؟
التعريف الاصطلاحي للهجرة هو التعبير عن حركة الأفراد وانتقالهم من موطنهم الأصلي إلى مكان آخر بهدف الاستقرار فيه والبحث عن معايير حياتية أفضل، وتنقسم الهجرة بشكل عام إلى قسمين رئيسيين: الأول الهجرة الخارجية، وهي انتقال الأفراد من دولة إلى أخرى بهدف الاستقرار فيها كمقيمين دائمين أو مواطنين يتمّ منحهم جنسية البلد بعد فترة معيّنة.
وبالتالي فإن السفر بغرض السياحة أو الدراسة أو حتى العمل لا يندرج تحت تعريف الهجرة أو مفهومها، رغم أن الانتقال من دولة إلى أخرى بغرض الدراسة أو العمل قد يمثل الخطوة الأولى نحو الهجرة.
أما القسم الثاني من الهجرة فهو الهجرة الداخلية، وأبرزها الانتقال من القرى إلى المدن بحثاً عن ظروف معيشية أفضل، أو العكس كأن ينتقل الأفراد من المدينة إلى القرى بحثاً عن الهدوء أو نمط حياتي أبطأ في وتيرته.
ما هو اللجوء؟ اللجوء شكل من أشكال الهجرة أيضاً، وأبرز أسبابه أو أنواعه هو اللجوء السياسي، حيث يلجأ معارض سياسي يتعرض للاضطهاد في بلده الأم إلى دولة أخرى، وهناك أيضاً اللجوء هرباً من الاضطهاد الديني أو العرقي، أو اللجوء الإنساني بشكل عام.
وما هو النزوح؟ النزوح أيضاً قسمان: الأول نزوح داخلي ويقصد به انتقال جماعي أو فردي من منطقة ما إلى منطقة أخرى داخل حدود الدولة ذاتها، سواء هرباً من اضطرابات مسلحة أو كارثة طبيعية كالزلازل والبراكين وغيرها، وأحياناً يكون النزوح إجبارياً تفرضه الدولة على بعض مواطنيها حتى تخلي المنطقة لاستغلالها في مشاريع تندرج تحت بند "المصلحة العامة". أما النزوح الخارجي، فهو فرار جماعي من منطقة أو بلد ما، تشهد حرباً أهلية أو صراعاً مسلحاً أو حتى كوارث طبيعية أو أسباب مناخية، على سبيل المثال.
أسباب الهجرة.. الهروب من حرب أو البحث عن لقمة العيش
يعتبر البحث عن الأمن، أو النجاة من خطر داهم هما السبب الرئيسي للهجرة، وبالتالي فعندما تشهد منطقة أو بلد ما حرباً أو نزاعاً مسلحاً أياً كانت أسبابه، يهرع المدنيون إلى الهروب من تلك المناطق والهجرة إلى بلد آخر بحثاً عن الأمان. وربما تكون هجرة السوريين المثالَ الأبرز في هذا السياق خلال السنوات الأخيرة.
وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على منطقة الشرق الأوسط وقارة إفريقيا وبعض مناطق قارة آسيا، فسنجد أن الحروب بأنواعها والنزاعات المسلحة منتشرة بشكل لافت وتمثل أحد الأسباب الرئيسية وراء موجات الهجرة المتتالية خلال القرن الحالي. فالغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق أطلق موجات من الهجرة من البلدين ومن البلدان المجاورة لهما، والتي تأثرت بالأوضاع الأمنية المنهارة هناك نتيجة للغزو.
والأمر نفسه كان ولا يزال موجوداً في بلدان أخرى مثل ليبيا واليمن وسوريا ولبنان ومنطقة الساحل الإفريقي، وكلها باتت دولاً طاردة لمواطنيها الذين أصبحت الهجرة الخارجية بأنواعها ملاذَهم الأول نجاة بأنفسهم من أتون الصراعات المشتعلة.
لكن السنوات الأخيرة شهدت عاملاً آخر لم يكن في الحسبان، وهو التداعيات الكارثية لثلاث أزمات كبرى ضربت العالم في آن معاً تقريباً: أولاها جائحة كورونا، ثم الحرب في أوكرانيا، ومعهما خرج التغير المناخي عن السيطرة، لتتفاقم الأوضاع الاقتصادية بصورة لا يمكن وصفها بشكل دقيق ومفصل، فضحاياها فقراء مهمشون ليسوا على خارطة الصراع بين القوى الكبرى في العالم.
وهكذا أصبحت مصطلحات مثل الهجرة السرية أو الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر وتهريب البشر شائعة الاستخدام، بعد أن ازدادت الظاهرة شيوعاً وانتشاراً في الفترة الأخيرة على وجه الخصوص، فما المقصود بالهجرة غير الشرعية؟ هي عملية الهجرة إلى بلد ما بشكل سرّي وبطريقة غير مشروعة تتعارض مع قوانين الهجرة التي تفرضها الدولة المستهدفة بالهجرة. ولا تختلف أسباب الهجرة غير الشرعية عن أسباب الهجرة القانونية كثيراً، لكن الأفراد غالباً ما يلجأون إليها حينما يفشلون في استيفاء شروط الهجرة القانونية إلى بلد معيّن، ومع ازدياد الضغوطات، وسوء الظروف المعيشية في أوطانهم، يتجهون إلى الخروج من بلدانهم بطريقة غير شرعية، سواءً بالسفر إلى الخارج قانونياً (عن طريق تأشيرة سياحية مثلاً) ومن ثمّ البقاء في البلد المضيف بشكل غير قانوني. أو من خلال الهجرة مباشرة في القوارب والمراكب الصغيرة إلى البلدان القريبة نسبياً من البلد الأمّ.
وتجمعت عوامل كثيرة معاً لتتسبب في انتشار تلك الطرق القاتلة للهجرة غير الشرعية عبر مسارات باتت تعرف بطرق الموت، من الأسباب سالفة الذكر إلى موقف الاتحاد الأوروبي المتشدد من فكرة استقبال مهاجرين جدد من الأساس، ليصبح لدينا ما يعرف بأزمة المهاجرين أو ملف الهجرة كما يسميه الساسة في أوروبا، والذين أصبح هذا الملف تحديداً شغلهم الشاغل، ولهذا سبب مباشر مرتبط بالصعود الصاروخي لأحزاب اليمين الشعبوي المتطرف الكاره للمهاجرين بشكل عام، حتى وإن كانوا من الجيل الثالث أو الرابع ويحملون جنسية تلك البلدان.
أوروبا وموقفها من الهجرة (الترحيب)
في البداية، أي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، كانت الشعوب الأوروبية أكثر شعوب العالم هجرةً وتنقلاً من بلدانهم إلى بلدان أخرى، وحتى قبل ذلك. فمنذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين، كانت دول أوروبية مثل اليونان وإيطاليا والنرويج والسويد والدنمارك وبلجيكا والبرتغال وإسبانيا والمملكة المتحدة مصادر الهجرة الرئيسية في العالم.
هاجر عدد كبير من مواطني تلك البلاد إلى الأمريكتين وأستراليا (العالم الجديد) وإفريقيا (العالم القديم)، واستقر كثير منهم في جنوب إفريقيا حيث أقاموا جمهورية قائمة على الفصل العنصري بشكل كامل. وخلال منتصف القرن التاسع عشر، وقّعت الدول الاستعمارية الأوروبية اتفاقية برلين، التي قسموا من خلالها قارة بأكملها -هي قارة إفريقيا- كمناطق نفوذ بينهم، استولوا من خلالها ليس فقط على خيرات القارة من الموارد الطبيعية؛ بل أيضاً على سكانها!
وحقيقة الأمر هنا هي أن قصة النهب الأوروبي لإفريقيا كانت قد بدأت منذ نحو سبعة قرون، حين احتلت البرتغال مدينة سبتة المغربية عام 1415. وكانت تلك المرحلة الأولى تحمل عنواناً بارزاً هو "سرقة أهل إفريقيا"، والسرقة هنا ليست مجازية بل حرفية، فعلى مدى أكثر من أربعة قرون كانت تجارة الرقيق المهنة الأساسية التي امتهنتها الدول الأوروبية في ما يتعلق بالقارة السمراء.
الأرقام والإحصائيات الخاصة بنهب البشر رصدها كُتاب وإعلاميون ومؤرخون غربيون، وليس أفارقة فقط. هوارد فرينش، كاتب رأي لدى مجلة Foreign Policy وأستاذ في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا الأمريكية، وهو متخصص في مجال التاريخ الإفريقي، وله كتاب عنوانه Born in Blackness: Africa, Africans, and the Making of the Modern World, 1471 to the Second World War (ميلاد في سواد: إفريقيا والأفارقة وبناء العالم الحديث من عام 1471 وحتى الحرب العالمية الثانية).
وفي هذا الكتاب، يتناول هوارد بالرصد والتأريخ فصلاً واحداً من فصول ما نهبته أوروبا من إفريقيا، وهو فصل الديموغرافيا، أو استنزاف أعداد هائلة من أهل إفريقيا لغرض توفير عمالة مُولِّدة للثروة في إطار العبودية للغرب، وتأثير ذلك على القارة السمراء.
ويُعَد التوصل إلى حساب نهائي لهذا أمراً صعباً للغاية، وقد لا يكون ممكناً أبداً. لكن ما هو معلوم بالفعل يُوضِّح بما فيه الكفاية أنَّ إفريقيا كانت تتعرَّض لصدمة من الناحية الديموغرافية، في الوقت نفسه الذي كانت فيه أوروبا بصدد الشروع في بناء "الحضارة الغربية".
ما نعلمه هو أنَّ قرابة 12.5 مليون إفريقي قد شُحِنوا مُقيَّدين بالسلاسل عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكتين، وكان مصيرهم جميعاً تقريباً العمل في المزارع. اختير أولئك الناس بالتحديد، لأنَّهم كانوا في أوج حياتهم البدنية والإنجابية، وقد خسرت إفريقيا عملهم وعمل نسلهم المحتمل على نحو لا رجعة فيه، ما فرض شكلاً لم يُعترَف به بعد من الإفقار الجماعي.
ولا بد أن نضيف إلى ذلك أعداد الناس الذين قُتِلوا في الفوضى، التي أطلقها الأوروبيون عمداً في إفريقيا من أجل الإبقاء على تغذية حركة اتّجار قوية في البشر، وكذلك الإبقاء على معدلات الوفيات الرهيبة على متن المقابر العائمة التي كانت تُمثِّلها سفن العبيد. فوفقاً لأحد التقديرات، التي استشهدتُ بها في كتابي، فإنَّ 42% فقط من الأفارقة الذين وقعوا في شَرَك هذا الاتجار العابر للقارات في البشر، ظلوا على قيد الحياة بما يكفي لبيعهم في العالم الجديد.
إذا افترضنا إذاً أنَّ خسارة إفريقيا تُقدَّر ب25 مليون شخص خلال هذه العملية، فلا يمكن فهم جسامة هذا الرقم إلا بالنظر إلى تقديرات إجمالي سكان القارة خلال ذروة حقبة تجارة الرق. وتتأرجح التقديرات هنا حول رقم 100 مليون نسمة في القرن الثامن عشر.
وإذا ما قفزنا سريعاً إلى العصر الحديث، فسنجد أن أوروبا التي دمرتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، فتحت أبوابها على مصراعيها لتستقبل مهاجرين من إفريقيا وآسيا لأغراض تعمير القارة المدمرة، وكانت الهجرة هنا مرحَّباً بها بطبيعة الحال، وكانت سهلة وميسورة وشرعية؛ بل تحمل إغراءات كثيرة بحياة أفضل وأجور أعلى مما كان المهاجرون يتقاضونها في بلدانهم الأصلية، هذا إن وجدوا عملاً من الأساس!
ولم يتوقف النهب الأوروبي لإفريقيا، من سرقة البشر والموارد الطبيعية والخيرات، بانتهاء الاستعمار في منتصف القرن العشرين تقريباً، بل استمر تأثير ذلك الاستعمار من خلال الحدود التي وضعها الأوروبيون بشكل يضمن وجود التوترات طوال الوقت، ووقعت اتفاقيات (كما فعلت فرنسا) تضمن استمرار النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي أيضاً.
وأورد تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية تفاصيل مرعبة عما فعلته أوروبا بالقارة الإفريقية على جميع المستويات، وكيف أن تداعيات الاستعمار الأوروبي والاستعباد لأهل القارة السمراء لا تزال محركاً أساسياً وراء ملف الهجرة رغم تجاهل السياسيين الأوروبيين لذلك التاريخ المخزي.
وتساءلت الصحيفة: كم عدد مَن يعلم أي شيء في الغرب بشأن قبيلة هوتنتوت؟ وكم عدد مَن سمعوا أنَّ فظائع الملك ليوبولد، الذي فعل الكثير للغاية من أجل جعل بلجيكا دولة غنية، قد أسفرت عن مقتل ما يُقدَّر عددهم ب10 ملايين إفريقي؟
الإجابة بالنفي بطبيعة الحال، فما ارتكبته أوروبا بحق إفريقيا وأهلها لا تعرف عنه الأجيال الأوروبية شيئاً من الحقيقة، إذ يتم تصوير ما حدث على أنه "تنوير"، وتُسهم جميع أوجه الثقافة والتعليم والسينما في تكريس تلك الصورة الزائفة، التي لا تمتُّ إلى واقع ما حدث بِصلة. فقد انطلق الهجوم الاستعماري الأوروبي على إفريقيا، والذي بدأ عقب مؤتمر برلين، لمحو الممالك الإفريقية عمداً في فترة حاسمة لما ينبغي اعتباره تشكيل الدولة الحديثة.
صعود اليمين المتطرف
مع مطلع القرن الحادي والعشرين بدأت المؤشرات على تغير موقف أوروبا من الهجرة واستقبال مزيد من المهاجرين، فعدد سكان العالم كان قد ارتفع بشكل عام وأصبحت أوروبا غير محتاجة لأعداد كبيرة من العمال أو المهنيين للتعمير وبناء حضارتها ووضع الأسس لرفاهية شعوبها، كما كان الحال من قبل. لكن ظلت عملية الهجرة الشرعية أو حتى غير الشرعية مسألة لا تظهر عادة في الشأن العام، حتى بدأت الأحزاب والسياسيون الذين يصنفون على أنهم تيار اليمين المتطرف في العودة لتطل برأسها من جديد. فتلك الأحزاب النازية والفاشية كانت تحكم أوروبا بالفعل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
فالسمة الرئيسية الغالبة على الجماعات والأحزاب المنضوية في إطار اليمين بشكل عام، سواء أكانت أحزاباً متطرفة تعمل في إطار عملية ديمقراطية أم أخرى معارضة لها، هي الخطاب الذي يتحدث باستمرار عن وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد مجموعة "أصلية" من قبل مجموعات تعتبر دخيلة على المجتمع، وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية، ومن ثم تأتي معارضة اليمين المتطرف للهجرة.
وفي هذا السياق، ومع صعود أحزاب اليمين المتطرف إلى قمة هرم السلطة في كثير من الدول الأوروبية، أصبح ملف الهجرة يحتل صدارة القضايا في القارة العجوز وتنامت بشكل لافتٍ المشاعر المعادية للمهاجرين وطالبي اللجوء، فأصبحت أوروبا في مواجهة مأزق ضخم بين ما ترفعه من شعارات أخلاقية وسعي السياسيين إلى كسب أصوات اليمين المتطرف.
ففي إيطاليا، أصبحت القضية الرئيسية لرئيسة الوزراء اليمينية، جورجيا ميلوني، هي إغلاق أبواب أوروبا تمام في وجه المهاجرين، وفي سبيل ذلك تحشد الاتحاد الأوروبي ككل للتحرك في هذا الاتجاه، فوقعت اتفاقيات مع ليبيا وتونس وقبلهما الإمارات وفي الطريق مصر، والهدف الرئيسي هو تشجيع حكومات تلك الدول على منع الهجرة غير الشرعية، خصوصاً أن مسار "البحر المتوسط" أو طريق الموت أصبح أكثر الطرق استخداماً لنقل المهاجرين غير الشرعيين إلى السواحل الأوروبية، في إيطاليا واليونان وقبرص.
ومؤخراً اتفقت دول الاتحاد الأوروبي على قواعد جديدة تنظم ملف الهجرة واللجوء، بعد انقسام استمر منذ عام 2015، أو عام موجة اللاجئين السوريين، عندما وصل أكثر من مليون شخص، معظمهم فروا من الحرب في سوريا، إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
وخلال تلك السنوات، تمثلت المشكلة في مطالبة البلدان الواقعة على الحافة الجنوبية للاتحاد الأوروبي، ومنها إيطاليا واليونان، بمزيد من المساعدة حتى تستطيع التعامل مع من يَصلون إلى شواطئها، بينما رفضت دول بشرق الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا والمجر، استضافة أي شخص من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ذات الأغلبية المسلمة.
وتفاقمت الأزمة مع شحن الأحزاب اليمينية والشعبوية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، البالغ عدد أعضائه 27 دولة، الجدل بخطابها المناهض للهجرة. ووافقت ألمانيا وإيطاليا على مشروع الإصلاحات، بينما رفضته بولندا والمجر، أي إن القرار لم يحظَ بالإجماع، إلا أنه حصل على أغلبية مؤهلة من الدول الأعضاء، التي تمثل 65% على الأقل من سكان الاتحاد الأوروبي. وترفض بولندا والمجر الامتثال لقواعد الهجرة المشتركة في الاتحاد الأوروبي، والتي تم إقرارها عام 2015.
وحسب الإجراءات الحدودية الجديدة التي تم الاتفاق عليها، سيجري فرز طالبي اللجوء الذين ليست لديهم فرصة للحصول على الحماية؛ نظراً إلى أنهم ينحدرون من دول آمنة نسبياً، في غضون 12 أسبوعاً كحد أقصى، ومن ثم العمل على ترحيلهم، عكس ما كان يحدث من استمرار طالبي اللجوء لسنوات حتى يتم البت في طلب اللجوء. وينطبق هذا الأمر على جميع البلدان التي يقل معدل الاعتراف بلجوء مواطنيها في الاتحاد الأوروبي عن 20% كباكستان وألبانيا وبعض دول إفريقيا.
ووفق القواعد الجديدة، يمكن إرجاع طالبي اللجوء المرفوضين من الحدود الخارجية للاتحاد بسرعة إلى بلدانهم الأصلية أو إلى بلد ثالث. وفي المستقبل، يتعين أن تكون الدول المُرحِّلة، أي اليونان وإيطاليا، قادرة على أن تقرر بنفسها ما إذا كان الوضع في الدول التي يتعين الترحيل إليها مناسباً أم لا، وبهذا ينتهي العمل بالقائمة الموحدة للدول الآمنة التي يقرها الاتحاد الأوروبي وتنطبق على جميع دوله.
وستنطبق الإجراءات الجديدة التي تم الاتفاق عليها على الأطفال والقصر غير المصحوبين بذويهم، أي إنه حتى الأطفال أو القصر يمكن ترحيلهم إلى بلدانهم على الفور، وهو تغيير جذري في سياسات الاتحاد الأوروبي.
مسارات الهجرة غير الشرعية
تعتبر أوروبا، بحسب تقرير للمنظمة الدولية للهجرة، موطناً لأكبر عدد من المهاجرين من جميع مناطق العالم، إذ يقدر عدد المهاجرين في القارة العجوز بأكثر من 70 مليون نسمة، لكن منذ أن بدأت أوروبا في إغلاق أبوابها بوجه الساعين إلى الهجرة أو اللجوء إليها بطرق قانونية، ازدهرت الهجرة غير الشرعية وانتشرت بشكل لافت.
فلا قيظ الصحراء ولا صقيع الغابات ولا أمواج البحر ولا حتى عجلات الطائرات تُثني من عَقدوا العزم على الهجرة من أوطانهم سعياً وراء تحقيق حلم العيش في أوروبا، لكن الثمن قد يكون باهظاً، حيث فقد 50 ألف شخص حياتهم ذاتها خلال الرحلة القاتلة منذ عام 2014، وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، وحدثت معظم الوفيات في طرق الهجرة المؤدية إلى أوروبا.
إذ إنه إضافة إلى الأحوال الجوية القاهرة، وسوء المعاملة التي يتعرض لها المهاجرون من قِبل عصابات الاتجار بالبشر، هناك سبب آخر للوفاة على طرق الهجرة، ويتمثل في السفر خلسة، حيث يتم ذلك بوسيلة نقل تسمح للمهاجرين بالتخفي عن الأنظار، بحسب ما رصده تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
وعلى الرغم من أن مخاطر الهجرة غير النظامية كثيرة، لدرجة يصعب حصرها، فإن ذلك لا يمنع البعض ممّن تقطّعت بهم سبل العيش في أوطانهم، من المخاطرة و"ركوب الصعب" كما يقول المثل العربي. فمخاطر الهجرة غير النظامية قد تتمثل في الوقوع في براثن عصابات الاتجار بالجنس أو التعرض للاستغلال والابتزاز المادي، إضافة إلى أنه خلال رحلات الهجرة السرية يمكن أن يواجه الناس أسوأ أنواع الانتهاكات على أيدي الشبكات الإجرامية ومهربي البشر.
وقد تكون رحلات الهجرة غير النظامية أو غير الشرعية محفوفة بالمخاطر بسبب الطقس على سبيل المثال، إذ أوردت تقارير كثيرةٌ حدوث وفيات في صفوف المهاجرين، بسبب حرارة الشمس في الصحراء، أو البرد الشديد في الغابات، أو غرقهم في البحر، وتتصدر هذه الأخبار عناوين الصحف كل أسبوع، لكن لا أحد يحرك ساكناً.
لكن على الجانب الآخر، دوافع الهجرة قوية، سواء كان النجاة من مناطق الحروب والاضطرابات المسلحة، أو الهروب من الطقس القاتل وانعدام سبل الحياة، أو حتى البحث عن فرصة لحياة أفضل، كما في حالات الآلاف من الشباب المصريين، الذين يسلكون أخطر الطرق على الإطلاق وهو البحر المتوسط.
وكانت صحيفة The Guardian البريطانية قد نشرت تقريراً يلقي الضوء مرة أخرى على أخطر طرق الهجرة في العالم، في أعقاب كارثة غرق قارب صيد يحمل أكثر من 700 مهاجر غير شرعي قرب سواحل اليونان، خلال يونيو/حزيران 2023، وفقدت أغلبيتهم الساحقة حياتهم ثمناً لحلم الهجرة إلى أوروبا.
وبحسب تقرير الصحيفة البريطانية، منذ أن أطلقت المنظمة الدولية للهجرة مشروع المهاجرين المفقودين في عام 2014، سُجِّل ما يُقدَّر ب27 ألف شخص يحاولون الوصول إلى أوروبا، على أنهم لقوا حتفهم أو اختفوا أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط. ووقعت أكثر من 21 ألف حالة وفاة على ما يسمى بطريق وسط البحر الأبيض المتوسط من ليبيا أو تونس شمالاً إلى اليونان أو إيطاليا، وهو معبر قد يستغرق عدة أيام وغالباً ما يعبره المهاجرون في قوارب غير صالحة للإبحار ومكتظة بشكل خطير.
كما كشفت الكارثة الأكبر على هذا الطريق القاتل أن ما جرى على الأرجح لن يكون الحادث الأخير، في ظل محاولة كل طرف له علاقة بالقصة إلقاء المسؤولية على أطراف أخرى وتبرئة ساحته، إذ قال ماتيو بيانتيدوزي، وزير الداخلية الإيطالي، إن القارب الذي تحطّم في المياه الدولية قبالة اليونان موجود في منطقة البحث والإنقاذ التي تقع تحت مسؤولية أثينا.
وأبلغ بيانتيدوزي قناة (سكاي تي.جي.24) التلفزيونية الإيطالية أن "الحادثة وقعت ضمن منطقة البحث والإنقاذ اليونانية، في نطاق المسؤولية المحددة لهذا البلد"، مستدركاً: "لكن هذا لا يعني إلقاء اللوم على اليونان، بل إن الأمر يتعلق فقط بتحديد مناطق المسؤولية".
بينما قال متحدث باسم خفر السواحل اليوناني، إن المهاجرين على قارب الصيد المنكوب أرادوا الذهاب لإيطاليا ورفضوا المساعدة اليونانية. لكن شهادات الناجين وجهت أصابع الاتهام لحرس السواحل في اليونان، وزعم بعضهم أن اليونانيين أغرقوا القارب عمداً!
في كل الأحوال، لا يُعدم الساعون إلى الهجرة وسائل وحيلاً يبتدعونها لتحقيق حلم الهجرة خلسة، أو أي وسيلة تمكنهم من الوصول إلى وجهتهم، التي عقدوا العزم على الوصول إليها، متجاهلين المخاطر التي تترتب على هذه الطرق، فهناك من يلجأون إلى الاختباء في أماكن خطرة بالمركبات والسفن والقطارات، أو حتى في مخابئ عجلات الطائرات، وهي من بين أخطر المغامرات التي يمكن أن يقدم عليها المهاجر.
وهذه الرحلات لا تنظمها فقط عصابات تهريب البشر، بل في أحيان كثيرة يختارها المهاجرون طواعيةً، اعتقاداً منهم أن اختيار التخفي سيكون أهون وأكثر احتمالاً للنجاح، بينما الواقع غير ذلك، إذ أثبتت التجارب أن ذلك يكون في الأغلب طريقاً مختصراً نحو حتفهم.
لماذا تتحمل أوروبا وحدها مسؤولية ما يحدث؟
تشير الصورة العامة إلى أنه لا توجد حلول يمكنها أن تقضي على ظاهرة الهجرة بشكل كامل، ففي نهاية المطاف الحديث هنا عن نشاط بشري موجود منذ فجر التاريخ الإنساني على الأرض وسيظل مستمراً.
لكن الحديث بالأساس عن قضية الهجرة كما تراها أوروبا تحديداً، فكيف يمكن تقليل موجات الهجرة هذه؟
تعليق معبّر على كارثة غرق قارب الصيد، إذ قال: "كل حياة تُفقد مأساة. كان يمكن تجنب كل تلك الوفيات من خلال توفير طرق أكثر أمناً لدخول الناس المجبرين على الهرب من مناطق الصراع والمعرضين للاضطهاد".
لكن كيف يمكن إقناع أوروبا، التي باتت في قبضة اليمين المتطرف، بتحمل مسؤولياتها عن كارثة الهجرة؟ فالخطوة الأولى على هذا الطريق هي الاعتراف بأن الأسباب الكامنة وراء سعي الملايين للجوء إلى أوروبا -مثل الحروب والكوارث الطبيعية والتغير المناخي وعدم المساواة، ونقص الأمن الغذائي- لن تختفي بين ليلة وضحاها، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
فأوروبا هي المتسبب الأول في أغلب، إن لم تكن جميع تلك الأسباب الكامنة وراء الهجرة اليوم. وكما كتب هوارد فرينش، "لولا الاستعمار الأوروبي، لكان بإمكان المرء أن يتخيل إفريقيا مختلفة تماماً اليوم: ليست قارة مؤلفة من 54 بلداً مُصمَّمة خارجياً وحدودها مُرسَّمة تعسفياً، ليكون العديد منها بلداناً صغيرة أو حبيسة. بإمكان المرء أيضاً أن يتخيل قارة تعاني اختلالاً وظيفياً سياسياً أقل بكثير، لأنَّ شعوب إفريقيا كان من الممكن أن تُمنَح المجال لتشكيل وتعميق مناهجها الخاصة في الترتيبات المؤسسية للحكم.
وأحد الأمثلة المثيرة للاهتمام في هذا السياق، يأتي من غانا، حيث أنشأت عرقية الفانتي كونفيدرالية واسعة عام 1868، قادت إلى كتابة دستور محلي جرى التوصل إلى شكله النهائي في عام 1871. أوجدت هذه الترتيبات المدفوعة من الداخل رئيساً ملكاً، ومجلساً للملوك والأعيان، وجمعية وطنية. كان لكلٍّ من البريطانيين والهولنديين والدنماركيين مصالح اقتصادية مهمة في المنطقة، ونظروا إلى هذه الحلول المحلية باعتبارها تهديداً لأرباحهم وعملوا بجد لتقويض أي شيء يُشتَمُّ منه رائحة بناء المؤسسات المحلية.
وفي ظل هذه الضغوط تفكَّكت كونفيدرالية الفانتي، لكنَّ أحلام السيادة التي أطلقت العنان لها استمرت فترة طويلة بعدها. ففي العقود الأولى من القرن العشرين، دأب مفكر لامع في منطقة ساحل الذهب يُدعى جوزيف إفرايم كاسلي هايفورد على جهود لمحاولة جمع مستعمرات غرب إفريقيا الناطقة باللغة الإنجليزية معاً من خلال الحكم تحت إطار المؤسسات المحلية، مُعتبِراً كونفيدرالية الفانتي نموذجاً. بل كان مستعداً حتى لأن يبقى وطنه جزءاً من الإمبراطورية البريطانية، وأصرَّ فقط على الحكم الذاتي بأفكاره وأشكاله، لكنَّ بريطانيا رفضت بالطبع.
كما يعتبر إرث الاستعمار الفرنسي هو الأكثر بشاعة على الإطلاق، بحسب أغلب المراقبين والمؤرخين الفرنسيين أنفسهم، وبحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "فولتير نشر الظلام وليس النور، وعلى فرنسا التوقف عن عبادته". لكن وعلى الرغم من أن تاريخ فرنسا الاستعماري لا يزال يمثل جرحاً غائراً في أجساد ضحاياه، سواء في آسيا أو إفريقيا، فإن العنصرية هي الأخرى باتت تمثل علامة استفهام كبرى في بلد يتباهى، أكثر من غيره من الدول الغربية، بعلمانيته، التي تتناقض شكلاً ومضموناً مع مفهوم العنصرية. فالعلمانية، كما يقول الدستور الفرنسي، لا تعني فقط الفصل بين الدولة والدين، بل تعني ضمان حرية الفرد في المعتقد طالما لا تمثل هذه الحرية تعدياً على المجتمع أو خطراً على الآخرين، لكن الحوادث المتكررة من استهداف عناصر من الشرطة الفرنسية "لمواطنين فرنسيين" بسبب عرقهم أو عقيدتهم، تظل لغزاً إجابته معروفة لدى أي مراقب، باستثناء السياسيين الفرنسيين أنفسهم!
الخلاصة هنا هي أن موجات الهجرة إلى الشمال لم تعد مدفوعة فقط بالحروب والاضطرابات السياسية، بل أصبح المناخ المتغير وتداعياته والأوضاع الاقتصادية الخانقة أسباباً أخرى أكثر قوة وانتشاراً، بينما في المقابل توصد أوروبا الأبواب الشرعية في وجوه المهاجرين، فتنفتح على مصراعيها مسارات الهجرة غير الشرعية أو "أفخاخ الموت"
والسؤال هنا: إلى متى؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.